Skip to main content

حَوْلَ حَدِيثِ: (بِاسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا)

By الأحد 24 رجب 1437هـ 1-5-2016ممحرم 20, 1441فتاوى

سؤال يكثر طرحه على المواقع الإسلامية حول حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ترويه عائشة رضي الله عنها، في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن قالت: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى الإِنْسَانُ الشَّىْءَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جَرْحٌ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَهَا: (بِاسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا)).

وقد جاء تفسير الحديث، في عون المعبود: (مَعْنَى حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ريق نفسه على أصبعه السبابة ثم يضعها عَلَى التُّرَابِ فَيَعْلَقُ بِهَا مِنْهُ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْجُرْحِ وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَرَكَةِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَيَنْضَمُّ أَحَدُ الْعِلَاجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ فَيَقْوَى التَّأْثِيرُ).

والمُشْكِلُ،
هل ما جاء من فعله وقوله في الحديث تعليمٌ للأمة، فيفعله كلُّ أحدٍ من بعده؛ أم أنّ الحديث يروي خصوصيةً من خصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام، تبقى منحصرة في شخصه الكريم؟

ولدى مراجعة بعض أقوال شراح الحديث كابن حجر، والنووي، والعظيم آبادي، تبين أنّهم ينقلون أنّ أكثر العلماء يميلون إلى إطلاق معنى الحديث، من إسار الخصوصية، معللين ذلك بما كان يقوله قدماء الأطباء وقد أوردتْ بعض الكتب اسم (جالينوس). فيقول ابن حجر في الفتح، مثلا: (وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا أَنَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ تُرَابَ الْأَرْضِ لِبُرُودَتِهِ وَيُبْسِهِ يُبْرِئُ الْمَوْضِعَ الَّذِي بِهِ الْأَلَمُ، وَيَمْنَعُ انْصِبَابَ الْمَوَادِّ إِلَيْهِ لِيُبْسِهِ، مَعَ مَنْفَعَتِهِ فِي تَجْفِيفِ الْجِرَاحِ وَانْدِمَالِهَا. قَالَ وَقَالَ فِي الرِّيقِ إِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالتَّحْلِيلِ وَالْإِنْضَاجِ وَإِبْرَاءِ الْجُرْحِ وَالْوَرَمِ لَا سِيَّمَا مِنَ الصَّائِمِ الْجَائِعِ .. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ، أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا وَقَعَتِ الْمُعَالَجَةُ عَلَى قَوَانِينِهَا مِنْ مُرَاعَاةِ مِقْدَارِ التُّرَابِ وَالرِّيقِ وَمُلَازَمَةِ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتِهِ. وَإِلَّا فَالنَّفْثُ وَوَضْعُ السَّبَّابَةِ عَلَى الْأَرْضِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَا لَيْسَ لَهُ بَالٌ وَلَا أَثَرٌ وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ التَّبَرُّكِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَآثَارِ رَسُولِهِ…).

ويضيف ابن حجر: (وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ قَدْ شَهِدَتِ الْمَبَاحِثُ الطِّبِّيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلرِّيقِ مُدْخَلًا فِي النُّضْجِ وَتَعْدِيلِ الْمِزَاجِ وَتُرَابُ الْوَطَنِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي حِفْظِ الْمِزَاجِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ. فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ تُرَابَ أَرْضِهِ إِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِصْحَابِ مَائِهَا حَتَّى إِذَا وَرَدَ الْمِيَاهَ الْمُخْتَلِفَةَ جَعَلَ شَيْئًا مِنْهُ فِي سِقَائِهِ لِيَأْمَنَ مَضَرَّةَ ذَلِكَ…).

ثم ينقل عن التُّورِبِشْتِيُّ:
(كَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتُّرْبَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى فطْرَة آدَمَ وَالرِّيقَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى النُّطْفَةِ كَأَنَّهُ تَضَرُّعٌ بِلِسَان الْحَال إِنَّك اخترعت الأَصْل الأول مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ أَبْدَعْتَهُ مِنْهُ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَهَيِّنٌ عَلَيْكَ أَنْ تَشْفِيَ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ نَشْأَتَهُ…).

وبعد هذه النقول في الفتح نرى ابن حجر لا يعطينا ترجيحه
في المسألة، وهذا غريب…!

ونقل العظيم آبادي في (عون المعبود) قول ابن القيم، فقال: (قال الحافظ بن الْقَيِّمِ هَذَا مِنَ الْعِلَاجِ السَّهْلِ الْمُيَسَّرِ النَّافِعِ الْمُرَكَّبِ وَهِيَ مُعَالَجَةٌ لَطِيفَةٌ يُعَالَجُ بِهَا الْقُرُوحُ وَالْجِرَاحَاتُ الطَّرِيَّةُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَدْوِيَةِ إِذْ كَانَتْ مَوْجُودَةً بِكُلِّ أَرْضٍ .وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ طَبِيعَةَ التُّرَابِ الْخَالِصِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ مُجَفِّفَةٌ لِرُطُوبَاتِ الْجُرُوحِ وَالْجِرَاحَاتِ الَّتِي تَمْنَعُ الطَّبِيعَةُ مِنْ جَوْدَةِ فِعْلِهَا وَسُرْعَةِ انْدِمَالِهَا…).

ويختم العظيم آبادي بقوله: (وَهَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا جَمِيعُ الْأَرْضِ، أَوْ أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مِنَ التُّرْبَةِ مَا يَكُونُ فِيهِ خَاصِّيَّةٌ يُنْفَعُ بِهَا مِنْ أَدْوَاءٍ كَثِيرَةٍ وَيَشْفِي بِهَا أَسَقَامًا رَدِيَّةً…).

ثم ينقل عن جالينوس: (قَالَ جَالِينُوسُ رَأَيْتُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَطْحُولِينَ وَمُسْتَسْقِينَ كَثِيرًا يَسْتَعْمِلُونَ طِينَ مِصْرَ وَيَطْلُونَ بِهِ عَلَى سُوقِهِمْ وَأَفْخَاذِهِمْ وَسَوَاعِدِهِمْ وَظُهُورِهِمْ وَأَضْلَاعِهِمْ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ مَنْفَعَةً بَيِّنَةً.قَالَ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ قَدْ يَقَعُ هَذَا الطِّلَاءُ لِلْأَوْرَامِ الْعَفِنَةِ وَالْمُتَرَهِّلَةِ الرَّخْوَةِ قَالَ وَإِنِّي لَأَعْرِفُ قَوْمًا تَرَهَّلَتْ أَبْدَانُهُمْ كُلُّهَا مِنْ كَثْرَةِ اسْتِفْرَاغِ الدَّمِ مِنْ أَسْفَلَ انْتَفَعُوا بِهَذَا الطِّينِ نَفْعًا بَيِّنًا).

ولقد نقل ابن حجر عن النووي قوله: (قِيلَ الْمُرَادُ بِأَرْضِنَا أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِبَرَكَتِهَا، وَبَعْضِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشَرَفِ رِيقِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْصُوصًا، وَفِيهِ نَظَرٌ). فلم يجزم النووي بموقف، وحتى ابن حجر لم يعط رأيه في ذلك القول..‍!

وجَهِدْتُ في معرفة ترجيح بعض المعاصرين، كالألباني والعثيمين، ولم أعد بطائل. فالعثيمين قال في فتوى: (ذكر بعض العلماء أنّ هذا مخصوص برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأرض المدينة فقط وعلى هذا فلا إشكال. ولكن رأي الجمهور أن هذا ليس خاصّاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بأرض المدينة بل هو عام في كل راق وفي كل أرض ولكنه ليس من باب التبرك بالريق المجرد بل هو ريق مصحوب برقية وتربة للاستشفاء وليس لمجرد التبرك). ولم يعط ترجيحا.

وتفتي هيئة كبار العلماء بالآتي: (وأكثر العلماء على أنّ هذه الصفة عامة لكل راقٍ ولكل أرض. وذهب بعضهم إلى أن ذلك مخصوص برسول الله وبأرض المدينة . والصحيح هو الأول لعدم المخصص. والله أعلم).

وفي كل النقول السابقة نرى العلماء يطيلون الكلام في معتقدات وأفكار ليس عليها أثارة من علم، وكلها من طب قديم لا يتابع، غايتهم تعميم الحديث كما أسلفنا. وكان الأولى والأحرى أن يعمدوا إلى الترجيح الذي يأوي إلى ركن شديد، وهو القول بأنّ الحديث خاص به صلى الله عليه وسلم، والأدلة على بركة ريقه ونفثه وأصبعه الشريفة، مستفيضة لا تخفى، ويكون الشفاء حاصلاً بتلك البركة، وليس بخصائص التراب، والريق كل ريق .. وترك الأمر لعبث المشعوذين والدجالين، والله أعلم.