Skip to main content

(مَنْ شَفَعَ لأَخِيه)

By الجمعة 18 جمادى الآخرة 1438هـ 17-3-2017ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

وتمام الحديث: (مَنْ شَفَعَ لأَخِيه بشفَاعةٍ، فأهْدى له هديّةً عليها؛ فقَبِلها؛ فقدْ أتَى باباً عظِيماً منْ أبوابِ الرِّبا).

وهذا الحديث الصحيح، يضع قاعدة شرعية لمعاملة كثيرة الطروء بين الناس في حياتهم اليومية، وعلى أهمية القاعدة، وخطورة غيابها من حياة المسلمين، حيث يجعل الناس أسرى مصالحهم، ووفق تصوراتهم وأفهامهم، في بعض جوانب حياتهم الإجتماعية، وليس على تعاليم الإسلام، التي تحول بينهم وبين شيوعِ قيمٍ دونية؛ من صنع عقولم وأهوائهم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).

وقد قال السعدي رحمه الله في تفسير الآية: (يخبر تعالى، أنه المتفرد بخلق جنس الإنسان، ذكورهم وإناثهم، وأنه يعلم أحواله، وما يسره، ويوسوس في صدره وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، الذي هو أقرب شيء إلى الإنسان، وهو العرق المكتنف لثغرة النحر، وهذا مما يدعو الإنسان إلى مراقبة خالقه، المطلع على ضميره وباطنه، القريب منه في جميع أحواله، فيستحي منه أن يراه، حيث نهاه، أو يفقده ، حيث أمره).

ولكن الناس مع هذا الحديث، على أحوال ثلاثة: رادٍّ للحديث بعقله وهواه، أو جاهلٍ لحكمته ومغزاه، أو سامدٍ (غافلٍ لاهٍ)، لم يسمع به أو يراه. ومع كل الأحوال، فلا بد من تعليمٍ وتذكيرٍ وتوضيحٍ.

والمعنى الإجمالي للحديث: أنّ من شفع لأخيه المسلم شفاعة، ولا بد من الوقوف هنا مع لفظة شفاعة، لتقصي معناها اللغوي، واستعمالها الاصطلاحي، فهي مفتاح فهم الحديث.

والشفاعة مبحث عقدي هام، لاسيما ما يتناول الشفاعة في الآخرة. وسنحاول، إن شاء الله، الكلام فيه بإيجاز. ومبحثنا في موضوعنا في نوع من أنواع الشفاعة التي تُتداول بين الناس، في حياتهم الاجتماعية.

جاء في لسان العرب (بتصرف): (شفع: الشَّفْعُ: خِلَافُ الوَتْر، وَهُوَ الزَّوْجُ. تَقُولُ: كانَ وَتْراً فَشَفَعْتُه شَفْعاً. وشَفَعَ الوَتْرَ مِنَ العَدَدِ شَفْعاً: صيَّره زَوْجاً).

ونقتطف من كلام للشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن الشفاعة، ما يف بغرض تعريف عام. يقول رحمه الله: (الشفاعة: مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر، وهو جعل الوتر شفعاً مثل أن تجعل الواحد اثنين، والثلاثة أربعة، وهكذا هذا من حيث اللغة.

أما في الاصطلاح: فهي {التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة}، يعني أن يكون الشافع بين المشفوع إليه، والمشفوع له واسطة لجلب منفعة إلى المشفوع له، أو يدفع عنه مضرة. والشفاعة نوعان:

النوع الأول: شفاعة ثابتة صحيحة، وهي التي أثبتها الله تعالى في كتابه، أو أثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: {من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه}
ولهذه الشفاعة شروط مجملة في قوله تعالى: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}، ومُفصَّلة في قوله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}، وقوله: {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً}، وقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}، فلا بد من هذه الشروط الثلاثة حتى تتحقق الشفاعة.
ثم إن الشفاعة الثابتة، ذكر العلماء رحمهم الله تعالى، أنها تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الشفاعة العامة، ومعنى العموم أن الله سبحانه وتعالى يأذن لمن شاء من عباده الصالحين أن يشفعوا لمن أذن الله لهم بالشفاعة فيهم، وهذه الشفاعة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وهي أن يشفع في أهل النار من عصاة المؤمنين أن يخرجوا من النار.

القسم الثاني: الشفاعة الخاصة: التي تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأعظمها الشفاعة العظمى التي تكون يوم القيامة، لأهل الموقف حين يلحق الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، فيطلبون من يشفع لهم إلى الله عز وجل أن يريحهم من هذا الموقف العظيم. وهذا من المقام المحمود الذي وعده الله تعالى به في قوله: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}).

وله، عليه الصلاة والسلام، شفاعات أخرى خاصة يوم القيامة، تبحث في مظانها.

والشفاعة التي يذكرها الحديث الذي بين أيدينا، تتناول شفاعة الناس بعضهم ببعض أو لبعض في أمورٍ مما يتعاطونه في حياتهم اليومية من أمور المعاش. لذلك مثله أهل اللغة بقولهم: (إنّ الشفاعة سميت كذلك لأنّ طالب الحاجة يكون فردا أو وترا، ويعجز عن إدراك حاجته بمفرده، فيطلب مساعدة الشافع فيصبحان شفعا).

وبناء على التفسير اللغوي للحديث، فإنّ من استعان بأخيه المسلم على إدراك حاجة له، مهما كانت، وأيا كانت الطريقة، حَرُمَ عليه قبول هدية أخيه، المعبرة عن الشكر والعرفان (في مفهومنا الاجتماعي). بل بلغ التغليظ على ذلك الذنب بالنبي صلى الله عليه وسلم أن جعله (باباً عظِيماً منْ أبوابِ الرِّبا

وهنا يأتي العقل البشري المتردد في الاستسلام الكامل للنص ليقول: كيف تكون الهدية التي تحمل معنى الحب، والتعبير عن الامتنان، بابًا عظيمًا من أبواب الربا..؟ والجواب العام، لأنّ كثيرا من شرائع الإسلام ولنأخذ منها على سبيل المثال ما يتعلق بالربا وتحريمه، والبيوع المحرمة، غايته بناء العلاقة المتينة بين المسلمين، القائمة على مبدأ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وصيانتها من أن تعصف به المصالح الفردية (البراغماتية) بالمصطلح الدارج. ولأضرب مثلاً بسيطاً: إنّ المسلم مأمور أن يقف مع أخيه المسلم في حاجته المادية، إن كان قادرا، عن طريق القرض الحسن، وما فيه من تضحية بالمصلحة الخاصة، مبتغيا الأجر والثواب من الله، في حين يجد من حوله كثيرين، يلوحون له بأسعار الفائدة المغرية، فما يتردد لحظة في أن يكون مع ما أمر الله به، وما يؤسس العلاقة الأخلاقية الصحيحة والقوية في المجتمع المسلم.

ويأتي دور الجواب الخاص، وهو في الحقيقة رد على تساؤل من الذين لم يدركوا مغزى الحديث وحكمته، يقولون: ما علاقة الربا في هدية يقدمها المسلم لأخيه، وهل الهدية في الإسلام حرام؟ والجواب أنّ تحريم الإسلام للربا، وبعض البيوع والمعاملات المالية التي في حكمه لا يقف عند حدود الأرقام والربح والخسارة، والظلم وغير ذلك، إنّما يحمل غاية أخلاقية، جُعل تجاهلها، أو مخالفتها من أعظم الذنوب عند الله، ولا أريد الإطالة، بل سأكتفي بأن أسوق نصاً نبوياً، يؤيد ما أقول: يقول عليه السلام: (الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها مثل إتيان الرجل أمه ، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه)، فلننظر إلى هذا التقرير النبوي لوصف أطلقه عن الربا في أمر ليس فيه درهم ولا دينار، ولا آجل ولا عاجل، (وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه). فسمي التكلم في أعراض المسلمين بغير حق أربى الربا، وليس في ذلك معاملة مالية كما أسلفنا.

المسألة في حقيقتها أخلاقية، وإن اتخذت في ظاهرها، أحيانا أشكالَ تعاملاتٍ مادية. وإلا كيف تتحقق في المجتمع المسلم تلك الأوصاف الرائعة .. عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا. ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ). وقال: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)، إلا بهذه التوجيهات الأخلاقية التي اعتبرت من الدين. ولنرجع لنضيف إضاءة أخرى على موضوع الشفاعة.

جاء في الحديث الصحيح (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)، وفي رواية: (اشفعوا تؤجروا، فإني لأريد الأمر فأؤخره كيما تشفعوا فتؤجروا)، وفي رواية ثالثة أطول: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طَالِبُ الْحَاجَةِ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فقال: {اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ}).

ونجد في فتح الباري لابن حجر رحمه الله، تفسيرات مختصرة، لكنّها وافية عن الحديث السابق بكل رواياته، يقول: ([اشفعوا]، أي توسطوا في قضاء حاجة السائل. [وليقض الله…] أي شفاعتكم لا تغير قضاء
الله تعالى ولكنها تكون سببا لنيلكم الأجر
).

ويقول رحمه الله في موضع آخر: (أَيْ إِذَا عَرَضَ الْمُحْتَاجُ حَاجَتَهُ عَلَيَّ فَاشْفَعُوا لَهُ إِلَيَّ فَإِنَّكُمْ إِنْ شَفَعْتُمْ حَصَلَ لَكُمُ الْأَجْرُ سَوَاءٌ قَبِلْتُ شَفَاعَتُكُمْ أَمْ لَا وَيُجْرِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ أَيْ مِنْ مُوجِبَاتِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ عَدَمِهَا أَيْ إِنْ قَضَيْتُهَا أَوْ لَمْ أَقْضِهَا فَهُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ).

وَفِي السِّرَاجِ الْمُنِيرِ: (أَيْ يُظْهِرُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بِوَحْيٍ أَوْ إِلْهَامٍ مَا شَاءَ مِنْ إِعْطَاءٍ أَوْ حِرْمَانٍ فَتُنْدَبُ الشَّفَاعَةُ وَيَحْصُلُ الْأَجْرُ لِلشَّافِعِ مُطْلَقًا سَوَاءً قُضِيَتِ الْحَاجَةُ أَمْ لَا).

والملاحظ من قراءة روايات الحديث أنّ الشفاعة مأمور بها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (اشفعوا) ، ومأجورا عليها فاعلُها بقوله (تؤجروا). وهذا النوع من الشفاعة يخص ما يتعلق (بقضاء الحوائج بين الناس)، وقد تكون بالمال وقد تكون بالجهد والجاه .. وهي الموضوع الذي عالجه الحديث موضوع البحث.

ولما كانت هذه الشفاعة مأموراً بها شرعاً، ومجزياً عنها من الله تبارك وتعالى، كانت لا تقبل جزاء أرضياً ما دام جزاؤها علويا. من هنا كان قبول المسلم هدية أخيه التي هي بمثابة رد على شفاعته له في أمرٍ، طاعةً لله ورسوله، محظوراً شرعياً، وغُلِّظ في أمر عقوبتها، حتى عدها الرسول عليه السلام (باباً عظِيماً منْ أبوابِ الرِّبا) .. إنّ المسلم حين يشفع لأخيه، كما أمره نبيه، يجب أن لا تستشرف نفسه عوضا من أخيه، ولو بادره أخوه، وجب عليه الرفض بشدة، ولا محل هنا للمجاملات والحياء التي يتعلل بها بعض الناس.

ولاشك أنّ هذه الشفاعة مسؤولية شرعية يحاسب عنها الشافع. فقد جاء في كتاب الله: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا). ويقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية: (المراد بالشفاعة هنا: المعاونة على أمر من الأمور، فمن شفع غيره وقام معه على أمر من أمور الخير، ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم، كان له نصيب من شفاعته بحسب سعيه وعمله ونفعه، ولا ينقص من أجر الأصيل والمباشر شيء، ومَنْ عاون غيره على أمر من الشر كان عليه كفل من الإثم بحسب ما قام به وعاون عليه. ففي هذا الحث العظيم على التعاون على البر والتقوى، والزجر العظيم عن التعاون على الإثم والعدوان، وقرر ذلك بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} أي: شاهدًا حفيظًا حسيبًا على هذه الأعمال، فيجازي كُلا ما يستحقه).

واعتقد بعضهم أنّ هناك تعارضاً بين قوله صلى الله عليه وسلم: (من شفع لأخيه بشفاعة، فأهدى له هدية عليها، فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا)، وقوله في الحديث الصحيح الآخر: (من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنّكم قد كافأتموه) .. ولدى التأمل والتدقيق في معنى الحديثين يتبين أنّ صانع المعروف متبرعٌ به، مبادرٌ إليه، من غير سؤال الطرف الذي صنع له، فمكافأته تأخذ معنى الهدية التي لا شبهة فيها، وهي في أبسط صورة، هدية مقابل هدية. صديق لك عنده مزرعة، وطرق بابك وأعطى أهلك شيئا من ثمر أو تمر مزرعته، فهذا صاحب معروف وإحسان، وربنا تعالى يقول: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ). وهنا كان من الدين والمروءة والخلق الحسن، أن تقابل مبادرة أخيك بمبادرة على قدر استطاعتك، تُديمُ الوِدَّ، وتشيع العرفان، وتقوي الآصرة .. والرسول الكريم يقول: (تهادوا تحابوا)، ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام بمكافأة صانع المعروف، وهو أبعد ما يكون عن معنى الرشوة .. وفي حديث صحيح: (من صُنِعَ إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء).

أما الشفاعة فتكون بطلب من المشفوع له، وإنّ رسول الله عليه السلام لما كان يأتيه الناس لحوائجهم، كان يطلب من الجالسين من أصحابه أن يساعدوهم قائلاً: (إشفعوا تؤجروا) وفي ذلك حض للصحابة، ووعد بالأجر، ولاشك أنّ المقصود الأجر من الله، فبذلك لم تعد الشفاعة تقبل الجزاء الأرضي ... والله أعلم