إنّها واجب شرعي طواه النسيان، بل طواه الجهل بالسنة .. إنّها وليمة يُقدم فيها العروس الطعام للأهل والمقربين من الصحب في الأيام الثلاثة التي تعقب ليلة البناء (الدخول) وقد تكون مرة في الأيام الثلاثة. كما يجوز تكرارها. وقد جاءت فيها الأحاديث الآتية:
1. حديث بريدة بن الحصيب قال: (لما خطب علي فاطمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّه لا بد للعرس من وليمة)).
2. قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ).
وثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنّه ما تركها في كل زيجاته، لحديث أنس: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنّه ذبح شاة، قال: أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه).
أخذ بعض العلماء من النصوص السابقة أنّ وليمة العرس واجبة على القادر، وذلك هو الراجح. ومعنى الوجوب أنّ تركها للقادر عليها إثم يحاسب عليه فاعله.
وإذا كان الله قد أوجب الوليمة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنّه بالمقابل أوجب على المدعو إجابة الدعوة للأحاديث:
. عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا دُعِىَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ).
. وقال: (وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
. وقال: (إِذَا دُعِىَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ).
. وعن عبد الله بن عمر، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا دُعِىَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا). متفق عليه. وفي رواية لمسلم: (فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ).
ولعظم شأن الوليمة أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم إجابتها حتى على الصائم للحديث: (إذا دُعِيَ أحدكم فليجب، فإن كان مفطراً فَلْيَطْعَمْ، وإن كان صائماً فَلْيُصَلِّ). يعني: الدعاء.
وله أنْ يفطر إذا كان متطوعاً في صيامه، ولا سيما إذا ألح عليه الداعي، وفيه أحاديث:
. (الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر).
بل إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد ندب الصائم المتطوع إلى الفطر، إكراماً لأخيه الداعي وتقديراً لدعوته:
. عن أبي سعيد الخدري قال: (صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعاكم أخوكم وتكلف لكم!) ثم قال له: (أفطر وصم مكانه يوماً إن شئت)).
ولا يسقط وجوب إجابة الدعوة، إلا أن يكون فيها أو في مكانها منكر فيسقط الوجوب وتجب المقاطعة:
. عن علي قال: (صنعت طعاماً فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فرأى في البيت تصاوير، فرجع، قال: فقلت: يا رسول الله! ما أرجعك بأبي أنت وأمي؟ قال: (إن في البيت ستراً فيه تصاوير، وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تصاوير)).
. قال سالم بن عبد الله : (أعرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس، وكان أبو أيوب فيمن آذنّا، وقد ستروا بيتي بنجاد أخضر، فأقبل أبو أيوب فدخل، فرآني قائماً، واطلع فرأى البيت مستتراً بنجاد أخضر، فقال: يا عبد الله! أتسترون الجدر؟! قال: أبي: – واستحيى – غلبنا النساء أبا أيوب! فقال: من كنت أخشى عليه أن تغلبنه النساء فلم أكن أخشى عليك أن تغلبنك! ثم قال: لا أطعم لكم طعاماً، ولا أدخل لكم بيتاً. ثم خرج رحمه الله).
. يقول الإمام الأوزاعي رحمه الله: (لا ندخل وليمة فيها طبل ولا معزاف).
تثور في الذهن ونحن نستعرض الأدلة السابقة تساؤلات لا بد أن تستوقفنا قليلاً:
. إذا كان الوجوب في البذل والإطعام معقولاً ومبرراً. فما المعقول والمبرر في إيجابه في التلبية والحضور؟
. لِمَ يَجبُ الحضور ولا يَجبُ الأكل؟
. لِمَ يَجبُ الحضور حتى على الصائم؟
إنّ مراجعة هذه التساؤلات والبحث فيها يُجلي لنا فلسفة هذه الوليمة وهذا اللقاء فلنستمع:
إنّ أبعد شيء عن دعوة الإسلام وتعاليمه الاهتمام بتوسيع رقعة الموائد، وتحميل متونها ما تنوء بها من أطباق الطعام. وتحميل أصحاب المناسبات ما ليس في طوقهم من إنفاق بسبب هذه الوليمة. وبخاصة إذا انتقل الأمر من واجب شرعي له ضوابطه، إلى فرض اجتماعي ليس له من ضوابط إلا التفاخر والترائي والتباري والتكاثر. ولوأد هذا المرض الاجتماعي جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ أَنْ يُؤْكَلَ).
إنّ المسألة في نظر الإسلام، لا تبدأ وتنتهي بالقصعة والخوان. إنّما الغاية السمو بالإنسان. إنّه التواصل بين المسلمين والإفادة من كل مناسبة لتكون فرصة تواصل واجتماع بين المسلمين. وهل التواصل والاجتماع غاية في ذاته؟ إنّ التواصل وسيلة لتحقيق غايه، وهي باختصار: التواصي بالحق والتواصي بالصبر. إذن الإسلام يدعو إلى التواصل وإلى خيرية التواصل.
والأصل أنْ لا يلتقي المسلمون إلا على الخير وعلى ما يرضي الله تبارك وتعالى .. فهل نُفلح في أنْ نرتقي إلى خيرية التواصل دائماً، فنجعل من هذه الشعيرة وما شابهها وسائل شرعية، ولفتاتٍ دعوية، تنجب بعدها نتائج طيبة مرضية إنْ شاء الله، وفي صحائفنا جميعا، سواء بإحيائها أو بالاستجابة إن دعينا..؟
ولا ننسى بشرى نبينا لأهل كل اجتماع يراد به وجه الله: عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات).
نعود إلى الوليمة وأمر الطعام فيها، فأمعنوا النظر فيما يلي: النبي صلى الله عليه وسلم يقول لابن عوف: (أولم ولو بشاة).
ووليمة بنائه صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي بن أخطب كانت كما يصف أنس: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت، فألقي عليها التمر والأقط والسمن فشبع الناس).
وفي رواية تبين كيف جهزت الوليمة: (… فأصبح عروسا قال من كان عنده شيء فليجيء به قال وبسط نطع فجعل الرجل يجيء بالأقط وجعل الرجل يجيء بالتمر وجعل الرجل يجيء بالسمن فحاسوا حيسة فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
أناشدكم الله..! هل فينا رجل يقف صبيحة عرسه ليقول: (ياأخ، ويا خال، ويا عم، ويا أبا فلان، ويا أخا العرب، ائتوني بما عندكم من أجل وليمة عرسي)..؟ لماذا لا يكون ذلك..؟ لبعدنا عن هدي نبينا. ولأنّ المعايير المحكمة بيننا معايير مادية بحتة لا تقبل ما كان سائدا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما يجب أنْ يبقى بين أتباعه إلى يوم القيامة إنْ كانوا صادقين في اتباعهم.
إنّ ما ذكر يؤكد أنّ هدف الوليمة أبعد وأعمق من لقيمات، وتهنئات، وأداء لواجب اجتماعي، وتزجية وقت جميل.
يكفي حتى لا أطيل الكلام في أهمية الوليمة شرعاً، أن أذكر أنّ من يُدعى ويرغب عن الحضور دون عذر (فقد عصى الله ورسوله). هل لأنّه استمتع بحريته الشخصية؟ وهل لأنّه انسجم مع مزاجه؟ وهل لأنذه أدرى بما يليق به وما لا يليق، فعرف أين يضع نفسه..؟ نعم كل هذه المعاني أبطلها دين الإسلام فهي من أمر الجاهلية. واستحق تارك الوليمة العقوبة لأنّه فوت على نفسه والآخرين موسم خير، ونفحة إيمان، ولقاءاً تربوياً مع إخوانه على أمر جامع من حب الله ورسوله والعمل بما جاء عنهما.
واقرؤوا معي الحديث الآتي لتروا كيف أراد نبي الأمة أنْ يجعل من أفراح أمته مواسم خير ومحاضن تربية تبقيهم على وصال دائم بينابيع الوحيين: (شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
وفي رواية أخرى: (شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الأَغْنِيَاءُ، وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
رفضٌ قاطع وتحذير شديد أنْ تصبح هذه الوليمة تكريساً للطبقية، وملتقى للجاهلية الأولى .. إنّها خفض الجناح للمؤمنين .. وإنّها تطبيق لأمر الله لنبيه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
إنّ كثيراً من دعواتنا يُحكَّم في إجابتها المثل العامي الدارج: (لا بارك الله بمشوار خطواته أكثر من لقماته) فإلى أين نسير.
يا حسرة على كثيرين، كم ينفقون من أموال يبتغون بها رضا الناس وهو غاية لا تدرك .. ويفشلون في جعلها لله ولإحياء شعائر الإسلام .. كثيرون الذين يولمون للزواج ولكن على سبيل عادة وعرف اجتماعي فما مصير ذاك الإنفاق..؟ … والحمد لله رب العالمين