Skip to main content

الابْتِــــــلَاءُ

By الأحد 29 رجب 1439هـ 15-4-2018ممحرم 20, 1441مقالات

الابتلاء من سنن الله في خلقه، ومن آثار حكمته البالغة في هذا الوجود، وعليه قام أمر الدنيا وأمر الآخرة، وأمر الخلق جميعا. ولا إيمان لمن جحد هذا أو أنكره .. ولا بد قبل أي كلام عن الابتلاء من معرفة المعنى اللغوي للكلمة:

جاء في لسان العرب: (بَلَوْتُ الرجلَ بَلْواً وبَلاءً وابْتَلَيْته اخْتَبَرْته وبَلاهُ يَبْلُوه بَلْواً إذا جَرَّبَه واخْتَبَره.

وابْتَلاه الله امْتَحَنَه والاسم البَلْوَى والبِلْوَةُ والبِلْيَةُ والبَلِيَّةُ والبَلاءُ وبُلِيَ بالشيء بَلاءً وابْتُلِيَ والبَلاءُ يكون في الخير والشر يقال ابْتَلَيته بلاءً حسناً وبَلاءً سيِّئاً والله تعالى يُبْلي العبدَ بَلاءً حسناً ويُبْلِيه بلاءً سيِّئاً.

والمعروف أَنّ الابتلاء يكون في الخير والشر معاً من غير فرق بين فعليهما ومنه قوله تعالى ونَبْلُوكم بالشر والخير فتنة)ا.هــ


وأتذكر الآن بيتاً من الشعر يحمل المعنى نفسه:

قد يُنعم الله بالبلوى وإنْ عظمت

ويبتلي الله بعض الخلق بالنعم

ومن أجل شمولية بحث الابتلاء والاستعراض الكامل لكل المعاني أرى ضروريا أن أبين أنّ معنى الابتلاء جاء في كتاب الله بلفظ (الفتنة وما يشتق منها). فقد جاء في لسان العرب: (جِماعُ معنى الفِتْنة الابتلاء والامْتِحانُ والاختبار وأَصلها مأْخوذ من قولك فتَنْتُ الفضة والذهب إِذا أَذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيِّدِ).

وجاء أيضاً: (الفِتْنة الاختبار والفِتْنة المِحْنة والفِتْنة المال والفِتْنة الأَوْلادُ والفِتْنة الكُفْرُ والفِتْنةُ اختلافُ الناس بالآراء).

وأقول: إنّ المعاني الأخيرة للفتنة وهي المحنة واضطراب الأحوال وحصول الهرج والمرج، ترجع إلى المعنى الأصلي وهو الاختبار والامتحان، لأنّ الفتن تمحص الناس وتفرزهم وتغربلهم. فلنخرج إذن من الفقرات السابقة بالحصيلة الآتية: الابتلاء والفتنة وما اشتق منهما من ألفاظ أسماء لمسمى واحد، وهو التجربة والامتحان .. فلنكن على ذكر لهذه الحقيقة ونحن ندخل عمق موضوع الابتلاء .. وإلى بعض النصوص القرآنية والحديثية التي تذكر الابتلاء:

. قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

. (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

. (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).

. (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).

. (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ).

. (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ).

. (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ).

. (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ).

. (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).

. (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ).

. (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ).

والابتلاء ينال الأفراد بأشخاصهم كما ينال الأمة بمجموعها. وتنعكس نتائجه على الأمة كما تنعكس على الأفراد سموا أو هبوطا، فوزا أو فشلا .. وإنّ تداول موضوع الابتلاء وتدارسه وتذاكره يصبح من أوجب الواجبات على المسلمين، لأنّ به تعرف مواطن الخلل .. وبه تقوم المراجعة، والتوبة، والتصحيح، والتقويم.

ويتأكد وجوب تذاكر موضوع الابتلاء في الزمن الصعب..! وما الزمن الصعب؟ أن تنزل بأمة المسلمين النوازل تترى، مع قلة النصير من أهل الأرض، وتأخر النصر من رب السماء .. ولا يجوز أن تختزل المشكلة، كما يحلو للبعض فهمها أو تفسيرها، على أنّها قدر وبلاء نزلا، فلا بد من استسلام دون نظر في الأسباب. ويكثر في هذه الأجواء المفعمة بالجهل الاستشهاد والتعلل بآية على غير وجهها، وهي (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا). والله علمنا أنّ النوازل تنزل بقدر قائم على سبب (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وكذلك علمنا كيف نتعامل مع الأقدار إذا نزلت، لننتفع بنتائجها ردعاً وحساباً، أو صبراً واحتساباً، في نصوص كثيرة أذكر منها اثنين:

(قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) و (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ).

ومن تجاوز الوقوف مع هاتين الآيتين إثر النوازل، فإنّه مستهتر مقصر وهو في النهاية عاص لله. وقد يظن البعض أنّ وصف (مستهتر) ليس من فصيح اللغة، أقول جاء في اللسان: (ورجل مُسْتَهْترٌ لا يبالي ما قيل فيه ولا ما قيل له ولا ما شُتِمَ به). وأضيف من عندي على ما جاء في اللسان (وما فعل به) فكيف بالعدوان عليه، وتهديد حياته، وانتهاك حقوقه..؟ فالمستهتر عائش على هامش الحياة عيش البهائم لذاته ولذاته، والمقصر يسمع بأذنيه ويرى بعينيه ويقول لعلي أفعل وسوف أفعل، وكلاهما العاصي لله كما أسلفت، يحل بنفسه زيادة على المصيبة سخط ربه عليه.

إنّ المدقق المتأمل في النصوص السابقة يخرج بالنتيجة الحاسمة القاطعة أنّ بني آدم معرضون للابتلاء والافتتان منذ ولادتهم حتى موتهم بأنواع شتى من الفتن والبلايا، تبدأ بفتنة النفس والمال والأولاد ثم فتنة الناس بعضهم ببعض، إلى ما هو أكبر من ذلك من أمر الله تبارك وتعالى .. هل يخطر في بال أحد منا أن تكون بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم فتنة وابتلاء..؟ إقرؤوا حديث نبيكم: (إِنَّمَا بَعَثْتُك لِأَبْتَلِيَك وَأَبْتَلِي بِك) واقرؤوا كلام النووي في شرح ذلك الحديث:

(مَعْنَاهُ: لِأَمْتَحِنك بِمَا يَظْهَر مِنْك مِنْ قِيَامك بِمَا أَمَرْتُك بِهِ مِنْ تَبْلِيغ الرِّسَالَة وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْجِهَاد فِي اللَّه حَقّ جِهَاده، وَالصَّبْر فِي اللَّه تَعَالَى وَغَيْر ذَلِكَ، وَأَبْتَلِي بِك مَنْ أَرْسَلْتُك إِلَيْهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِر إِيمَانه، وَيُخْلِص فِي طَاعَاته، وَمَنْ يَتَخَلَّف، وَيَتَأَبَّد بِالْعَدَاوَةِ وَالْكُفْر، وَمَنْ يُنَافِق، وَالْمُرَاد أَنْ يَمْتَحِنهُ لِيَصِيرَ ذَلِكَ وَاقِعًا بَارِزًا فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا يُعَاقِب الْعِبَاد عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ، لَا عَلَى مَا يَعْلَمهُ قَبْل وُقُوعه، وَإِلَّا فَهُوَ سُبْحَانه عَالِم بِجَمِيعِ الْأَشْيَاء قَبْل وُقُوعهَا، وَهَذَا نَحْو قَوْله: {ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَم الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} أَيْ: نَعْلَمهُمْ فَاعِلِينَ ذَلِكَ مُتَّصِفِينَ بِهِ).

فماذا تقولون في ابتلاء هو معنا في كل شأن من شؤوننا، ويتعرض له كل مخلوق، ولم ينج منه سيد البشر صلى الله عليه وسلم..؟

ومن الفتن ما أُولي من الرسول صلى الله عليه وسلم اهتماماً خاصاً لأنّه شر فتنة، وهي فتنة الدجال: (لأنا لفتنة بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال، ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها، وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال). ولشدة فتنة الدجال أمرنا بالتعوذ منها تعوذاً يلازم صلاتنا، وهل ذاك إلا لخطورتها على الناس..؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال).

وبين لنا النبي الكريم أنّها أسوأ نموذج للفتنة في هذه الحياة تحذيراً لنا من فتن كثيرة تلتقي معها في السبب والمنشأ .. وحتى إذا فاضت الروح وودع الإنسان الدنيا مقبلا على الآخرة وجد الفتنة تنتظره في قبره. جاء في الحديث الصحيح: (أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِى قُبُورِكُمْ، مِثْلَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ. ثَلاَثًا، فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِى، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ).

إذاً ليس أحد من البشر بناج من الابتلاء في هذه الحياة .. وإذاً فلا شك بأنّ الابتلاء سنة من سنن الله في خلقه، فكيف نتعامل مع سنة الابتلاء؟

نعود لنحدد أنفسنا بموضوع الابتلاء بعد أن كاد الاستطراد ينأى بنا عنه. كيف نتعامل مع سنن الابتلاء؟

وزيادة في الإيضاح، وربطا للموضوع بالواقع، أطرح السؤال بأسلوب آخر فأقول: إنّ المصائب والنوازل من الابتلاء، فكيف يتعامل معها المسلم إنْ وقعت؟

الإجابة عن هذا السؤال تلتهم الوقت مهما طال، وهي موضوع طويل الذيل مترامي الأطراف. لكن لا بد من الضغظ والإيجاز لإعطاء النافع المفيد، في وقت عن الساعة لا يزيد .. فذلك أدعى لفهم عميق يعين على الفعل والتطبيق .. أقول: أُجمل أسلوب مواجهة الابتلاء (النوازل) في عناصر أربعة:

1. الالتصاق بالوحيين.

2. التعامل مع الابتلاء بثوابت السنن الإلهية.

3. التعامل مع الابتلاء بالصبر من أجل عدم ضياع الأجر.

4. مواجهة الابتلاء بالحكمة للخروج من ذلك بفوز ودرس وعبرة.

وإلى الشرح والتفصيل:

أولا: الالتصاق بالوحيين

لا أقول إنّ بُعد الناس عن الوحيين أو إقصاءهما من حياة الناس سبب للمصائب والنوازل ولكنّي أقول: إنّ إقصاء الوحيين من حياة المسلمين نازلة، في حد ذاته، وأي نازلة، فضلاً عما يتداعى عن تلك النازلة العظيمة من النوازل..! إنّ هذا الإقصاء هو الذي جر المصائب التي آلت بالمسلمين إلى ما نرى، وهي التي أغرت الأعداء بهم، وجرأتهم على استباحة أرضهم والعبث بقيمهم وإملاء مشاريعهم الاستعمارية والاستيطانية عليهم، وإمطارهم بوابل من محدثات العولمة .. لأنّهم اعتزوا بغير الله، واستنصروا بخلقه لا به، فضعفوا ووهنوا، وذلوا وهانوا. فبنوك الربا وحانات الخمور وملاهي الليل، ودور الفاحشة تغمر كثيراً من بلاد الإسلام، وهل يختلف الشارع في أية مدينة في بلد إسلامي عنه في بلد كافر..؟ والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب المقروء في أكثر بلدان المسلمين لا يخاله الإنسان إلا مُعبراً عن حال وحياة وفكر وتطلع أعداء المسلمين. والبدع المحدثة ملء حياة الناس الدينية بل إنّ مساجدهم تعمر بالبدع أكثر من عمارتها بالسنن .. ولكي نكون واضحين لا بد من أن نسأل ابتداء هذا السؤال: من المسؤول بل المتهم الأول عن هذا الإقصاء؟

الجواب: المتهم هو كل مسلم بلا استثناء، وكل داعية ومرب وشيخ. وإنّ هذا الإقصاء لم يكن متعمداً، فلو كان كذلك لكان هو الكفر بعينه، لكن الذي جر إليه غفلة وجهل وتقليد
وهوى.

إنّ عدم وضوح الرؤية الإسلامية في أنّ الدين المقبول عند الله والذي دعا إليه رسول الله وأصحابه من بعده، هو (ما أنا عليه وأصحابي)، وأنّ كل دعوة لا يتحقق فيها هذا الوصف فليست دعوة النبي وأصحابه .. إنّ عدم الوضوح هذا ينعكس في النتيجة إقصاء للوحيين. ولنُعِد إلى ذواكرنا الآية التي هي أصل هذا الحديث والتي لا بد من استحضارها عند ذكر (ما أنا عليه وأصحابي) لأنّ الكثير من المسلمين وأشياخ المسلمين لا يزالون في مرية من هذا الحديث الذي لن يكون إصلاح ولا تغيير صحيح إلا على ضوئه وبمقتضاه. والآية هي قوله تعالى: (فإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). ولن ينفع المسلمين على مستوى الأفراد والأمة أية إصلاحات في أي مجال، حتى على صعيد مواجهة العدو، قبل إصلاح الدين والعودة به إلى (ما أنا عليه وأصحابي).

ثانياً: التعامل مع الابتلاء بثوابت السنن الإلهية

إنّ لله في خلقه سنناً تحكم الصراع بين الحق والباطل إلى يوم القيامة، وتهدي أهل الحق سواء السبيل في تصديهم لأهل الباطل. والإخلال بتحكيم هذه السنن الثابتة في الصراع يُحول المواجهات من أن تكون شرعية يراد بها وجه الله، لتصبح سياسية أرضية تحكمها المصالح والأهواء، وشريعة الغاب أحيانا .. وفشل المسلمين في تحكيم تلك الثوابت يورث تشوها في التصور والتفكير، وانحرافا في العمل والمسير. ولقد أطلنا القول سابقا في بحث السنن الإلهية وإسقاطها على النازلة الأخيرة والنوازل من قبلها، فلا حاجة للإطالة، وأكتفي أن أذكر بأبرز تلك السنن قوله تعالى:

. (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)

. (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ). (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).

. (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ).

. (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى). (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم العينة).

هذه الآيات، وغيرها كثير في كتاب الله، لكنّي اقتصرت على بعضها ضنا بالوقت، أسميها ركائز التعامل مع الابتلاء من خلال الثوابت الإلهية التي علمنا ربنا إياها .. وكذلك الآحاديث الصحيحة التي جاءتنا عن رسول الله عليه السلام .. وكما أسلفت فلقد كان لنا معها وقفة طويلة أرجوا استحضارها إلى أذهانكم.


ثالثاً: التعامل مع الابتلاء بالصبر من أجل النصر وعدم ضياع الأجر

إنّ مواجهة الابتلاء لا تكون إلا بالعزيمة والثبات لا بالهزيمة والخور. ومواجهة المصائب والنوازل يحتاج إلى النفوس قبل الأجسام:

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبت في مرادها الأجسام

وكيف تُعبأ النفوس للمواجهة، وتُهيء للتحدي .. وتُعد للتحمل .. إلا بالصبر.

ومن العجيب، ومن عظمة هذا الدين أنّ الدعوة إلى الصبر في الإسلام يعتمد على إفهام المصَبَّر عاقبة الصبر، وليس تصبيره كلامياً ونظرياً ومعنوياً دون تجسيد عواقب الصبر ماديا. ولا تنسوا نبيكم في مكة، قبل أن يؤذن له في القتال يمر على أصحابه وهم يسامون سوء العذاب في الرمضاء ولا يستطيع أن يفعل من أجلهم شيئأ إلا أن يقول مبشرا (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة) هما كلمتان متلازمتان منه صلى الله عليه وسلم (الصبر والجنة). وفي الكتاب الكريم آيات عدة في موضوع الصبر، أختار بعضها:

. (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

. (وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ). (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ).

. (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا).

. (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ). (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

. (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

.(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)

. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)


ولدى الحديث عن الصبر، لا بد من تجلية نقاط ثلاث:

أ. إنّ المدقق في آيات الصبر السابقة، وكل النصوص التي تتحدث عن الصبر، يجد أنّ الإشارة إلى الصبر تقترن دائما بإشارة إلى الإيمان أو إلى إحدى خصال الإيمان مثل: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). و(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

وغير ذلك كثير، فما مغزى ذلك يا ترى؟

إنّه مغزى عظيم جداً، يتميز فيه صبر المؤمنين وإيمان الصابرين عن صور أخرى من الصبر. يريد ربنا تبارك وتعالى أن يُعرفنا أنّ الصبر المأمور به هو الصبر الذي يصدر عن الإيمان، والذي يحتسب عند الله، والذي يترافق مع خصال الإيمان وليس شيئا آخر. هو الصبر الذي ختمت نصوصه بالتبشير بالجنة، والمثوبة العظيمة من الله لأصحابه، وليس صبراً أرضي المنزع لا يتعامل إلا مع موعود الأرض .. أردت هذا الإيضاح ليُعلم أنّه ليس كل الصابرين سواء، كما أنّه ليس كل الشهداء سواء .. حتى لا تختلط الصورة فنجد بعض الخطباء (من أهل اللحى) وللأسف يتغنون ويتحدثون عن تضحيات وثبات لينينغراد، ومصابرة أهل فيتنام، وثبات ديغول وغير ذلك.

ب. الصبر في حياة المؤمن أنواع هي فوق الحصر، وطرائق أوسع من التقصي. ومن أعظمها، وهو في أعين الكثيرين بسيط أو غير ملموس الصبرُ على طريق دعوة الناس وهدايتهم، ومثله بل أعظم منه الصبر على انتظار النتائج، وقطف الثمار .. وفشل الصبر في هذه الحال يفضي إلى الاستعجال الذي يجهض العمل ويفسده، ويعبث بالمنهج ويبعده. ومن أخطر الآفات التي تتسلط على الصبر اليأس، فصبر اليائس لا فعل له ولا ثواب عليه لأنّه لم يجد بدا من الصبر فصَبَر، فهو بمعنى آخر الخضوع للأمر الواقع قهرا، وركوب مطية الصبر قسراً .. وما أعظم الصبر مقترنا بالأمل، وقد يكون هو الصبر الجميل الذي جاء عن يعقوب عليه السلام.

ج. كذلك فإنّ الصبر في حياة الإنسان متنوع من حيث المصبور عليه، فهذه المعلومة ضرورية لمن غلب على ظنه أنّ الصبر لا يكون إلا على الشدة والمكاره .. فماذا نفعل في قوله تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا).

فالمؤمن بحاجة إلى الصبر في حياته، لا من أجل حل مشكلة تعترضه، أو معالجة نازلة ألمت به وحسب، بل يصبر ويصطبر ليصبح الصبر عنده خلقا يتعامل به مع ما يحب وما يكره، ومع كل نشاطات الحياة. فليُعَوِّد أحدنا نفسه أن يكون الصبر معه في المنشط والمكره، وأن يتحلى به في الشدة والرخاء.

وهذه بعض الأقوال في الصبر:

قال أحدهم: (الصَّبْرُ صَبْرَانِ: فَاللِّئَامُ أَصْبَرُ أَجْسَامًا، وَالْكِرَامُ أَصْبَرُ نُفُوسًا. وَلَيْسَ الصَّبْرُ الْمَمْدُوحُ صَاحِبُهُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَوِيَّ الْجَسَدِ عَلَى الْكَدِّ وَالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ، وَلَكِنْ أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ غَلُوبًا، وَلِلْأُمُورِ مُتَحَمِّلًا، وَلِجَأْشِهِ عِنْدَ الْحِفَاظِ مُرْتَبِطًا).

وقال آخر: (الصبر صبران: صبرٌ على ما تكره، وصبرٌ عما تحب، والرجل من جمعهما).

ونسب إلى عمر قوله: (الصبر صبران الصبر على المصيبة حسن وأحسن من ذلك الصبر عن المعاصي).

ولا بد من أن نستعرض بعض نصوص السنة في موضوع الصبر:

. عن عبد الله بن مسعود قال: (قَسَمَ النَّبِىُّ قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. قُلْتُ أَمَّا أَنَا لأَقُولَنَّ لِلنَّبِىِّ فَأَتَيْتُهُ وَهْوَ فِى أَصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِىِّ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَغَضِبَ، حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ ثُمَّ قَالَ: (قَدْ أُوذِىَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ)).

. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أوذي أحد ما أوذيت في الله).

وفي رواية للحديث أطول: (لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أحدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أحدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عليَّ ثَلَاثٌ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي طَعَامٌ إِلَّا مَا واراهُ إبطُ بلال).

. (أفضل الإيمان الصبر والسماحة).

. (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ).

. (إنّ الله تعالى ينزل المعونة على قدر المؤنة، وينزل الصبر على قدر البلاء).

. (مَا يَكُنْ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ لاَ أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ).

. (النصر مع الصبر والفرج مع الكرب، وإنّ مع العسر يسرا).


وأختم بالحديث الآتي:

عن خباب رضي الله عنه قال: (شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا. فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)).

رابعاً: مواجهة الابتلاء بالحكمة للخروج من ذلك بفوز ودرس وعبرة

إنّ النوازل والفتن تفعل في الناس أفعالا عجيبة على أصعدة كثيرة .. ولكن أخطر فعل لها أنّها تسقط في أيدي الناس، وتفقدهم توازنهم، فيفقدون القدرة على الحركة الصحيحة والمعالجة الناجعة، ومعرفة طريق الخلاص .. حتى أهل النهى من الناس والذين ينتظر لهم دور في الحل، قد تطيش سهامهم، ويصلون بسوء تعاملهم مع النازلة إلى نتائج تهون أمامها النازلة نفسها .. من هذا فإنّ التحلي بالحكمة، وحفظ التوازن، واستحضار الحلول المقتبسة من الثوابت، وهل عند المسلم من ثوابت غير الوحيين..؟ أفضل عدة تستقبل بها النوازل. أما التخبط، وإشراك من يحسن ومن لا يحسن في المعالجة، والاستهداء بالمتغيرات من أحوال الناس وآرائهم وأقوالهم فلا يزيد الأمر إلا سوءاً ووبالاً.

وقد يشاء الله تبارك وتعالى، إذا أراد بالمسلمين خيرا، لكونهم أهلا لنصره وتسديده، أن يقيض لهم من تختزل الأمة بشخصه وحكمته وحزمه وحسن تدبيره، فيقي الأمة غائلة الأمواج الهوج، وخطورة التيه في لجج البحر ويوصلها شاطيء السلامة. وهذا لا شك من جند الله التي لا يعلمها إلا هو، والتي يرسلها متى شاء فتقلب الموازين وتغير وجهة الأحداث خلافا للمرئي والمتوقع من خلال المنظار الدنيوي الأرضي .. وتنقَذ الأمة عندئذ من إمارة الصبيان، كما أسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهيمنة الأغرار عند المحن. ويجب أن لا ننسى أنّ كل ذاك الخير يجلبه وجود طائفة في الأمة تستحق نصر الله، وتحسن استقباله واستثماره.

وحتى لا أسهب في التوصيف، فإنّي أترككم إلى مثال معبر جدا عن الفكرة اختاره لكم ابن تيمية رحمه الله، فأصيخوا سمعكم: (والمقصود هنا أنّ أبا بكر كان أشجع الناس ولم يكن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أشجع منه ولهذا لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم حتى أوهنت العقول، وطيشت الألباب، واضطربوا اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة القعر، فهذا ينكر موته، وهذا قد أقعد، وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه، ومن يسلم عليه، وهؤلاء يضجون بالبكاء، وقد وقعوا في نسخة القيامة، وكأنّها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى، وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين، وذلت كماته، فقام الصديق رضي الله عنه بقلب ثابت، وفؤاد شجاع فلم يجزع، ولم ينكل، قد جُمع له بين الصبر واليقين فأخبرهم بموت النبي وأنّ الله اختار له ما عنده، وقال لهم: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).

(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). فكأنّ الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق فلا تجد أحداً إلا وهو يتلوها، ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم.

قال أنس رضي الله عنه: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه وكنا كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود.

وأخذ في تجهيز أسامة مع إشارتهم عليه، وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص، وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة فهو مع الصحابة يعلمهم إذا جهلوا، ويقويهم إذا ضعفوا، ويحثهم إذا فتروا، فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم، حتى كان عمر – مع كمال قوته وشجاعته – يقول له: يا خليفة رسول الله تألف الناس، فيقول: علام أتألفهم؟ أعلى دينٍ مفترى؟ أم على شعرٍ مفتعل؟).

إنّ هذه الأمة، بالإسلام الذي تحمله، لا تعيش عيش السيادة والاستعلاء في الأرض إلا ما دامت مستمسكة بدينها وفق هدي نبيها وهدي السلف متمثلا بالقرون المشهود لها بالخيرية. ويوم يمكر بها أعداؤها، يتولى الله الدفاع عنها وهو خير الماكرين، مادامت حاملة دينه ومبلغة كلمته لأهل الأرض .. ولتكون بحق خير أمة أخرجت للناس .. فإنّ الله تبارك وتعالى أنزل دينه ليسود وينتشر لا ليضعف وينحسر (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ). فإن غيرت هذه الأمة وبدلت، وأعرضت وتولت، فإنّ الله ناصر دينه بقدرته التي لا تحد، مستغنيا عن البشر كلهم .. لكنّ الله شاء بحكمته أن يجعل نصرة دينه فرصة لعباده المؤمنين يعز فيها من يعز إن قدم وبذل، ويذل فيها من يذل بإعراضه وتخليه، قال عليه السلام: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز، أو ذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر).

ولعل هذا التكليف والتخيير من أشد أنواع الابتلاء للناس، فهل ينجحون فيه يا ترى..؟

ومما يجب أن يعلم ليكون عونا على تخطي عتبة الابتلاء، أنّ الله لا يكلف الناس ما لا يطيقون، وأنّ حسابهم، والذي نُعبر عنه أحيانا بالنجاح أو الفشل يكون متناسبا مع قدرتهم وطوقهم، نستنتج من ذلك أنّ أي تراجع في النتيجة لا بد أن يحمله المبتلى وحده لأنّه هو السبب الوحيد لذاك التراجع.

ولا يظنن ظان أنّ الابتلاء من الله لا يكون إلا في عظائم الأمور، إنّ كل أمر في هذه الحياة يتأرجح بين الحرام والحلال، وبين الطاعة والمعصية، فإنّ وقوف الإنسان في مواجهته للاختيار، هو باب من أبواب الابتلاء. فلنحرص على الإفادة منه، ولنكن في النهاية ممن يُعَزُّون بعز الإسلام، ويكون لهم سهم في صنع ذاك العز … والحمد لله رب العالمين