Skip to main content

المُقَاطَعَةُ

By الأحد 26 شوال 1437هـ 31-7-2016مربيع الأول 12, 1442فتاوى

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
موضوع أن لا يكون لنا من شغل إلا أن نتتبع الصحف الكافرة لنقول قالوا كذا وكذا، ونحن تاركون أمورنا مكشوفة، وأجيالنا تائهة، منزلق كبير .. وقبل أي كلام أقول:
كم من المسلمين، من نخبهم ودعاتهم، من يسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ذرا المنابر، وفي الفضائيات والندوات، حينما يروج لبدعة، أو لحديث ضعيف أو موضوع .. وحينما يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في مسألة فقهية، يصح فيها الحديث، ويكون في معناه واضحاً كالشمس. ويخالف الحديث انتصاراً لمذهب، أو شيخ، أو اتباعاً للهوى. وهذه عند الله أشد من كفر الكفار .. لكنّنا نشغل أنفسنا عن هذا، ونتستر على مخالف السنة، ونتستر على المبتدع بتلك الفرقعات، ونقول إنّنا نحمي حمى الإسلام، بفضح أعدائه.
كأنّنا نخالف المنطق، نخالف العقل، ماذا يُرجى من الكافر..؟ كأنّنا لم نقرأ قول ربنا: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
هل نريد من أهل الكفر أن يحبوا نبينا؟ هل نريد من أهل الكفر أن يحترموا نبينا؟ وإن احترموه فبميثاق الأمم المتحدة يفعلون، وليس إيماناً به، أو لأنّه جدير بالاحترام عندهم..! كل الموسوعات الغربية بتعدد لغاتها حينما تذكر اسم محمد تصفه أحياناً بكلمة (مجدف)، لاعتقادهم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم جاء ليفسد الديانة النصرانية، ولا يصفونه أنّه نبي.
من هنا آن لنا أن نغلق هذا الملف، فكلما غاب، قام من يحرك ويحرض على إحيائه.

ثم نأتي إلى المقاطعة، ماذا تقدم المقاطعة؟ نحن نتعامل مع دول اقتصادها أثبت من أن تزري به مقاطعة، ثم لو أنّنا قاطعناهم، فهؤلاء لا يساومون على كفرهم، وسرعان ما يوجدون البدائل قائلين لنا، موتوا بغيظكم .. إنّنا يوم نقيس الأعداء بضعفنا وتقاعسنا، نخطىء الحساب، ولا نحقق كسبا .. هل نظن أنّنا إذا قاطعناهم سيقولون: سمعنا وأطعنا..؟ دعوكم من هذه الأوهام.
ذات مرة، يوم بدأت قضية الدانمارك، وبدأ الشباب يرسلون لي على الجوال ما رأيك يا شيخ؟ وماذا نفعل؟ جادت القريحة بثلاثة أبيات أجبت بها كل سائل، قلت فيها:

أحيوا اتباعا سنة العدنان
إنّ العدو لفي الديار وفيكُمُ
صفُّوا وربُّوا والنفوس فجاهدوا

والحق ما يأتي به الوحيان
ليسوا بأرض الكفر يا إخواني
ودَعوا جهادَ الزُّبْد والأجبانِ

قصدت منها أنّنا قبل أن نرنوَ بأبصارنا إلى أولئك، وإلى انحرافهم، وإلى تصَدِّيهم لنبينا .. علينا أن نرتب أوراقنا الداخلية، علينا أن نصلح صفنا. فقلت:
(أحيوا اتباعا سنة العدنان) .. فسنة النبي صلى الله عليه وسلم ليست متبعة في مساجدنا، في عباداتنا .. ضللنا في متاهات الخلافات والمذهبيات الضيقة. أحيوا هدي نبيكم، اتبعوا سنته، ولا تقدموا على ذلك أقول الرجال، تكونون معظمين نبيكم، وإلا تكون فعلتكم، وأنتم تُحسبون من المؤمنين، أشنع عند الله من فعل الكفار … قبل أن تهبوا ضد الصحيفة الفلانية، والرسوم المسيئة أقيموا الإسلام الحق في نفوسكم، وعلى أرض المسلمين، تكونون قد قدمتم ما ينبغي لنبيكم وإسلامكم ولأنفسكم .. أما أن نقيم الدنيا ولا نقعدها من أجل إقامة بعض حقائق الإسلام في بلاد الكفر، وهي في أرض الإسلام غير قائمة، فإنّه الكذب على الله، وعلى الغير، وعلى النفس، وهو إدبار ما بعده من إدبار.

(والحق ما يأتي به الوحيانِ) فالحق، أنّ تطبيق الوحيين: الكتاب والسنة، لا زال يُفعل على استحياء عند كثير من المسلمين، وأحياناً تجد من يناقشك من أين أتيت بلفظة الوحيين، لأنّهم تعلموا، من بعض مشائخهم، أنّ السنة ليس وحياً كالقرآن، وهذا نتيجة تسلل نزعة القرأنيين إلى بعض المشائخ والدعاة .. في المسلمين أناس لا يعرفون أنّ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي كما القرآن، ولم يسمعوا أبداً ما جاء في البخاري عن التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي يقول: (كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، ويُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا كَمَا يُعلِّمُهُ الْقُرْآنَ).

وأقصد فعلاً وليس من قبيل المبالغة، أنّ العدو الحقيقي للإسلام عندنا، ومن جلدتنا وفي مساجدنا وعلى منابرنا .. لا تستغربوا هذا، لأنّ كفر الكافر مهما كان، لا يضعف دين الله، كما يضعفه انحراف معمم يُدَرِّس انحرافه أبناء المسلين. كما يضعفه خطيب في مسجد لثلاثين سنة وهو معروف بالاعتزال يبثه في الناس، كما يضعفه مبتدع يُسوق بدعته عن طريق مخاطبة عواطف الناس وجهلهم، وما انتشار البدع اليوم، في بلاد المسلمين، واستعصاؤها على المصلحين، إلا بسبب تصدي المبتدعة لهم، وإثارة الدهماء والغوغاء ضدهم بعبارة (هؤلاء وهابيون).
نحن أحوج ما نكون اليوم إلى تربية الناشئة على إسلام مُصفى من كل ما علق به مما ليس منه، على مر العصور، وإخراج كل البدع منه.
وكم نحن بحاجة إلى مجاهدة أنفسنا وأهوائنا، عملاً بالحديث الصحيح: (أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل) .. تركنا التربية والتصفية، وجهاد أنفسنا، وذهبنا نقاطع الجبنة الدانماركية تارة، والسيارات الأمريكية أخرى وهكذا، لأنّنا نجاهد في ساحة لا تتطلب من مهارات وأهليات غير (صف الكلام، وعلو الصوت)، وما أسهله من جهاد، وما أغباه من هروب من الواجب..!
دعونا من هذا .. والله أن يقيم أحدنا هدي نبيه في نفسه، وفي أسرته، وفي كلام يقوله للناس، هو الذي يخدم جناب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا الكلام الذي نفرغ فيه شحنات فقط، لأنّنا عاجزون عن العمل الحقيقي، لا لأنّه صعب، ولكن لأنّ إرادتنا في ذلك ضعيفة.

أختم بفكرة هامة جداً، وإن كانت تبدو خارج الموضوع إلا أنّ سياقها في صميم الموضوع وهي: متى نُحترم في العالم كله؟ متى يحسب الناس لنا حساباً؟ ومتى يخطبون ودنا؟
إنّ المسلمين نحو مليار وثلث مسلم، لكنّهم يعيشون في فضاء، لأنّهم لا يعيشون في كنف أمة، ليس لهم غطاء واقٍ، وليس لهم جدران تحميهم وتسترهم، عرضة لكل خطر. صحيح أنّ المساجد ملآى، وصحيح أنّ الحرمين مكتظان في العام كله، وصحيح أنّ أعمال الخير ومؤسساته في كل مكان .. كل ذلك لا يُغني، ولا يحقق الأهداف. نحن نقع في خطأ كبير يوم نقارن المعنوي بالمادي، الذي يملأ أعيننا وندركه بكل حواسنا. أما المعنوي فيحتاج لإدراكه شفافية يورثها الإيمان .. علمنا نبينا هذا لكنّنا ما وعيناه، لأنّ تفكيرنا صار يجنح إلى المادي .. لنقرأ الحديث: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذ؟ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل).
أليس في هذا تعليم لنا، لنهتم بالمعنوي..؟ فالمادي وحده لا يغني. والمسلمون اليوم كثرة لا غناء فيها، لانعدام وزنها النوعي.
أجل الأمة غائبة، ولما غابت الأمة أصبحنا في ذيل الركب، ولم يعد لنا في العالم شوكة، ولم يعد لنا مهابة، بل لم يعد لنا وزن كأنّنا غير موجودين، وأحداث المنطقة اليوم خير شاهد .. ولا زال الكثير من الدعاة، ومن الملتزمين، بل ومن الطيبين، لا يقبلون القول: إنّه يجب أن نترك التفكير في أي إصلاح، لنتفرغ ونفكر في أسلوب العمل لمشروع إصلاحي مركزي عظيم، هو إسترداد الأمة الغائبة والغثائية، إن لم أقل الميتة.
الأمة كيان معنوي من فعل القادر على كل شيء تبارك وتعالى .. هو من جنس قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وهذا لا علاقة له بالكثرة والقوة المادية.
الأمة كيان، أما الأرقام فليست كياناً .. أسرتان متماثلتان في كل شيء إلا أنّ الأولى فيها بر الوالدين قائم والأولاد على التزام وخلق وعلم، كل شيء يهيء لتوفيق الله ولكل نجاح .. هذا يمثل المسلمين حينما تكون أمتهم حاضرة.
أما الثانية فكل أمرها فرطا فلا بر ولا التزام ولا خلق، يمين ويسار، رقص وغناء، سفور وابتذال، كل شيء يؤهب لسخط الله والسقوط .. هذا مَثل المسلمين اليوم وكيان الأمة غائب..!

آخر مثال أضربه: منذ سنتين، اجتمع في مصر، من أجل سوريا خمسمائة عالم، واتخذوا قرارات أنّهم سيعلنون الجهاد المقدس. ماذا حرك هذا في العالم..؟ آن لنا أن نعلم أنّ الخمسمائة عالم لا يرهبون العالم، لا بقاماتهم ولا بعمائمهم، ولا بأردانهم العريضة .. إنّهم يرهبون العالم ويخيفونه إذا كانوا يأوون إلى ركن شديد وهو ركن الأمة .. شيخ واحد يقوم ويتكلم ومن وراءه أمة، يأوي إليها، يُخيف العالم، وخمسمائة لا أحد علم بهم.

أقيموا من جديد حياتكم الدينية على اتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم، تُوحدوا صفكم، وترهبوا عدوكم، وترضوا ربكم .. والحمد لله رب العالمين