العداوات لدين الله كثيرة، ومن مواقع مُتعددة .. وإذا كان لا بُد من أنْ نسأل لماذا؟ فأجدني عزوفاً عن كلام مكرور، وفلسفات أرضية، انغمسنا فيها طويلاً ولم تُجْدِنا نفعاً، وقد آن الأوان لندفع عن عقيدتنا، ونذب عن ديننا بكلام الله ورسوله، ولو كره الكافرون والمبطلون..!
يقول ربنا: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ).
فبين الحق والباطل حربٌ لا تضع أوزارها إلى يوم القيامة .. وإذن، لم يعد همنا، ولا ينبغي، أنْ يكون إطالة الوقوف مع المكذبين، المكابرين والمعاندين، بل يسعنا معهم قول ربنا: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وقوله: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) .. إنّما نجعل همنا حماية وصيانة الضعفاء من المسلمين، ممن هم أقرب، وممن شُغلنا عنهم بأولئك، من أنْ يجتاحهم الضخ المُضلل، آناء الليل وأطراف النهار، مما أسماه ربنا تبارك وتعالى زخرف القول، وهو ألصق ما يكون بصناعة العصر، القائمة على التأويل والتبديل والتضليل .. ومن جميل القول ما قاله ابن عاشور في التحرير والتنوير في تفسير التعبير القرآني (زخرف القول)، يقول رحمه الله:
(وَأَفْهَمَ وَصْفُ الْقَوْلِ بِالزُّخْرُفِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّحْسِينِ وَالزَّخْرَفَةِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْقَوْلُ إِلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى مَا يُكْسِبُهُ الْقَبُولَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُفْضِي إِلَى ضُرٍّ يَحْتَاجُ قَائِلُهُ إِلَى تَزْيِينِهِ وَتَحْسِينِهِ لِإِخْفَاءِ مَا فِيهِ مِنَ الضُّرِّ، خَشْيَةَ أَنْ يَنْفِرَ عَنْهُ مَنْ يُسَوِّلُهُ لَهُمْ ، فَذَلِكَ التَّزْيِينُ تَرْوِيجٌ يَسْتَهْوُونَ بِهِ النُّفُوسَ ، كَمَا تُمَوِّهُ لِلصِّبْيَانِ اللَّعِبَ بِالْأَلْوَانِ وَالتَّذْهِيبِ).
آن لنا أنْ نُعيد للساحة، أساليب جديدة للدعوة فعالةً، لأنّها تَدَع الجدل والأخذ والرد، وتُعرض عن فنون الحوار والمناظرة، وتشقيق الكلام وتقليب الأمور .. تُخاطب فِطرة الناس التي فطرهم عليها خالقهم، وغرزها في أصل خلقتهم، وجعلها حجته عليهم .. إنّها في بني البشر مُسْتَقبِلات الحق الذي سينزل إليهم من ربهم، بها يستشعرونه، ويهتدون إليه، إنْ لم يحجبوا تلك الفطرة بالهوى .. وإلا فالحجة قائمة، والمسؤولية واضحة، قال عليه السلام: (النَّاسُ غَادِيَانِ: فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها).
والأصل أنْ يتحرك الناس إلى خالقهم باندفاع ذاتي، وليس بشد خارجي، وشتان بين الأمرين .. وهذا المعنى مستقى من التفريق بين الإيمان والإسلام حينما اجتمعا في آية الحجرات: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فالإيمان حركة بدافع ذاتي، والإسلام شد خارجي، لأنّه انقياد ظاهري للجوارح .. وعمل الفطرة هو الذي كان المُحرك الأساس في المسلمين الأوائل، فسهل وصولهم إلى ربهم .. وكان الموقف ينتقل عندهم من الباطل إلى الحق بدقائق لا أكثر، ودون كثرة كلام، ولا طول جدال، خلاف ما أصاب ناسنا اليوم من الفريقين .. فالطيبون ورثوا من القديم علم الكلام، وعولوا عليه، وتقبلوا من الجديد الدعوة إلى الحوار، وانجفلوا إليه .. أما الطرف الآخر، فمستعدٌ لدين من صنع عقله وهواه، لا غيب فيه ولا استسلام، يستوي فيه العقل والوحي، وإن اختلفا فالحُكم للأول .. أما التحرر من الواقع، بكل انحرافه، وهبوطه، فلا سبيل إليه، وبعضهم يرى أنّ الله يتعبدنا به.
دخل الفريقان الحوار بالخلفيات التي ذكرنا، وطال بهم الجدل، ولم يخرجوا بطائل. والنكي أنْ تُسمى تلك المماحكات دعوة إلى الله .. كل ذلك غُيّب من حركتنا في الحياة، الدعوة على بصيرة، والمواقف الأصيلة، فبتنا نطحن الهواء، أو نحرث في البحر..!
أما أوائلنا، فبعد أنْ رضوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، لم يعد يحكم وجودهم، ولا يضبط حركتهم، ولا يقرّ عيونهم إلا النص المُنزل، وهدي النبي المرسل .. مرة بعد أخرى، أُبديء وأُعيد، وأؤكد أنّ أخوف ما يُخاف اليوم على الإسلام وأهله، النزعة العقلية، التي أحيت الاعتزال من جديد، بلبوس أكثر ملاءمة للعصر، وأقدر، بزعمهم، على الإيهام بالصواب. يستفيد من كل معطيات العصر، من علوم واختراعات وإنجازات، تشد إليها العقل الذي وَهَى ارتباطه بالوحي، وخبا إيمانه بالغيب.! حتى قال القائل: (إله العصر هو العلم) .. فغُير الدين وبُدل، وصار بدل الإسلام الواحد، إسلام (ما أنا عليه وأصحابي)، إسلام ذو وجوه متعددة، وله بوابات مختلفة، من أيها شاء الداخل دخل، والخيار مفتوح. حتى حق لصارخ أنْ يصرخ واإسلاماه..! لكنّ المشكلة لا تُحل بالاستغاثة والصراخ .. إنّما بالمراجعة ونقد الذات .. ولنبدأ بدعوة إلى تجديدٍ في الخطاب الديني، وتطويرٍ في الأسلوب الدعوي .. يُقنن الجهد والوقت، ويختصر القول والعرض، ويُلغي المسايرة والمجاملة، ما دام يدعو إلى الحق .. ودعوة الحق ليست استرضاء للخلق، بل استنقاذ لهم من شرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، ووسوسة شياطينهم..!
أؤكد كل ما سبق، وأختزله بمثال:
جاء في صحيح البخاري، عن عمر رضي الله عنه: (أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ).
مقتضى العقل أنّ الحجر لا يضر ولا ينفع، لكن لم يبق عمر منساقاً وراء عقله، بل حدد دور العقل بالنقل، فلما ثبت بالنقل الصحيح تقبيل النبي له، لم يتردد في تقبيله. وباختصار: فقد أكد الفاروق رضي الله عنه بفعله أنّ النقل فوق العقل دائماً، وهو حاكم عليه .. وهذه المقولة، وذاك الفعل من ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عظيمان لأنّهما يُؤسسان في الإيمان لأصلين اثنين:
الأول: أنّ العقل ينتهي دوره حيث يأتي النقل، أي النص من الوحيين، القرآن والسنة الصحيحة، ولن يكون للعقل بعد النقل من دور إلا دوراً واحداً هو استيعاب النقل والعمل بمقتضاه، والدعوة إليه، والدفاع عنه.
الثاني: تأكيد قضية الاتباع متمثلة في قول عمر: (وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) يعني، حكاية لحال عمر، أُقبّلك مخالفاً عقلي، لأنّي رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم قبّلك .. بمعنى أنّ الاتباع يُسقط كل اعتبار عقلي أرضي فلسفي، ويُلغي كل فكر مخالف أو اجتهاد.
ولقد افترى أقوام على الفاروق رضي الله عنه بكتابات وآراء حين اعتبروه مؤسس المدرسة العقلية، ويقصدون تلميحاً وليس تصريحاً، أنّه أثبت للعقل موقعاً مع النقل، ويُريدونه بمفهوم الاعتزال .. وها هو موقف عمر الواضح، الذي لا يقبل تحريفاً، ولا إضافة.
ذاك هو النموذج البشري، الذي يرجو الله والدار الآخرة .. الذي يستدعي النصُّ والاتباعُ فطرته، دون تردد، ودون أنْ يُعيق سرعةَ الاستجابةِ أيُ اعتبار من دواعي الهوى أو الإخلاد إلى الأرض بتبريرات وتعليلات باردة سمجة .. هذا منهج الاتباع الذي مشى عليه عمر والصحابة رضي الله عنهم جميعاً فكانوا النموذج الذي ضُرب به المثل لكل الأمة إلى قيام الساعة، واستحقوا أنْ يقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني) .. وهم خَلق من خلق الله كما نحن .. وما كان بين أيديهم هو الذي بين أيدينا عينه .. غير أنّهم سموا، وأخلدنا إلى الأرض .. واتبعوا وخالفنا الطريق، واتبعنا السبل .. واستجابوا وارتبنا وتربصنا .. ولن يبلغ شأوهم، أو قريباً منهم، إلا من عمل عملهم، واستجاب استجابتهم .. فكان على المحجة كما كانوا.
وليعلم كل أحد، أنّ الدّين الحق ثوابت، لا يُضعفها كر الجديدين، ولا يُغيرها تطور الحياة على الأرض .. فكل ما يجري في الكون سبق في علمه تبارك وتعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِين ) .. وشاء جل جلاله أنْ يستوعب دينه الخاتم، وتُحيط كلمته إلى أهل الأرض، كل ذلك ليكون الدين منهج الحياة، وليس غيره .. فتحلو الحياة على الأرض، ويتحقق الاستخلاف كما أراده الله .. ولكن؟ (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) .. والحمد لله رب العالمين
Top of Form