نواجه في حياتنا المعاصرة تحدياتٍ كبيرةً، ومؤامراتٍ خطيرةً، ونرغي ونزبد، ونصخب ونغضب، زاعمين أنّنا ننتصر لديننا، في وجه المؤامرات، ومواجهة التحديات. لكنّ الحقيقة أخطر من ذلك كله، وهي أنّنا نحن المتآمرون، ومنا أصحاب التحدي الماكرون..! وكثيرا ما يقال لي: إنّكم لا تحسنون إلا جلد الذات .. وردي الدائم أنّنا لا نجلد الذات إلا لنُصلح الذات، ونوقظ قومنا من السبات، بعد أن كثرت العبر وقل الاعتبار..!
والمبرر الأقوى لهذه الشدة إن وجدت، ممارساتٌ وملاحظاتٌ ما هي إلا نذير شر بمستقبل قادم، شر بما فيه من كل ما مضى، فقد أُعمِلت فيه كل معاول الهدم، الداخلية والخارجية، تضرب في صرح الإسلام … والداخلية هي الأدهى والأمر. ولعلها لا تكون قسوة يرفضها كثيرون، أن أقول: إنّ النص القرآني المعبر والمروع جداً، الذي صدقناه خبراً ووصفاً لحال غير المسلمين، بتنا نراه واقعاً بين ظهرانينا ومن فعل بني جلدتنا المسلمين (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ). ومن يأخذ على أيديهم قليل..!
من ذلك قلت آنفاً: (نحن المتآمرون، ومنّا أصحاب التحدي..!). وتفسير ذلك، وهو القصد الذي ما أردت غيره، أنّ دين الإسلام الذي بدأ التربص به ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي يجاهد (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)، لا زال ديدنً أعداء الدين، إن لم أقل: لقد اشتدت ضراوته أضعافاً. لكنّ الأسلوب تغير لتغير العصر والمعطيات. لقد كان الكيد للدين، والنبي حي رفضاً لما جاء به، ومن أعداء ظاهرهم الكفر … أما بعد موت رسول الله وانقضاء فترة الخلافة الراشدة، وبعد تمكن الدين في الأرض، تغير أسلوب التصدي، معتمداً أسلوبين جديدين في حرب الإسلام بعد يأس الأعداء من المواجهة المعلنة:
الأول: قلب المعركة من عداوة معلنة إلى ما يسمى اليوم (التفجير من الداخل). أو تدمير الإسلام بيد أهله، وهو امتداد لمنهج المنافقين، وأوضح نموذجين صنعهما أسلوب العداوة الجديد: الشيعة والخوارج.
أما الثاني: وهو ما أنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث خاصف النعل: (إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ القُرآن كَمَا قاتلتُ عَلَى تنزِيلِه). وتفسير هذه النبوءة منه عليه الصلاة والسلام أنّه قد خاض كل معاركه مع من يكذبون بالقرآن، ويجحدون أنّه منزل من عند الله .. ولكنّه ترك لنا معارك مفتوحة إلى قيام الساعة، ومن نوع آخر، لأنّها مع أقوام يُظهرون الإيمان بالقرآن، ويُعظمونه ويُقدسونه، لكنّهم يعبثون بدلالته عن طريق التأويل.
ولقد خاض أولى تلك المعارك، كما أخبر الصادق المصدوق، عليٌ رضي الله عنه مع الخوارج، وهم أول من فتح باب التأويل وخاض فيه، راغبين عن فهم السلف للوحيين … ولقد لخص أحد العلماء الفكرة قائلا: (الكفر في القرآن كفران؛ كفر في تنزيله، وكفر في تأويله). وفتنة التأويل، التي ألقت بجرانها في المسلمين لقرون، وأفسدت ما أفسدت، هي أشد ما تكون ضراوة اليوم، وقد اشتد العداء للإسلام وصار دولياً بل كونياً بامتياز.
ولا أحب أن أغادر الكلام عن التأويل، وهو أفعل معول هدم للإسلام، قبل ذكر نقول عن ابن القيم، عن التأويل، الذي ما زال بعض نخبنا ويتابعهم العوام، يظنونه خيرا. يقول ابن القيم في الفصل الخامس عشر من كتاب الصواعق المرسلة، والذي عنونه: (جنايات التأويل على أديان الرسل، وأن خراب العالم، وفساد الدنيا والدين، بسبب فتح باب التأويل).
مما يقوله رحمه الله في هذا الفصل:
(إذا تأمل المتأمل فساد العالم، وما وقع فيه من التفرق والاختلاف، وما دُفع إليه أهل الإسلام، وجده ناشئا من جهة التأويلات المختلفة المستعملة في آيات القرآن، وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم، في أصول الدين وفروعه. فإنها أوجبت ما أوجبت من التباين والتحارب، وتفرق الكلمة وتشتت الأهواء وتصدع الشمل وانقطاع الحبل وفساد ذات البين .حتى صار يكفر ويلعن بعضهم بعضا وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأموالهم).
وإذا كانت ركائز فتنة التأويل الأساسية في ما مضى، النفاق وأهله، فإنّ ركائزها اليوم علماء ودعاة لُبِّسَتْ عليهم الأمور فتوهموا أنّ من الدفاع عن الإسلام، إلباسه ثوباً غير الذي أنزله الله به، ليقبله أهل العصر، فيهادنونه وينصفونه، وقد يدخلون فيه أفواجاً .. وإذا بهؤلاء يضيفون أنفسهم إلى قائمة أعداء الإسلام من حيث لا يحتسبون، يوم جعلوا التأويل والتبديل في الدين أصل تحركهم. وبالتعبير السياسي المعاصر، فإنّ هؤلاء أرادوا خفض سقف تعاليم الإسلام والالتزام به، ليناسب العصر، ويهادن الفساد. لقد اختار أولئك لنصرة الإسلام بزعمهم، المنهج الذي حذر الله تبارك وتعالى منه نبيه، ومشوا فيه، (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)، بل اشتد خطاب الله لنبيه، وهو تحذير شديد للأمة عن طريق خطاب النبي به في الآيات التالية:
(وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا).
ولقد بدأت أرصد هذه الظاهرة الخطيرة، يوم تعاملت وبتعمق مع فتاوى الناس ومشكلاتهم. لمست منحى جديداً، ما كان مألوفاً، ولا معروفاً، يحكم أكثر الناس حين يستفتون. يسألون وقد أضمروا جواباً من صنع هواهم، يوحون به للمستفتى من خلال السؤال، ويضيفون مع السؤال استطرادات لا ضرورة لها، لكنّها نوع من التذاكي، غايته سد المنافذ المفضية لبعض الحلول التي لا يريدونها أمام المستفتى، ليوجهوا الفتيا جهة أهوائهم ما يجعل عمليات الاستفتاء تنقلب جدلاً واعتراضاً ليصل المستفتي لما يريد، برغم أنف المستفتى، أو يكون المستفتى متزمتاً متشدداً متخلفاً عن العصر … كنت كثيراً ما أقول للسائلين، مُبَكِّتاً، اعتراضاتكم وجدالكم ليس مع من تستفتون، فليس هو المشرع إنّما هو ناقل عن المشرع، فإن كنتم تعرفون المشرع فاذهبوا إليه..! وكنت بعدها أُحَوْقِلُ وأقول لنفسي يا سبحان الله أين ذهبت تربية الناس على: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا).
و(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
و(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
ثم ينتقل التفكير مباشرة إلى التساؤل، ما الذي أوصلنا إلى هذه الحال؟ وبعد نظر وتقليب الأمر وجدت لذلك أسباباً؛ في القديم وفي الحديث.
أما في القديم، فإنّ بعض العلماء أرادوا التيسير والتخفيف في أمر الدين وتكاليفه، فخرجوا باجتهادات أوصلهم إليها ترك الالتصاق بنصوص الوحيين والاعتماد على استنباطات وتأويلات لتوصلهم إلى اليسر والتخفيف الذي أرادوه ولم يوفقوا…!
أقول مكرراً وبملء الفم، لم يوفقوا، لسبب بسيط في تشخيصه، خطير في نتائجه. فإنّي لا أعده موفقاً أصلاً من جانب النص وبدأ يحوم حوله ليجد لنفسه مُتَعَلَّقاً جديداً لاستدلاله المريض، فهو مخطيء بل خاطيء، وإن أصاب بنظر نفسه، أو نظر الآخرين. فمن أراد بذلك الرأفة والرحمة والشفقة، بالناس، فقد وهم لأنّه ليس أرأف بالخلق من خالقهم، ولا من نبيهم الذي وصفه ربه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). أضرب مثلين: واحد في العقيدة، وآخر في الفقه … تجنبا للإطلة.
التأويل في أسماء الله وصفاته، وترك ظاهر النصوص، وكل ذلك يخالف (ما أنا عليه وأصحابي)، وما كان عليه أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية. والعمل بقاعدة عقلية من نسج علماء الكلام، عبر عنها ناظم (جوهرة التوحيد)، التي تمثل مذهب الأشاعرة في التوحيد … بقوله:
وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها
هل من المعقول أن نورث أجيالنا علماً يقوم على افتراض أنّ النصوص المنزلة من فوق سبع سماوات غير صالحة ليعمل بها الناس، قبل أن يحدد العقل والنظر البشريين طريقة للتعامل معها، توافق معطيات أرضية..؟ وهل من المعقول أن نشكل عقيدة أجيالنا على أنّ النصوص عن أسماء الله وصفاته، ليست من المحكم بل هي من المتشابه..؟ فماذا أبقى هذ التجرؤ من قدسية نصوص الوحيين..؟ وكم جرأ أقواما على التفلت، حتى صرنا إلى ما نحن فيه..!
والمثال الفقهي، كيف تعامل بعض العلماء في الماضي مع الحديث الصحيح: (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تُسَافِرَ إِلَّا مَعَ ذي مَحْرَم).
نص صحيح صريح في حرمة سفر المرأة بدون محرم، في كل ما يصح فيه مسمى السفر، فلمَ يقوم بعض العلماء في القديم بالبحث عن فهم جديد، وحكم جديد غير حكم الله..؟ وذهبوا يتطلبون ذلك الحكم الجديد المخالف لحكم الله، في نصوص ليست أصلاً في المسألة، مثل حديث:
(يا عدي هل رأيت الحيرة؟ فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله) وترك حديث ابن عباس المتقدم، وهو نص قاطع في مسألة سفر المرأة، إلى حديث عدي.
سابقة انحراف في أسلوب الاستدلال، ويخالف القاعدة الأصولية في أنّ المنطوق يقدم على المفهوم .. وقد فاتهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث في حديث عدي عن أمر سيقع، وعن أمن سيسود، وذلك أمر كوني، ولسنا متعبدين بالأمر الكوني وإنّما بالأمر الشرعي، ولم يتحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الحكم الشرعي لهذا الأمر الحادث، بل اكتفى بذكر حدوثه لأنّ له نصوصاً تحكمه، ولا يوجد أدنى إشارة إلى أنّ حديث عدي ناسخ لما قبله، وقد قال ابن حجر رحمه الله: (لأنّه ليس في كل شيء أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه سيقع، يكون محرما ولا جائزا).
إذن في تراثنا الفقهي مخالفات خطيرة، لا يُسكت عنها، لأنّه لا معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم .. مما يُحَمِّلُنا إرضاء لربنا، واتباعاً لنبينا، واستبراء لديننا، ألا نرى القدسية لتراثنا الفقهي حين يبتعد عن نصوص الوحيين، بل إنّ القدسية كل القدسية يجب أن تكون للنصوص. وتُعزَّز بقدسية أخرى وهي قدسية اتباع نصوص الوحيين والاستغناء بهما عما سواهما..!
وأما في الحديث، فقد اتكأ بعض العلماء والدعاة من حملة لواء التيسير، والتخفيف على المخالفات القديمة المجانبة للنصوص، وأضافوا إليها مبررات تفرضها مستلزمات العصر ومتطلبات الحداثة، وضرورة التجديد، فكان فعل المعاصرين تأكيداً لما فعل المتقدم وزيادةً عليه.
إنّنا بين تجاوزات الماضي، وتنازلات الحاضر، خرجنا عن حكم الدين، ومن خرج عن حكم الدين بإرادته وعقله، فقد خرج من الدين..!
ولأبريء نفسي من أنّني أتهم جزافا، وأتحامل في الحكم، أورد القصة الآتية: يوم كنت في المرحلة الثانوية، ولدى زيارة لإحدى المكتبات، نصحني صديق كان معي، تربيته إخوانية بكتاب نزل حديثا للأسواق، وله دعاية قوية، عنوانه (الحلال والحرام في الإسلام) للشيخ يوسف القرضاوي. وكنت يومها ضحل الثقافة الإسلامية، فلا أعرف عن القرضاوي شيئا. وقرأت الكتاب في جلستين، لأنّه شدني إليه، وصرت أثني عليه. وأذكر الآن أنّني قرأت في المقدمة أنّ الأزهر كلف الشيخ القرضاوي بتأليف الكتاب، ليصار إلى ترجمته إلى أكثر اللغات ونشره خدمة للدين … وكنت وقتئذ معجبا بكل ذلك.
أما النظرة في الكتاب اليوم، فأقول: من هنالك بدأت المؤامرة الجديدة على الإسلام، بيد أهله، لأقل من الأزهر (الشريف)، فالكتاب بحث في كتب الفقه عن أخف الأقوال في المسائل، وإن كانت ضعيفة في استدلالها، ومردودة بالنظر السديد، وجعلها تعاليم الإسلام. وإذا ضممنا إلى الملف محمد عبده وتجديده وتجديفه، وباقعة الغزالي وهو شيخ للقرضاوي، ومثل أعلى له، وهو كتاب (السنة بين الفقهاء والمحدثين)، وما كان فيه من جرأة على الوحي الثاني، وكان صرخة ودعوة إلى منحى جديد في فهم الإسلام ليوائم العصر الأثيم، وكان بوحا بمكنون، كان يطرح متفرقا وبحذر وترقب، أما الآن فقد آن له أن يسود، على أنّه التجديد. وهو في حقيقته حسم لثنائية (الإسلام أم الواقع) .. لصالح الواقع والعصرنة والمدرسة العقلية. والذي لا يبشر بخير، أنّ ذلك يلقى القبول عند الناس والنخب، في عصر كل ما فيه يؤهب للمروق من الدين، إلا من رحم ربي.
والأنكى والأعجب، أنّ الأسماء التي لا تخفى ولا تُخفي عداوتها للإسلام، وهي تزعم تصدر الدفاع عنه، مثل شحرور وجودت سعيد وعدنان ابراهيم والكيالي وحسين عمران وأبورية والحبش، وغيرهم .. يصبحون على مسافة قريبة من رموز إسلامية بعد أن سد دعاة التجديد والمعاصرة والتيسير كثيرا من الفجوات بين الحق والباطل، فاتسعت دائرة الحق التي عبث التجديد والعصرنة بحدودها ومناراتها، حتى دخل فيها أعداء الدين وصاروا أئمة، وكذلك يفعلون.
ومرة أخرى أقول: حتى لا أُتهم أنّني ألقي الكلام على عواهنه، وأتهم بلا بينة، لا بد من مثل أضربه. إنّ أول من تصدى لكتاب الغزالي (السنة بين الفقهاء والمحدثين)، ورد باطله وشفى صدور المؤمنين، بحواره الهاديء معه وبالتأصيل والتميز والتأدب .. نراه اليوم يتراجع ويتمنى لو لم يفعل وينتقد نفسه ويخطئها، ويثني على الشيخ كنوع من الاعتذار. ماذا تعني هذه الظاهرة..؟ إنحدار سريع في واقع المسلمين، التغير الخطير فيه يؤقت بالعقود، وليس بالقرون، فإلى متى، وإلى أين..؟
المسلمون اليوم في انحدار، ومعهم نخبهم، والأمم عليهم متداعية، ولا إرادة ولا قدرة، إلا من رحم الله. ولكنّ الخلاف حول هذه المقولة كبير لاختلاف المنظار. ولو تجرد الجميع ونظروا بمنظار الوحين لعرفوا حجم الكارثة، وأين هم..؟
ولو تجرد الجميع ثانية وعايروا واقع المسلمين بمعيار (ما أنا عليه وأصحابي) لأدركوا عِظم التفريط، وسبب الكارثة.
ولو تجردوا وتجرؤوا ثالثة، فقالوا، ولم تبق مصيبةٌ إلا نزلت بهم(أَنَّى هَذَا) لعرفوا الجواب (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).
ويبقى السؤال، الذي في العنوان (الإسلام أم الواقع..؟) حائراً معلقاً بلا جواب .. فأين المصلحون..؟