Skip to main content

طَهَارَةُ أَهْلِ الأَعْذَارِ

By الأثنين 4 ذو الحجة 1437هـ 5-9-2016مذو الحجة 3, 1441بحوث ومسائل, فقه

أهل الأعذار هم الذين لا يستطيعون أن يأتوا بالطهارة (الوضوء أو الغسل) على الوجه الشرعي الكامل، لطارئٍ طرأ، كمرض يحول دون ذلك، أو جرح، أو ضماد أو جبيرة، أو أجهزة طبية تلتصق بالجسم.

ولما كان الإسلام دين الرحمة واليسر وعدم الحرج، كما قال ربنا: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين يسر ولن يغالب الدين أحد إلا غلبه)، وقال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، فإنّ لهذه الحالات حلولاً وأحكاماً شرعية سنستعرضها إن شاء الله.

أولاً: الوضوء

والوضوء من الناحية الشرعية هو غَسْل أعضاء مخصوصة من الجسم بالماء. وقد تَعْرِض للمسلم حالات مثل:

1. عدم تمكن المريض من الحركة وفعل الوضوء، أو كان هناك مرض يزيده أو يؤخر بُرْأَهُ الماء، فالحل الشرعي عندئذ هو التيمم، لأنّ عدم القدرة على استعمال الماء، أو كون استعمال الماء مؤذيا للمريض، هو تماما كحالة فقدان الماء. والله تبارك وتعالى يقول: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ). وعن أبي ذر أنّ النبي عليه السلام قال: (إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ الْمُسلم وَإِن لم يجد الماء عشر سِنِين فإذا وجد المَاء فليمسه بشره فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ).

أما كيفية التيمم فهي كما يقول عمار بن ياسر: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن التيمم، فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفين). وكل روايات (الضربتين) معلولةٌ أسانيدُها.

2. عدم إمكانية غَسْل بعضِ أعضاء الوضوء أو واحد منها بالماء، لمرض أو جرح أو ضماد أو جبيرة. في هذه الحال يُغْسَل ما يُمكن غسله من الأعضاء، وما لا يُمكن غسله يَسقط بالتَّعَذُّر (لا يُغسل). وقد يكون العضو الواحد بعضه عليه ضماد أو جبيرة وبعضه الآخر سليم فيغسل السليم، ويترك الآخر.

ملاحظتان:

1. في بعض المذاهب يقولون إنّ العضو الذي لا يمكن غسله يمسح عليه، ويتيمم عنه، وهذا لا دليل عليه أبداً. لأنّ العضو الذي لا يُمكن غسله في الوضوء يسقط بالتعذر، ولا حاجة للمسح عليه، ولا للتيمم عنه.

2. كل المذاهب تتحدث عن المسح على الجبيرة، ويَدَّعُون لذلك شروطا، منها أن تكون قد شُدَّت على طهارة، وهذا الشرط قد يكون مستحيلا في الحوادث، ويغنينا عن ذلك أنّ المسح على الجبيرة لا يصح فيه دليل. فقد حكم الشيخ الألباني رحمه الله على كل أحاديث الجبيرة بالضعف، بدراسة حديثية مستفيضة مذكورة في كتاب (تمام المنة)، وغيره من كتب الشيخ، وحتى أثرُ ابنِ عُمر المحتجُّ به في أكثر كتب الفقه، فهو فعل منه وموقوف عليه وليس مرفوعا.

ثانياً: الغسل

نبدأ بملاحظة تساعد على فهم الموضوع، أنّ أعضاء الوضوء تتجزأ في الحكم، يُغسل بعضها ويَسقط بعضها بالتَّعذر كما مرَّ. أما الغُسل فواحدة لا تتجزأ لأنّ الركن الوحيد للغسل هو أن يَعُمَّ الماءُ الجَسدَ، فلو استثني جزء من الجسم، ولو بسيطاً، من وصول الماء إليه لمَا تحقق الركن. إذن إنْ تعذر إيصال الماء إلى بقعة من الجسم لمرض أو جرح أو ضماد، ولو كان صغيراً، كان البديلُ التيممَ، ولا يُغسل شيء من الجسم. ودليل ذلك حديث صاحب الشجة، عن جابر قال: (خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رجلا منا حجر فَشَجَّهُ فِي رَأسه ثمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابه فَقَالَ هَل تَجِدُونَ لي رخصَة فِي التَّيَمُّم فَقَالُوا مَا نجد لَك رخصَة وَأَنت تقدر على الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بذلك فَقَالَ: (قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ) إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَن يتَيَمَّم ويعصر أَو يعصب شكّ مُوسَى عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِر جسده).

قال عنه الشيخ الألباني: (حسن {دون قوله إنما كان يكفيه …}). وهو مخرج في (الإرواء)، وفي (تمام المنة)؛ حيث يقول الشيخ الألباني رحمه الله بعد دراسة الحديث: (هذا الحديث ضعفه البيهقي والعسقلاني وغيرهما لكن له شاهد من حديث ابن عباس يرتقي به إلى درجة الحسن لكن ليس فيه قوله: “ويعصر … الخ” فهي زيادة ضعيفة منكرة لتفرد هذا الطريق الضعيف بها، وراجع التلخيص).

ومن أين استنتجنا أنّ الحكم الشرعي هو التيمم، مع أنّه يستطيع أن يغتسل دون رأسه؟ من قوله عليه السلام: (قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله)، لأنّهم إنّما قتلوه يوم أمروه بالاغتسال، وكان يريد التيمم. كما نستنتج من نكارة الزيادة المذكورة، أنّه لا يلزم مع التيمم شيء. كما أنّها تؤكد بنكارتها عدم شرعية المسح على الجبيرة أو العصابة.

فائدة 1:
التيمم من الجنابة يقوم مقام الغسل، ويتضمن الوضوء، لأن
ّ الغسل طهارة كبرى، والوضوء طهارة صغرى، والكبرى تتضمن الصغرى حُكماً، فمن تيمم للجنابة، لعذر عدم استطاعته استعمال الماء، يصلي بتيممه وإذا أحدث لزمه الوضوء للصلاة ثانية، مع ترك غسل العضو المصاب أو بعضه حسب ما مر في الوضوء.

أما تيممه عن الغسل فيجزئه حتى يبرأ فيجب الغسل فوراً، ولا يلزم تكراره ما لم يجنب.

فائدة 2:
خلافاً لما هو في أكثر كتب الفقه، التي بين أيدي الناس، من أنَّ مَنْ تيمم لعبادةٍ لا يصح أن يؤدي بتيممه أخرى. فإذا تيمم لأداء صلاة الظهر مثلا، ولم يحدث، ليس له أن يصلي بتيممه العصر، ومن تيمم لصلاة الضحى، ليس له أن يصلي بتيممه الظهر، ومن تيمم لقراءة القرآن، ليس له أن يصلي بتيممه لا نافلة ولا فريضة .. وليس على ذلك دليل في الدين ألبتة، إنّما هو من الافتراضات العقلية، والأصل في الدين أنّ التيمم بديل عن الوضوء وله كل أحكام الوضوء.

فائدة 3: بمَ يكون التيمم؟ قال تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا). وقال عليه السلام: (جُعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً؛ فأيّما رجل من أمّتي أدركتْهُ الصلاة فليصلِّ فعنده مسجده وطَهوره). وقداختلف الفقهاء في مفهوم الصعيد ومنهم من لا يرى التيمم بالرمل، ومنهم من لا يرى التيمم بالصخر، ومنهم من يشترط وجود الغبار للتراب .. كل هذا لأنّهم لم يقفوا عند ظاهر النصوص وعمومها، كأن يكتفوا بأنّ الصعيد من الصعود وهو كل ما على وجه الأرض من جنسها، وما يقام عليها من بنيان وجدران لأنّ النبي عليه السلام تيمم على الجدار، ففي الحديث المتفق عليه: عن أبي الجهيم الأنصاري قال: (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام).

وقد جاء في (الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة ) بعد استعراض ذلك الخلاف: (وخلاصة القول: يجوز التيمُّم بالصعيد الطيّب سواء كان له غبار أم لا، وسواء كان تراباً أم لا، كما يجوز التيمُّم بالسبخة والرمال والجدار والصخرة الملساء ونحو ذلك، والله أعلم).

كما أنّه يجوز التيمم على الجدران ولو كانت مطلية (بالدهان) أو مغطاة (بالقيشاني) ما دام ينطبق على ذلك مسمى الجدار، وليس للغبار في التيمم أي ذكر في النصوص. بل قد جاء في بعض الروايات الصحيحة عن عمار في تعليم النبي عليه السلام له التيمم، أنّه بعد أن ضرب بيديه الأرض نفضهما، أو قال: ضرب إحداهما بالأخرى، قبل أن يمسح بهما وجهه ويديه .. والحمد لله رب العالمين