نحن في شهر رجب، وشهر رجب من الأشهر الحرم، وهي أربعة كما قال ربنا في محكم التنزيل: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).
وقد جاءت الأحاديث النبوية لتُسمي الأشهر الحرم، منها ما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي بكر رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا، أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) … ويُقال: رجب الفرد لأنّه وحده، وليس في سياق الأشهر المتتاليات.
والسؤال الذي من أجله كان هذا الموضوع، ما موقف المسلم من الأشهر الحرم؟ وهل فيها أعمال معينة يجب أو يُندب فعلها فيها؟
المسألة لا تخلو من خلاف بين العلماء .. والذي يترجح عندي بعد البحث: أنّ المسلمين منهيون عن القتال في الأشهر الحُرم، وبكلام أدّق فهم منهيون عن ابتداء القتال، وهذا يعني أمرين: أنْ لا يبدؤوا قتالاً في الأشهر الحرم، أما إذا قاتلهم العدو جاز لهم الرد … وأنّهم إذا بدؤوا القتال خارج الأشهر الحرم ولم ينته القتال شُرع لهم الاستمرار فيه ولو مع دخول الأشهر الحرم.
وقال بعض العلماء إنّ المسلمين مأمورون بالأعمال الصالحة، وتجنب السيئات في الأشهر الحرم، وأسّسوا على ذلك أنّ الحسنات والسيئات تُضاعف في الأشهر الحرم .. والخلاف مرده إلى فهم قوله تعالى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). فبعضهم فهمها على أنّ المُراد بظلم الأنفس القتال في الأشهر الحرم. وآخرون فهموا أنّ المُراد بذلك الإكثار من فعل الحسنات، والنهي عن اجتراح السيئات بكل أنواعها.
ومما أثّر في هذا التوجه إعادة الضمير في لفظة (فِيهِنَّ) إلى الأشهر الحرم الأربعة فقط عند أصحاب الرأي الأول، أو إلى أشهر السنة كلها عند أصحاب الرأي الثاني .. والقاعدة النحوية تقضي بإرجاع الضمير إلى أقرب عائد. والراجح، كما أسلفت، أنّ النهي هو عن القتال فقط، بالتفصيل السابق، والمرجحات هي الآتي:
1. ما جاء في قوله تعالى في الآية الأخرى في سورة التوبة: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). والمعنى أنّ ما كان مُحرّماً على المسلمين فعله من قتال الكفار بسبب الأشهر الحرم، يُصبح بعد انسلاخ الأشهر الحرم مأذوناً به .. وهذا ما يُحمل عليه تأويل: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، وليس شيئاً غيره.
2. قول الله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ). وقد ذكر الشوكاني رحمه الله في تفسيرها في فتح القدير الآتي: (وكانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم المذكورة فإذا احتاجوا إلى القتال فيها قاتلوا فيها وحرموا غيرها فإذا قاتلوا في المحرم حرموا بدله شهر صفر وهكذا في غيره وكان الذى يحملهم على هذا أن كثيرا منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة على بعضهم البعض ونهب ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه ويقع بينهم بسبب ذلك القتال وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يضر بهم تواليها وتشتد حاجتهم وتعظم فاقتهم فيحللون بعضها ويحرمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم فهذا هو معنى النسيء الذى كانوا يفعلونه).
فهذا اللعب بمفهوم الأشهر الحرم من الكفار، يُؤكد الذي رجحناه، لأنّهم ما فعلوا ذلك إلا للتحلل من أمر الله بترك القتال في الأشهر الحرم، يُعزز ذلك أنّ العرب في جاهليتهم كانوا يمتنعون عن القتال فيها بسبب ما ورثوه من ملة إبراهيم عليه السلام.
3. أنّ المسلمين مأمورون بفعل الحسنات وترك السيئات في كل مكان وزمان، فلا يكون في هذا التخصيص بالأشهر الحرم معنى..!
4. إنّ الذي انتشر في كلام بعض الدعاة و(الداعيات) من مضاعفة الحسنات والسيئات في الأشهر الحرم يُخالف أصلاً قرآنياً، يُبين رحمة الله بعباده، وهو أنّه يُضاعف لهم الحسنات فقط، وأما السيئات فلا تُضاعف. يقول تبارك وتعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
وقد أفرز غياب المفهوم الصحيح المبين آنفاً منظومة من البدع الموسمية، كُنّا نراها، وبوضوح لافت، مع إطلالة شهر رجب، عند الكثيرين في المجتمع، منها:
أ. رؤية الناس رجالاً ونساءاً وهم يمشون في الطرقات وبأيديهم السبحات الطويلة، وشفاههم في تمتمات مستمرة. ولو سألتهم عن سبب فعلهم أجابوا بأحاديث موضوعة أو ضعيفة من أمثال (كان ابن عباس يقول: {يوم الفطر يوم الجوائز، وإنما سمي شعبان لأن الأرزاق تتشعب فيه، وإنما سمي رجب لأن الملائكة ترتج فيه بالتسبيح والتحميد والتمجيد للجبار عز وجل). وهو موضوع، في سنده كذاب.
ب. كثير من الناس يحرصون على الصيام في رجب، والمُحدّثون يقولون: لا يصح في فضل الصوم في رجب حديث .. ومن بعض الأحاديث الشائعة بين الناس حول صيام رجب، والتي لا تصح (إن في الجنة نهرا يقال له: رجب، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل) (من صام من رجب يوماً واحداً سقاه الله من ذلك النهر). (باطل)
ومنها: (رجب شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات فمن صام يوما من رجب فكأنما صام سنة ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه سبعة أبواب جهنم ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة ومن صام منه عشرة أيام لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ومن صام منه خمسة عشر يوما نادى مناد في السماء: قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل ومن زاد زاده الله عز وجل) والحديث موضوع.
وعن خرشة بن الحرّ قال: (رأيتُ عمر يضرب أكفّ المترجّبين، الذين يصومون من أجل رجب، حتى يضعوها في الطعام، ويقول: كلوا فإِنّما هو شهر كانت تعظّمه الجاهلية ). وهو صحيح.
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنّه كان إِذا رأى النّاس وما يعدّونه لرجب كَرِهه).
وقد يتساءل الإنسان ما سبب انتشار البدع عن رجب، بشكل مبكر وفي عصر الصحابة؟ والتساؤل حق، ويُجيبنا عنه عمر رضي الله عنه، يوم كان يضرب الصائمين في رجب على أيديهم، ويقول: (إِنّما هو شهر كانت تعظّمه الجاهلية)، إنّما هو تسلل شيء من أمر الجاهلية إلى المسلمين الأوائل .. وكان لذلك الخلل عمر وابنه عبد الله، وغيرهما من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم جميعاً.
ولا بُد من إيضاح هام، وهو أنّ من اعتاد صوم النفل في كل شهور السنة، كالإثنين والخميس وغيرها من الأيام .. فلا جُناح عليه أنْ يصوم في رجب ما اعتاد صومه في غيره من الشهور، إنّما الابتداع هو الصوم ابتغاء تحصيل فضل الصوم في رجب، وهو ليس بثابت.
ج. ومن بِدع رجب الذبح فيه، ومن المتفق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم، (لا فرع ولا عتيرة) والفرع أنّ أهل الجاهلية كانوا يذبحون الفرع وهو أول نتاج لحيواناتهم شكراً لآلهتهم، وأما العتيرة فذبيحة يذبحونها في أول أسبوع من رجب. فحرم ذلك لأنّه لا يُراد به وجه الله .. فإذا ذبح المسلم ذبيحة أول النتاج لوجه الله تعالى، أو ذبح في رجب كما يذبح في غيره دون أنْ يخصها به فلا مانع منه، بل قد جاءت أحاديث تدل على ذلك، من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الفرع فقال: (حق) وسُئل عن العتيرة فقال: (حق). وفي حديث نبيشة الهذلي: (قالوا: يا رسول الله إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية فما تأمرنا؟ قال: (اذبحوا لله عز وجل في أي شهر ما كان، وبروا الله تبارك وتعالى، وأطعموا)). والأحاديث، ولا شك صحيحة، وقد أفادت مشروعية الفرع وهو الذبح أول النتاج على أن يكون لله تعالى، ومشروعية الذبح في رجب وغيره بدون تمييز وتخصيص لرجب على ما سواه من الأشهر، فلا تعارض بينها وبين الحديث المتقدم (لا فرع ولا عتيرة).
د. وأختم بمجموعة أحاديث غير صحيحة، انتشرت بين الناس للتحذير منها:
(كان إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان، وكان إذا كانت ليلة الجمعة قال : هذه ليلة غراء و يوم أزهر).
(سمي رجب لأنه يترجب فيه خير كثير لشعبان ورمضان).
(رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي).
(خمس ليال لا ترد فيهن الدعوة : أول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان وليلة الجمعة وليلة الفطر وليلة النحر).
(خيرة الله من الشهور شهر رجب، وهو شهر الله، مَن عظّم شهر الله رجب؛ عظم أمر الله، ومن عظم أمر الله؛ أدخله جنات النعيم، وأوجب له رضوانه الأكبر).
وهذه الأحاديث وكثير معها ذكرها أمير المؤمنين في الحديث ابن حجر العسقلاني رحمه الله في رسالة سماها: (تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب). وهي نافعة جداً.
بقيت فكرة أخيرة ضاق بها المجال، لكن عرضها بإيجاز خير من تركها .. وهي تساؤل ثان، كسابقه في أول الكلام .. قلنا: من الذي روج لتعظيم رجب في زمن الصحابة؟ وكانت بدعاً تسللت من الجاهلية الأولى وكان لها الصحابة رضي الله عنهم .. فما الذي أغرى أهل زماننا برجب؟
إنّه رواسب الجاهلية الأولى، وبِدع شيعة العصر التي تملأ كتبهم، وعلى ألسنة وعّاظهم، ومنها تعظيم رجب .. يبثونها فينا، وفينا سماعون لهم .. فمن يتصدى للخلل الجديد..؟ إنّهم، ولا شك، أهل التصفيية والتربية، أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) حُرّاس الوحيين.
والحمد لله رب العالمين