Skip to main content

كَسْبُ الحَجَّامِ

By الجمعة 19 شوال 1435هـ 15-8-2014ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

كَسْبُ الحَجَّامِ…

اهتم الناس اليوم بالحجامة، وصاروا يحرصون على تطبيقها لما اطلعوا على الأحاديث الواردة فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهم متفاوتون في فهمهم لها. وكثر الكلام والنقاش، بل الجدال، حتى صارت تُعرض على الشاشات مناظرات بين المشايخ والأطباء، حول الحجامة، وفي كل من الفريقين، مؤيد ومعارض. وشأن ذلك، ككل شيء مختلف فيه، ويكثر فيه الكلام، فلا بد أن تخالطه المبالغات، والأوهام بل والدجل.

وليست هذه غاية البحث إنّما لما كثر تماس الناس مع موضوع الحجامة، برز من جديد موضوع حكم أخذ الأجر عليها، واختلاف العلماء فيه. فاقتضى كتابة هذه السطور.

في المسألة أربعة نصوص عليها مدار الحكم، ولها عدة روايات في المعنى نفسه، أقتصر على رواية لكل نص من باب الاختصار:

1. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: (نَهَى عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ).

2. عَنْ مُحَيِّصَةُ بْنِ مَسْعُودٍ: (أَنَّهُ كَانَ لَهُ غُلامٌ حَجَّامٌ، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَسْبِهِ، فَقَالَ: أَلا أُطْعِمُهُ أَيْتَامًا لِي؟ قَالَ (لا). قَالَ: أَفَلا أَتَصَدَّقُ بِهِ؟ قَالَ: (لا). فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَعْلِفَهُ نَاضِحَهُ)).

وَفِي لَفْظٍ: أَنَّهُ اسْتَاذَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي إجَارَةِ الْحَجَّامِ فَنَهَاهُ عَنْهَا، وَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ فِيهَا حَتَّى قَالَ: (اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ أَوْ أَطْعِمْهُ رَقِيقَك).

3. عَنْ أَنَسٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا عَنْهُ).

4. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ).

ولقد استخلص العلماء من هذه النصوص أنّ التحريم للكراهة أو التنزيه، فيباح أخذ الأجرة على الحجامة للحاجة .. وأوصلهم إلى هذا، مع أنّ النهي في الأصل للتحريم إلا لقرينة تنزله إلى ما هو أخف، لما رأوا في إذن النبي عليه السلام لمحيصة بالإنفاق من كسب الحجامة للناضح والرقيق، وفي إعطاء النبي عليه السلام الأجرة لمن حجمه، قرائن تنزل حكم التحريم في حديث أبي هريرة الأول إلى ما دون التحريم كما ذكرنا آنفاً.

وقد لخص ذلك الشوكاني في النيل، وابن القيم في الزاد. وتقوى القول بخلاف التحريم عند العلماء بحديث ابن عباس: (احْتَجَمَ النَّبِيُّ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ). وفي فهمي أنّ النتيجة السابقة ليست متعمقة، وأحببت ألا أكتم فهمي للمسألة، عساه أن يكون صوابا فيُنتفع به، أو يكون غير ذلك فيرزق من يصوبه، والله من وراء القصد، فأستعين بالله ولنقف من هذه النصوص وقفات نجمع بينها:

. الحديث الأول، ولا شك يُحرّم كسب الحجام، كما يُحرم معه أنواعاً أخرى من الكسب كثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن وعسب الفحل، ووصف هذه الأنواع من الكسب بأنّها سحت وأنّها خبيثة، فيبقى التحريم على قوته.

أما الحديث الثاني، حديث محيصة، فيجب فيه ملاحظة ما يلي بعناية:

أ. محيصة ليس هو الحجام، وليس هو الكاسب، إنّما عبد له يقوم بعمل الحجامة ويأخذ منه محيصة خراجاً .. وكانت هذه عادة منتشرة عند الصحابة، أن يرسل رقيقه يعمل بمهنة يجيدها، على أن يعطيه خراجاً متفقاً عليه .. لكن النبي عليه السلام نهى محيصة عن أخذ الخراج من عبده لأنّه يعمل بالحجامة، وبسبب إلحاح محيصة وإظهار حاجته، أذن له بذلك على أن تنفق في مجال محدد (الرقيق والناضح). فهذا الترخيص من النبي عليه السلام لا يلغي حكم التحريم لكسب الحجام، ولا ينزله إلى الكراهة، لأنّ محيصة ليس هو الكاسب بنفسه، وإنّما عبده .. ويكون الحكم الجديد في الحديث جواز أخذ السيد الخراج من عبده الذي يعمل بالحجامة، إن كان محتاجاً كمحيصة، وليس إذناً لحر بامتهان الحجامة بأجر.

ويلاحظ في الحديث نفسه، أنّ الحجامة مأذون بها، مع الأجر، للرقيق فقط دون الأحرار، لأنّها مهنة ممتهنة ويعرض عنها الكثيرون فيجد العبيد فرصتهم فيها حتى لا يُضيق عليهم في الرزق .. أما الأحرار فأمامهم التجارات الواسعة وكل أشكال الكسب الأخرى، ولو أراد الحر أن يعمل في الحجامة فهو جائز، ولكن بلا أجر احتساباً .. فيكون النهي للأحرار عن الكسب (الأجرة)، وليس عن مزاولة العمل..!

ويجوز للرقيق مزاولتها بأجر، لأنّ النبي كان يعطيهم الأجر .. ومن أين الدليل على أنّهم رقيق؟ فمن ألفاظ في الأحاديث، مثل ما جاء في حديث أنس المتفق عليه الذي سبق (حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا عَنْهُ). وجاءت أحاديث غيره بالمعنى نفسه.

ب. يبقى الحديث الثالث وفيه إعطاء النبي عليه السلام الأجرة على الحجامة. ولا يجوز توظيف هذا النص كقرينة لإنزال النهي عن كسب الحجام إلى ما دون الكراهة لأسباب؛ لأنّ النبي نهى عن أخذ الأجرة، وليس عن إعطائها .. كما أنّ النبي أعطى الحاجم وهو رقيق ولم يعط حراً .. ويلاحظ أنّ العلماء في تعاملهم مع أحاديث كسب الحجام لم يفرقوا بين موضوع العبد والحر، وهي واضحة في الأحاديث وهي أصل في الوصول إلى الحكم الصحيح.

هذا والله أعلم .. فما كان من صواب فمن الله، وله الحمد والمنة، وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله منه.