ما أكثر ما تطرق كلمة (الألفة) الأسماع..! وما أكثر ما تتردد على الشفاه..! وما أقل من يعي مدلول الكلمة الخطير، وأثرها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل تجمع بشري..! ولا يَبني المجتمع المتماسك الصامد لكل تحدّ بل الأمة جمعاء إلا هي .. هي خُلق لو سَاد بين الأفراد لكانت حياة الجماعة جنة على الأرض، ولغاب من الحياة الاجتماعية كل أدوائها، ولتلاشت كل منغصاتها، ووقيت كل عثراتها .. والأمر كذلك في الشأن السياسي للأمة، فالألفة والتلاحم حجر الزاوية في تحقيق الأهداف السياسية لكل مجتمع أو أمة .. وهي عند أهل الدين واجب يأثمون بتركه .. وعند أهل العقل والفهم مصلحة يشْقون إنْ فرّطوا بها .. تَحلو بها الحياة فتكون روضة مُعْشِبة مِلؤها الطراوة، وتغدو بتركها صحراء قاحلة ملؤها اليبوسة.
أوصى بها من لم يدع خيراً إلا دل أمته عليه، فقال عليه السلام: (المؤمن مألفة، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف) وفي رواية: (المؤمن يألف ويُؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس).
ونستطيع إذن أنْ نقول إنّها خُلق المؤمنين، والعكس صحيح..! ومن الألفة أنْ يحرص الناس على التعارف، والتعاون والتقارب، والله تبارك وتعالى يقول: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) .. وما أروعك يا أبا الطيب، أعني المتنبي، يوم أبدعت أيما إبداع في إيصال مفهوم الألفة بصورة شعرية رائعة، لا يملك قارؤها المتفاعل معها، إلا أن يجد نفسه يُردد هذا البيت المشهور، بين الفينة والأخرى، طرباً لتلك الصورة والمعنى الذي تحمله، يقول:
خُلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي مُوجع القلب داميا
ومن عجيب خلق الله، وكل خلقه عظيم عجيب، تلك الفطرة التي غرسها الله في النفس البشرية من الألفة وميل الإنسان إلى التواصل مع بني جنسه، لتكون الحياة على الأرض حلوة، فاعلة خلاقة. ومن يميل إلى غير ذلك، فهو مُخالف لفطرة الله الذي فطر الناس عليها، مائل عنها إلى هوى نفسه، ويكون قد اختار لنفسه معيشة ضنكى، وحياة العذاب والنكد، حين اختار اعتزال بني جنسه والتنكر لإنسانيته .. إلا ما كان من أحكام العزلة التي جاء بها الشرع إذا استحق وقتها، بأدلة وشرائط معروفة، فتغدو العزلة وقتها واجباً شرعياً، لصيانة الحق من عدوى الباطل إذا تحكم الأخير وانتفش، وبقي الحق في تماس معه. وفي ذلك نصوص عديدة نكتفي بالآتي: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا – وشبك بين أنامله – فالزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة).
وإنّ الانغماس في هذا الواقع المُتمرد والشارد عن كل المثل، الذي يسود العصر الذي نعيش، يسلب بعض بني البشر تلك الفطرة السليمة، فيُحِلُّون مكانها من أهوائهم وأطماعهم ونظراتهم الضيقة المنحرفة، ما يُفسد العلائق، ويُبدي العداوات، ويُثير الخصومات، ويُنسيهم الرابطة الأعظم بين بني البشر، والتي يجب أن تلتهم كل الروابط الأخرى، ومن يمثلونها، وتُخرجهم من مسرح الحياة. يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان).
وقد أفلح شاعر المهجر أبو ماضي، بشفافية الشاعر، ونفاذ بصيرته، وأصالة فلسفته، صياغة تلك الحقيقة شعراً، مع صور رائعة معبرة، والأبيات مأخوذة من قصيدة طويلة، حقيقةٍ أن يقرأها ويتأمل معانيها، من جديد، كل محب للشعر.. يقول:
نسي الطين ساعة أنّه طين |
حقير فصال تيهاً وعربد |
وبالرغم من كل ما عرض، وما ذكر من نصوص، ومن قبلها فطرة الله التي فطر الناس عليها، لتحلو حياتهم على الأرض، نرى كثيراً من الناس بدلوا وغيروا، إلا من رحم الله .. وبذلك التغيير والتبديل تغيب فضائل كثيرة، وتتعطل مصالح وفيرة، ويسير ركب الحياة إلى الوراء، وينحسر السعادة والوداد، ويسود القطيعة والشقاء..! ويجد الناس أنفسهم ينشدون مع المتنبي:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً |
وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا |
فهل عودة إلى فطرة الله التي لا تبديل لها..؟ وهل رجعة إلى أنْ تسود بين الناس الألفة حتى يحظوا بخيرية وعد بها النبي عليه السلام..؟ وهل يضع العقلاء والحكماء والمصلحون أيديهم على الداء الوبيل الذي استشرى في الأمة فشلّ كل قدراتها، وجعلها تعيش مرحلة الغثائية وتداعي الأمم..؟ إن قلنا نعم، فالمستقبل واعد..! وإلا فسيُنشد الكل بلسان الحال والمقال:
فرجي الخير وانتظري إيابي |
إذا ما القارظ العنزي آبا |