عن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ عِبَادُ اللَّهِ قِيَامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْتًا مِنَ النَّارِ). وفي رواية: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ). أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي، والطحاوي في “مشكل الآثار”، وأحمد.
ويظهر أنّي خالفت المعتاد في التوسع في تخريج الحديث، إذ كنت ألزمت نفسي ألا أذكر إلا حديثاً قد استيقنت صحته، وهو عهد مع الله قبل أن يكون مع نفسي ومع الناس. وبالتالي فلا حاجة أن أشغل الناس بطول التخريج ودراسة الأسانيد. لكن هذا الحديث ثار حوله جدل ولا زال يثور، وكم من الناس من يرونه أمراً بسيطاً لا ينبغي التمحور حوله، والتوسع في البحث فيه، ومن هؤلاء الناس نخب، أفلم يقرؤوا العبارة النبوية (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)، كيف يستهان بهذا الحكم، وهو هدي نبوي ثابت، وفيه هذا الوعيد الشديد..؟
ولعل الذي لا ينقضي منه عجبي، ما وقفت عليه، بل قرأته منسوبا لبعض علماء السعودية الكبار، وهو قولهم حينما سُئلوا عن حكم القيام للداخل: (إنّا لنراه من مكارم الأخلاق)، فهل يا ترى فاتت مكارم الأخلاق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم..؟!
وسيبقى الخلاف والتأويل في هذا الحديث ما دامت النظرة في المسألة يحكمها الهوى، وتراعي عوائد الناس وما هو منتشر بينهم..! نسأل الله السلامة، فأحببت أن يكون القاريء على بينة من أمره من البداية.
ولا أنسى أبدا، وكأنّي أعيش المشهد، بل المشاهد الآن، وكان ذلك في (الستينيات) من القرن الماضي وأنا يومئذ طالب في الثانوية، حين قام طالب علم محسن، يوم اطلع على الحديث المذكور، حينما نشره الشيخ الألباني رحمه الله في “السلسلة الصحيحة”، فطبعه في ورقة وكان يوزعه في المساجد، فثار يومئذ جدال، وقام سجال في صفوف أتباع مشايخ دمشق، وكلهم يخالفون الحديث، في ما يبدونه من احترام وتعظيم لأشياخهم. وحضرت بنفسي ذات مرة، للاطلاع في جامع (تنكز) في قلب دمشق، حيث كان الشيخ كفتارو يلقي درسا أسبوعيا فيه، فإذا دخل الشيخ المسجد انبعث كل من في المسجد، وهو يغص بالناس، قياماً تحية وإجلالا للشيخ، صورة تستعيدها الذاكرة كأنّها أمامي .. وكُتب يومئذ الكثير، وقِيل على المنابر أكثر، وثارت معارك كلامية انتهت بالضرب، وكل ذلك من إملاءات الهوى، وتبرير خطأ ترك الاتباع.
وأستأذن في أن أقدم للحديث بمقدمة أراها ضرورية:
إنّ الإسلام قد حرص في ما حرص عليه على إحكام البنيان الاجتماعي، لتحقيق مجتمع الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .. ومن إحدى طرائق تحقيق هذا الهدف غرس بعض المعاني الأخلاقية، والسلوك القويم، في نفوس المسلمين، في تعاملهم اليومي بل الساعي، وهم يلتقون ويتواصلون، وهي ذات ارتباط وثيق بالعقيدة، ولتصبح مع الزمن، وتوارث الأجيال عادات بل حضارة وتراثا وثقافة في المجتمع .. فإن أحببنا، أحببنا بما يوافق ذلك، وإن احترمنا ومدحنا، لم نخرج عنه، وإن فرحنا أو حزنَّا كان كذلك، فقد علمنا الدين كل شيء، وكيف لا، وهو نظام حياة كامل، منزل ممن خلق البشر، ولا يعلم ما يصلح حالهم غيره…!
وما أحسن حال المسلم حين تغدو، مع التزام الدين، عاداته كالعبادات، في شرعيتها وانضباطها، ويؤجر عليها من خالقه. وبالمقابل، فما أسوأ حال المسلم يوم تنقلب عباداتُه عاداتٍ مفرغةً من أي روح، يتعب وينصب ولا أجر..! ومن هذه المعاني، الذي يحرص الإسلام على غرسها، أن لايُعَبَّدَ العَبْدُ للعَبدِ، فالعبودية، في مجتمع المسلمين لا تكون إلا لله وحده، وهي شرف وعز، في حين أنّ العبودية للمخلوق ذلٌ وهوانٌ.
وعلى ذلك لا بد من أن يسقط في مجتمع المسلمين أي شكل من أشكال التمَيُّز إلا التميُّز بالتقوى والعمل الصالح، وحمل هم الإسلام. وأما الألقاب، و(بروتوكولات) و (إتيكيت) الحركة والسكون، المستوردة من المجتمعات الكافرة، فهي ليست من شيم أهل الإسلام.
هل تدرون ما أعظم شعار يتميز به مجتمع المسلمين..؟ هو الذي كان سائدا بين الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه، في أنّه كان يدخل عليهم القادم من بعيد، فينظر في الحضور ثم يقول أيكم محمد…؟
بعد هذه المقدمة يسهل فهم الحديث وتطبيقاته، والحكمة من ورائه، وكل ذلك اغتاله المسلمون، وأهل الفضل منهم، يوم نظروا إلى الحديث بعقولهم، وعوائد مجتمعاتهم البالية، وليس باتباعهم. كل حرصهم أن يكون همهم البحث عن المعقول والمقبول من الناس، بدلاً من المشروع الذي يرضي الله، وما أكثر ما يتعارض المشروع مع المعقول والمقبول. فالإسلام دين نصٍ واتباع، وليس دين عقل وابتداع .. واقرؤوا، إن شئتم هذا الحديث في صحيح مسلم وغيره من أصحاب السنن من حديث جابر رضي الله عنه قال: (اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلاَتِهِ قُعُودًا فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: (إِنْ كِدْتُمْ آنِفِاً لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فَلاَ تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا)). والحديث عطل العمل به معظم الفقهاء يوم حكموا عقولهم متسائلين؛ هذا الإمام اشتكى، وهو معذور، فما عذر المأمومين في ترك ركن القيام بلا سبب..؟ وكأنّهم لم يقرؤوا تعليل النبي صلى الله عليه وسلم للحكم: (إِنْ كِدْتُمْ آنِفِاً لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فَلاَ تَفْعَلُوا). نهي عن التشبه بمجتمعات، قامت على العبودية لغير الله، والاستعباد وتأليه الحكام.
شرح الحديث الأول:
لا يحتاج الحديث كبير عناء لفهمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يتوعد من يحب أن يستقبله الناس وقوفاً بدخول النار، فهي محاربة لتعظيم الذات مع الاستخفاف بالآخرين. وليس في المجتمع المسلم مكان لهذه النزعات، التي تعتبر شذوذا عن معاني الإسلام التربوية، وعلى رأسها التواضع لله. والمعنى واضح كل الوضوح، ورغم هذا الوضوح فقد شُوِش عليه، وشُغِب عليه بأمور عدة، لاستبعاد الحديث من دائرة العمل، وهذه بعض النماذج:
أولاً: التفريق بين من يحب ذلك أي القيام له، ومن لا يحبه، وهو تفريق أقل ما يوصف به أنه باهت. فقالوا لو أنّ الناس يقومون من تلقاء أنفسهم لاحترام شيخهم، أو لتوقير كبيرهم وهو لا يحب ذلك فالحديث لا يشمل هذه الحالة..!
ويجاب أليس على هذا الكبير أو الشيخ أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويدلهم على أمثل الأخلاق..؟ ألا يجمل بهذا الشيخ أو الكبير أن يحمل المجموعة التي تلزمه وتبجله وتعظمه، على أن يكونوا وهو معهم مؤتسين برسول الله صلى الله عليه وسلم، معظمين هديه بالاتباع..؟ وهل إقرارهم على مخالفة حكم النبي صلى الله عليه وسلم يبريء ذمته عند الله..؟ أوليس قد آثر هوى نفسه، ومتعته في رؤية الناس يبجلونه، فقدم ذلك على حكم الله ورسوله..؟ ولنتعلم من جديد هديه، بأبي هو وأمي، مع أصحابه، والتزامهم بهديه طاعة له وحُباً، كما يرويه أنس رضي الله عنه: (مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ رُؤْيَةً مِنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا إِلَيْهِ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لذلك).
النبي يكره أن يُقام له من أقرب الناس إليه، وأصحابه اللماحون لكل ما يحب ويكره يتركون القيام له، وهو وسيلة التعبير عن الاحترام عند كل بني البشر لمعرفتهم كراهيته لذلك، ولمعرفتهم أنّ كراهيته للشيء حكم شرعي عام لكل المسلمين إلى قيام الساعة، ما لم يقم على الخصوصية دليل. وسدا لكل منافذ التأويل التي استمرأها المسلمون، وبعض علمائهم ودعاتهم، أقول: إنّ لفظة الكراهة إذا جاءت عن الله أو عن رسول الله أو عن القرون الأولى، تعني التحريم، واقرؤوا قول الله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا).
فاجتمع لهذه المجموعة الفريدة من البشر قمة الفضل مما يحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وما يحبه أصحابه لحبه له، وهو، ولا شك من مكارم الأخلاق التي يريدها الله، وإن خالفت ما تواضع عليه سائر الناس. فأين الأشياخ والمربون من هذا الكمال..؟
يقول الألباني عن حديث أنس السابق في “السلسلة الصحيحة”: (أخرجه البخاري في “الأدب المفرد”، والترمذي، والطحاوي في” مشكل الآثار” وأحمد، و أبو يعلى في “مسنده”). ويقول الشيخ الألباني: (وإسناده صحيح على شرط مسلم).
ثانياً: التفريق بين أن يكون القيام تعظيماً أم احتراماً، والجواب من وجهين: أولاً، إنّ النص لم يفرق ولم يفصل، ولم يشر إلى شيء من ذلك، بل ترك النهي عن جنس القيام مُطلقاً. فلِمَ يُفتح باب التفنن في الاحتيال من أجل اللعب بدلالة النص وعدم تطبيقه..؟، وهذا يشبه تماما الفرار من رفع الثوب إلى ما فوق الكعبين طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بدعوى التفريق بين من يطيل ثوبه كبرا واختيالا، ومن لا يقصد ذلك والنص يرفض مثل هذا التفريق.
ولا أحب أن أفوت فرصة لأنبه على أمر استمرأه كثير من المسلمين وأعانهم عليه بعض الدعاة، ألا وهو تغليب العوائد والأهواء على ما جاءت به النصوص بمثل هذه الأساليب الاحتيالية الباطلة. وقطعا لهذه الأساليب الملتوية، في التعامل مع نصوص الوحيين. وطردا لتلاعب الشيطان بالأنفس جاءت الآية الكريمة تقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) فعلى من يحتالون..؟ وأُذَكِّرُ أنّ هذا من عمل بني إسرائيل، يقول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها). فدأبُ المسلم الحق والمؤمنِ الصحيحِ إذا تتلى عليه النصوص من الوحيين أن يبادر إلى القول: سمعنا وأطعنا، لا سمعنا وعصينا، أو سمعنا ولعبنا واحتلنا.
ثالثاً: أنْ يُؤتى بالنصوص الضعيفة سنداً أو الموضوعة، ليُعترض بها على النصوص الصحيحة، ولتأخذ مكانها في التطبيق .. من مثل الاحتجاج بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه). وقد خرجه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة، وأسهب في نقد سنده ليحكم عليه بالضعف.
ومن مثل ذلك الحديث: (يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه، فإنّ سب الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت، فلما بلغ باب رسول الله صلى الله عليه وسلم استبشر ووثب له رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على رجليه، فرحا بقدومه). وقد تقصى الشيخ الألباني رحمه الله سنده في الضعيفة ليخلص إلى القول: (إسناده واه جدا بل إنّه موضوع).
ومن أمثال ذلك طامات جاء بها رجل اسمه عزت الدعاس في تعليقه على كتاب الشمائل المحمدية للترمذي، من مثل: (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم لعبد الله بن أم مكتوم ويفرش له رداءه ليجلس عليه ويقول: أهلا بالذي عاتبني ربي من أجله). ويعلق الشيخ الألباني في الضعيفة حيث خرج الحديث قائلاً: (ولا أعلم لهذا الحديث أصلا يمكن الاعتماد عليه، وغاية ما روي في بعض الروايات في “الدر المنثور {أنّه صلى الله عليه وسلم كان يكرم ابن أم مكتوم إذا دخل عليه}. وهذا إن صح لا يستلزم أن يكون إكرامه صلى الله عليه وسلم إياه بالقيام له، فقد يكون بالقيام إليه، أو بالتوسيع له في المجلس، أو بإلقاء وسادة إليه، ونحو ذلك من أنواع الإكرام المشروع).
وروي مثل ذلك في قيام النبي صلى الله عليه وسلم، لعدي بن حاتم وغيره، وأنّ الصحابة رضوان الله عليهم كان يقوم بعضهم لبعض .. ولا يصح شيء من هذا إلا في أذهان الذين يكتبونه بعيدا عن الدقة والأمانة العلمية، وتشويشا على نصوص الوحي من السنة الصحيحة، وإرضاء لمن يأمرونهم بهذا من مشائخهم .. فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل له مما يكسبون.
ولو نوقشوا في افتراءاتهم وتجاوزاتهم العلمية لكان الرد، نحن نقر بضعف النصوص ولكنّنا نسوقها شاهدا على فضائل الأعمال .. ولا بد هنا من وقفة لتحرير هذه المسألة الهامة:
كثيراً ما نقرأ هذه العبارة أو نسمعها: (ضعيف ولكن يحتج به في فضائل الأعمال) وهي قاعدة قعدها بعض العلماء في الماضي ولقيت رواجا عند بعضهم، أما اليوم فيرددها من يعلم ومن لا يعلم، إذ أصبحت المقولة الوحيدة التي يدافَع بها عن استعمال الحديث الضعيف، ولا يخفى كم من البدع تدخل حياة الناس الشرعية من جراء الحديث الضعيف. وأصل هذه القاعدة ما ذكره ابن حجر رحمه الله من جواز العمل بالحديث الضعيف بشروط ثلاثة هي:
(الأول: متفق عليه، وهو أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه.
الثاني: أن يكون مندرجا تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلا.
الثالث: ألا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعمل به على سبيل الاحتياط. وذلك لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله).
ونسبت كثير من المؤلفات هذا المذهب إلى جماهير العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم، وحكى الاتفاق عليه بين العلماء الإمام النووي، والشيخ علي القاري، وابن حجر الهيتمي.
وليست تلك النسبة دقيقة أو صحيحة لأنّ جمعاً من العلماء في القديم والحديث يرى أنّ فيما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم غنية عما لم يثبت .. وهو، ولا شك الحق، وسيأتي تفصيل .. وخير من يفصل في ذلك الشيخ الألباني رحمه الله، فقل أن تجد له كتابا لم يناقش فيه هذه المسألة وبتفصيل غالبا، كيف لا وهو من أدرك خطورة عدم فرز السنة ومعرفة صحيحها من سقيمها، وأدرك خطورة انتشار الضعيف والموضوع على حياة الأمة الدينية، وأمضى عمره لوضع الأمر في نصابه .. يقول في كتابه (الثمر المستطاب):
(والذي أعتقده وأدين الله به أنّ الحق في هذه المسألة مع العلماء الذين ذهبوا إلى ترك العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال وذلك لأمور:
أولا: إنّ الحديث الضعيف لا يفيد إلا الظن اتفاقا والعمل بالظن لا يجوز لقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإنّ الظن لا يغني من الحق شيئا} وقوله صلى الله عليه وسلم: {إياكم والظن فإنّه أكذب الحديث}.
ثانيا: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باجتناب الرواية عنه إلا ما علمنا صحته عنه فقال: {اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم} ومن المعلوم أنّ رواية الحديث إنّما هي وسيلة للعمل بما ثبت فيه فإذا كان عليه الصلاة والسلام ينهانا عن رواية ما لم يثبت عنه فمن باب أولى أن ينهى عن العمل به. وهذا بين واضح). انتهى كلام الشيخ
رابعاً: تحريف الأحاديث، وتطويع بعض ألفاظها لمشتهيات الأنفس، ونوازع الهوى، ولسلبها الدلالة الصحيحة، الموصلة لمرضاة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل إقرار الابتداع وحرب الاتباع. ومن نماذج ذلك الاستشهاد بالرواية الضعيفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا لسيدكم) وهي رواية ضعيفة، والصحيحة: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان حاضرا من الأنصار لما جاء سعد بن معاذ ليحكم في بني قريظة. عن أبي سعيد الخدري قال: (نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ إِلَى سَعْدٍ، فَأَتَى عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَسْجِدِ قَالَ لِلأَنْصَارِ: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ)).
وهذه الرواية من المتفق عليه. وفرق لغوي كبير بين قام له وقام إليه، أما قام له فيكون القيام تعظيما للداخل، والمثول بين يديه وقوفا حال دخوله المكان، وهو المنهي عنه. وأما قام إليه فتكون لاستقبال القادم والترحيب به قبل وصوله المجلس ومساعدته إن كان بحاجة. وذلك ما كان من شأن سعد فقد قدم على حمار وكان مريضا. يؤكد ذلك الروايات الصحيحة التي فيها (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزِلُوهُ)، فهي قاطعة لكل تأويلات المحرفين، لأنّ أمر النبي كان من أجل أن يعينوه في النزول والقدوم. ومن العجيب أن تجد من يحرص على نشر الرواية الضعيفة واستبعاد الصحيحة لا لشيء إلا لموافقة الهوى أو الشيخ.
وعوداً على بدء، فإنّ هذا الحديث: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) من العادات الطيبة التي أراد الله للمسلمين العمل بها وأن تسود مجتمعاتهم وهذه بعض صور التطبيق: (دخل معاوية بيتا فيه عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عامر، فقام ابن عامر، وثبت ابن الزبير، وكان أدر بهما فقال معاوية: اجلس يا ابن عامر فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يتمثل له الناس قياما، فليتبوأ مقعده من النار)). (الصحيحة)
وذكر الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة بعض الشواهد للحديث في قصص طريفة منها شاهد مرسل من طريق عبد الرزاق بن سليمان بن علي بن الجعد قال: سمعت أبي يقول: (لما أحضر المأمون أصحاب الجوهر، فناظرهم على متاع كان معهم، ثم نهض المأمون لبعض حاجته، ثم خرج، فقام كل من كان في المجلس إلا ابن الجعد، فإنّه لم يقم، قال: فنظر إليه المأمون كهيئة المغضب، ثم استخلاه فقال له: يا شيخ ما منعك أن تقوم لي كما قام أصحابك؟ قال: أجللت أمير المؤمنين للحديث الذي نأثره عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وما هو؟ فذكر حديث {من أحب أن يتمثل…} قال: فأطرق المأمون متفكرا في الحديث، ثم رفع رأسه فقال: لا يُشترى إلا من هذا الشيخ، قال: فاشترى منه في ذلك اليوم بقيمة ثلاثين ألف دينار).
ويعلق الشيخ الألباني فيقول: (فصدق في علي بن الجعد، وهو ثقة ثبت، قول الله عز وجل: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا، و يرزقه من حيث لا يحتسب}).
ونحو هذه القصة ما أخرج الدينوري في “المنتقى من المجالسة” قال: (وجه المتوكل إلى أحمد بن العدل وغيره من العلماء فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم، فقام الناس كلهم إلا أحمد بن العدل، فقال المتوكل لعبيد الله: إنّ هذا الرجل لا يرى بيعتنا، فقال له: بلى يا أمير المؤمنين ولكن في بصره سوء، فقال أحمد بن العدل: يا أمير المؤمنين ما في بصري من سوء، ولكنّني نزهتك من عذاب الله تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده في النار)، فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه).
وروى ابن عساكر بسنده عن الأوزاعي: (حدثني بعض حرس عمر بن عبد العزيز قال: خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة، فلما رأيناه قمنا، فقال: إذا رأيتموني فلا تقوموا، ولكن توسعوا).
وبعد، فلعل في كل ما قيل آنفاً رد لكل مسلم، يريد الله والدار الآخرة، إلى الجادة الصحيحة، فإن قرأ أو سمع نصوص الوحيين تتلى أن لا يجد لنفسه معها إلا خياراً واحداً (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)، ليكون في عداد من قال فيهم الله تبارك وتعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
وليكن ختامُ الكلام في هذا الموضوع المهم، كلامًا عن الأسلوب الأمثل لتطبيق هذا الحديث بين الناس، في هذا الزمان. فَحَريٌ بكل مسلم حرصا على أن يؤدي ما أمر به الله ورسوله من أحكام، في زمن غربة الإسلام، أن لا تغيب عنه القاعدة الآتية: (التعليم قبل الأمر بالتطبيق) بمعنى، أن لا ينكر على الناس ترك العمل بشيء من تعاليم الإسلام، ما لم يبدأ قبلا بتعليمهم الحكم بأدلته، أو تذكيرهم بذلك، وأن يؤكد لهم أنّ النصوص التي جاءت بذلك صحيحة. وإلا فإنّ الناس أعداء لما يجهلون، وقد يكونون قد عُلِّموا خلاف ما تقتضيه النصوص، فتكون عندئذ المخالفات والمصادمات. ويلخص ما أريد قصة سمعتها، منذ زمن بعيد من شريط للشيخ الألباني رحمه الله يقول: كنت في زيارة لبعض الناس، فقدم زائر لا أعرفه ولا يعرفني، واهتم به الحضور وسلموا عليه واقفين، فلما وصل إلي وقفت وسلمت عليه. فنقل ذلك عني من قبل بعض الحاضرين بأنّ الشيخ الألباني المتشدد في أمر القيام للداخل قد قام ليسلم على داخل، فخالفت فتواه تقواه. فلما سألني بعض الإخوة عن ذلك، قلت نعم، حدث ذلك، لأنّ الرجل لا أعرفة ولا يعرفني، وهو حتما لا يعرف عن مسألة القيام للداخل شيئا. فما أردت أن أُدخل في روع ذلك الأخ أنّ الملتزمين من المسلمين جفاة لا يحترمون الآخرين، ويُسحب ذلك الظن الباطل، على دين الإسلام. وهو ملمح رائع من الشيخ، في فقه العمل بالنصوص.
واستكمالا للفكرة التي نقلتها عن الشيخ الألباني رحمه الله، أوجه نصيحة لكل مسلم ومسلمة، عملا بالمبدأ الدعوي القرآني (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)
أن نبث علم وتطبيق حديث عدم القيام للداخل في الأسرة الصغيرة، ثم في الأقرباء والأصدقاء، ونوسعها مع كل من تنشأ معه علاقة جديدة متسلحين بحفظ النصوص وفقهها، ثم تنداح تلك المسألة الشرعية، وتتوسع دوائرها في الناس وتكبر، فلا تلبث تلك السنة المهجورة، والهدي النبوي المضيع، أن يحيا بين المسلمين من جديد، بعد أن أقصاه ركام العادات، وهوى النفوس، والجهل بما جاء عن الله ورسوله. وتبدأ الصورة الصحيحة للمجتمع المسلم، المتميز بانتشار تعاليم الإسلام فيه، في كل مناحي الحياة، تظهر شيئا فشيئا، ليكون التميز الإسلامي الحقيقي، ولتبدأ الصحوة بعودة الأمة الغائبة، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ... والحمد لله رب العالمين