Skip to main content

هَلْ تَصُومُ الحَامِلُ وَالمُرْضِعُ؟

By الثلاثاء 11 رمضان 1438هـ 6-6-2017ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

صوم الحامل والمرضع، من المسائل الشائكة في كتب الفقه، وقد سماها الفقيه المالكي ابن العربي: بيضة العقر، أي: بيضة الديك. لصعوبتها .. ومعاذ الله أن يكون في الإسلام
مسائل شائكة! لكن الذي نجده في كتب الفقه من تعقيد مرده إلى كثرة الأقوال وتعددها في المسألة الواحدة، وهو عيب في كتب، كان ينبغي أن تُسقط كل الأقوال التي لا دليل عليها، لتجتنب هذا التشويش على الباحث، بل على العابد .. ولو شئت التعمق أكثر في المسألة لقلت السبب (الاستدلال بالعقل أكثر من النقل).

وإنّ أكثر الفقهاء، رحمهم الله، وفيهم أصحاب المذاهب، عاملوا الحامل والمرضع معاملة المريض، وفي هذا ظلمان: معنوي، ومادي. أما المعنوي: فهو جعل الحمل والإرضاع، وهما من أعظم الوظائف الحياتية، بل أعظمها، وقد اختار الله لها المرأة، فكيف يصنف هذا مع المرض، فتصبح الأمومة، وأعظم أدوارها في الوجود؛ الحمل والإرضاع، ليست مع الأصحاء..! ألا تشرف كل أم حين تقرأ ما خصها الله به من ذكر في كتابه الكريم: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).

أما المادي: فهو تحميل المرأة فوق ما تحمل من أعباء، في مهامها الحياتية، قضاءَ الصوم، وقد فات السادة الفقهاء أمرٌ ذو بال، قرأته ولم أقف على اسم صاحبه وهو كلام واقعي دقيق يظهر عدل الإسلام حين خفف عن الحامل والمرضع في شأن الصوم، يقول الأخ: (ويحصل كثيرا أن تنجب المرأة خمسة أولاد مثلا فتكون سنة حاملا وسنتين مرضعا في كل ولد فهذه 15 سنة فإيجاب القضاء عليها أن تصوم 15 شهرا فيه حرج بالغ لا تأتي الشريعة بمثله ، والله أعلم).

ولم يقف ظلم الفقهاء عند إلزام الحامل والمرضع بالقضاء، بل زاد بعضهم أنّها تلزم بالقضاء مع الكفارة إن كانت خشيتها على ولدها.

ولقد حدثتني النفس، وأنا أفكر في اختيار موضوع للكتابة، أنّ موضوع صوم الحامل والمرضع رمضانيٌ بامتياز .. وإنسانيٌ دون انحياز..! تتجلى فيه رحمة الله بخلقه، ويظهر فيه عدل الشريعة الإسلامية في الأحكام والتكاليف، فما أحراه بالكتابة، تعريفًا للناس به، وهو مادة فقهية قليل من أنصفها بالبحث. ولست أرضى لنفسي أن يظن بي أنّي أقول:

وإنّي وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائلُ

معاذ الله أن أكون من الجاهلين .. ولولا أنّ المسألة خلافية كثرت فيها الأقوال وأغربت، لما تجرأت وخضت. فابن حزم قال: (لا تقضي الحامل والمرضع ولا تفدي). وقال مالك بمثل قوله، وكل يريد الحق وأنا كذلك .. ولنترك المقدمة، وقد طالت، لندخل في التكييف الفقهي:

أولاً: إنّ معاملة الفقهاء للحامل والمرضع، في أمر الفطر، لم يُبنَ على دليلٍ نصيٍ
صحيحٍ صريحٍ، يصبح الكلام بعده ضربا من الهوى .. ولقد استعرض الشيخ العثيمين رحمه الله في كتابه الشرح الممتع، خلاف العلماء في أحكام صيام وفطر الحامل والمرضع بإسهاب، ولخص الأقوال في أربعة. وانتهى إلى أن اختار لنفسه أنّهما تعاملان معاملة المريض. وختم كلامه بالقول: (وسبب الخلاف أنّه ليس هناك نص قاطع صحيح وصريح في وجوب أحد هذه الأمور). وينبغي أن تبقى ملاحظة الشيخ هذه حاضرة معنا في هذا البحث، في أنّ نتائجه عند العلماء كانت محض اجتهاد. ولم يستوعب الحكم بإلحاق الحامل والمرضع بالمريض، كل ما جاء في حقهما من نصوص. كذلك لم تكن هناك وقفة متأنية أمام خصوصية معينة لهذه الشريحة من البشر، وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة .. ومما تقدم فإنّ الموضوع لا زال فيه ملفات تقبل أن تفتح من جديد، ومقولة (ما ترك المتقدم شيئا للمتأخر) ليست بتلك…!

ثانياً: لا بد من أن يُقدّم على هذا الإجتهاد من قبل الفقهاء، بمعاملة الحامل والمرضع معاملة المريض، آثارٌ صحيحةٌ لابن عباس رضي الله عنهما، وهو ترجمان القرآن وحَبْرُ الأمة، ومن دعا له النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وابن عمر .. ومع أنّ تلك الآثار موقوفة عليهما، فإنّ لها حكم الرفع، لأنّها لا تقبل القول بالرأي والعقل، كما يقول المحدثون .. وإن قال قائل بل تقبل الاجتهاد، وهذا اجتهاد منهما، رضي الله عنهما، نقول: هَبْهُ كذلك، وهو اجتهاد من صحابيين، يُعمل به ما دام قد سلم من مُعارِضٍ أقوى .. ويبقى اجتهاد الصحابة مقدمًا على من جاء بعدهم.

ولدى بحثي في الموضوع لم أجد من تكلم في ضعف الأسانيد لتلك الآثار، وإنّما استبعدت بحجة (مخالفة الجمهور)، ومخالفة الجمهور ليس معارضا أقوى .. كذلك لم أجد في الكتب ذكرًا لمخالفة أحد من الصحابة لهما، في ما ذهبا إليه في فطر الحامل والمرضع. وإذا تذكرنا ما قلناه قبل قليل بأنّ الفقهاء ليس عندهم أي نص صريح اعتمدوا عليه، وإنّما هو محض اجتهاد، فلا بد من أن تُلغي تلك الآثار ذلك الاجتهاد. لأنّ تلك الآثار نصوص معتبرة في المسألة، وإن كانت موقوفة لأنّ لها حكم الرفع، كما بينا قبلا، ولاسيما أنّ ابن عباس رضي الله عنهما اعتمد في ما ذهب إليه على الآية: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وتكلم في موضوع نسخها، وسيأتي تفصيل إن شاء الله.

ثالثاً: المناقشة والترجيح:

ولنبدأ بتجميع الأدلة قبل البدء بالمناقشة الفقهية:

1. عن أنس بن مالك الكعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، والصومَ عن المسافر وعن المرضع والحبلى). رواه أبو داود، والترمذي والنسائي وابن ماجه

2. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ حَتَّى أُنْزِلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا). رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَحْمَدَ

3. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِنَحْوِ حَدِيثِ سَلَمَةَ وَفِيهِ: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَأَثْبَتَ اللَّهُ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَثَبَتَ الْإِطْعَامُ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ).

4. وَعَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

5. وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: (أُثْبِتَتْ لِلْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

6. عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: (أنّه رأى أمّ ولد له حاملاً أو مرضعاً فقال: أنتِ بمنزلة الذي لا يطيق، عليكِ أن تطعمي مكان كلّ يوم مسكيناً، ولا قضاء عليك).

7. عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس وابن عمر قال: (الحامل والمرضع تفطر ولا تقضي). وهذا صحيح. وقال الألباني: ورواه ابن جرير من طريق علي بن ثابت.

8. وعن نافع عن ابن عمر مِثل قول ابن عبّاس في الحامل والمرضع، وسنده صحيح ولم يسُق لفظه.

9. ومن طريق عبيد الله عن نافع قال: (كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش، وكانت حاملاً، أصابها عطش في رمضان، فأمَرها ابن عمر أن تُفطر وتُطعم عن كلّ يوم مسكيناً) وإِسناده صحيح

وإلى المناقشة:

تبدأ المسألة من الآية الكريمة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ).

فماذا كان مفهومها أول ما أنزلت؟ الجواب في ما جاء صحيحاً عن سلمة بن الأكوع: (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى أُنْزِلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا). رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَحْمَدَ

وما هي الآية التي نسختها؟ وهل كان النسخ كاملا أم جزئيا؟ يفهم مما جاء عن بعض الصحابة أنّ النسخ جزئيٌ تناول الحكم الأول وهو الذي جاء في حديث سلمة السابق (كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ حَتَّى أُنْزِلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا). فالنسخ جاء منصباً على هذا الحكم الأول الذي يحمل تخييرا لكل الناس بين الصوم والفدية .. فماذا بقي من حكمٍ بعد النسخ في الآية؟ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِنَحْوِ حَدِيثِ سَلَمَةَ وَفِيهِ: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَأَثْبَتَ اللَّهُ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، ورَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَثَبَتَ الْإِطْعَامُ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ). إذن بقيت دلالة الآية بعد النسخ تتناول:

1. إلغاء التخيير لكل الناس، وإيجاب الصوم على كل مسلم.

2. إثبات عذري المرض والسفر، في ترك الصوم والقضاء بعد زوالهما.

3. تحويل مفهوم قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)، بالآية الناسخة (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) من كونه تخييرا لكل الناس إلى مفهوم جديد؛ وهو أنّ من يعجز عن الصوم أو يجد فيه مشقة (يُطِيقُونَهُ)، يفطر ويفدي أي يطعم عن كل يوم مسكينا.

وهنا يكمن الخلاف بين ابن عباس ومن خالفه، في أنّه رضي الله عنهما يناقش فكرة النسخ التي تكلم عنها أكثر المفسرين والفقهاء، بطريقة مختلفة، مع إعطاء الآية مفهوما وحكما جديدا لأهل الفطر والإطعام. ولنقرأ ذلك التفسير الواضح عند الشيخ السعدي رحمه الله: (وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: يطيقون الصيام {فِدْيَةٌ} عن كل يوم يفطرونه {طَعَامُ مِسْكِينٍ} وهذا في ابتداء فرض الصيام، لما كانوا غير معتادين للصيام، وكان فرضه حتما، فيه مشقة عليهم، درجهم الرب الحكيم، بأسهل طريق، وخيَّر المطيق للصوم بين أن يصوم، وهو أفضل، أو يطعم، ولهذا قال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .

ثم بعد ذلك، جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق، يفطر ويقضيه في أيام أخر [وقيل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: يتكلفونه، ويشق عليهم مشقة غير محتملة، كالشيخ الكبير، فدية عن كل يوم مسكين وهذا هو الصحيح).

ثم ذكر الشيخ رحمه الله النص الناسخ فقال: ({فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر.

ولما كان النسخ للتخيير، بين الصيام والفداء خاصة، أعاد الرخصة للمريض والمسافر، لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة [فقال] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهلها أشد تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله).

ولذلك نرى ابن عباس رضي الله عنهما يقول في قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ): (لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

فنرى ابن عباس رضي الله عنهما يثبت رخصة الإطعام (الفدية) للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، ثم يلحق بهما الحامل والمرضع، في حكم الفطر والفدية، وهذا هو الحق .. وقد قبل منه الفقهاء هذا الحكم في حق كبيري السن، والمرضى الزمنين .. لكنّهم خالفوه في الحامل والمرضع وقد ألحقهما بالحكم نفسه. وجاءت نصوص تؤكد ذلك عن ابن عباس وتؤكد تطبيق ذلك في أهله: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: (أنّه رأى أمّ ولد له حاملاً أو مرضعاً فقال: أنتِ بمنزلة الذي لا يطيق، عليكِ أن تطعمي مكان كلّ يوم مسكيناً، ولا قضاء عليك).

وجاءت نصوص تؤكد أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يشارك ابن عباس رضي الله عنهما موقفه في أنّ الحامل والمرضع تفطران وتفديان ولا تقضيان. فعن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس وابن عمر قال: (الحامل والمرضع تفطر ولا تقضي). وهو صحيح

وفي الإرواء للشيخ الألباني: (وعن نافع عن ابن عمر مِثل قول ابن عبّاس في الحامل والمرضع) وسنده صحيح

وفي الإرواء أيضا: (ومن طريق عبيد الله عن نافع قال: كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش، وكانت حاملاً، فأصابها عطش في رمضان، فأمَرها ابن عمر أن تُفطر وتُطعم عن كلّ يوم مسكيناً) وإِسناده صحيح

والسؤال لِمَ لم يأخذ الفقهاء بما ذهب إليه ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما؟

في ما أفهم أنّ المسألة اتخذت منحىً عقليا اجتهاديا، فلما كان الإطعام فقط في حق الهرم والهرمة والمريض الزمن قبلوه لأنّ تلك الشريحة لا تستطيع قضاءً، ولما كانت الحامل والمرضع تستطيعان القضاء، أُخرجتا، لتعاملا معاملة المريض، وهو ظلم كما قدمت.

إذن المسألة سباحة في فضاء المقبول والمرفوض عقلا، وليس التزاما بالممنوع والمأذون به شرعا .. وأضرب مثلا بتعامل الفقهاء مع أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا)، يقول الشيخ العثيمين كما قال بعض الفقهاء قبله: (وأما سكوت ابن عباس رضي الله عنهما عن القضاء فلأنّه معلوم).

ويثور في الذهن أكثر من سؤال..! هل ابن عباس وابن عمر ذهبا مذهباً عقلياً في حكم الحامل المرضع، أم أنّ ذلك الوحي؟ فلنرجع إلى حديث أنس الكعبي: (إنّ الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، والصومَ عن المسافر وعن المرضع والحبلى). هذه إشارة من رسول الله صلى الله علي وسلم، يجب أن لا تفوتنا..! المسافر والحامل والمرضع أسقط الله عنهما الصيام، فما العوض عند الشريحتين؟ منطوق قوله تعالى (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) يحتم علينا أن نقول المسافر تحكمه الآية ، فعليه القضاء. وماذا عن الحامل والمرضع هل هما مسافرتان؟ لا، حتما. هل هما مريضتان؟ لا حتما. ما حكمهما إذن؟ دعونا نسأل: هل ينتميان إلى شريحة من لايستطيع القضاء (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)؟ نعم، إنّهما كذلك بمفهوم الآية الجديد، حسب ابن عباس وابن عمر. ويا ترى أي الفعلين أقوم، أن نعتبر الحامل والمرضع مرضى، أم أنّ واقع المرأة والأم بخاصة يجعلها ألصق في الانتماء إلى من يتعذر عليه القضاء. لأنّ مهمة الحمل والإرضاع التي خلقها الله لها تلازمها شطر عمرها أو تزيد. ويكون معنا صحابيان جليلان وفهمهما واجتهادهما أصوب وأسلم من كل أحد بعدهما. ويقينًا، أنّهما رضي الله عنهما، فهما مغزى ذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام الحامل والمرضع في حديث أنس الكعبي المتقدم، على أنّه ترشيح لهما لحكم يتناسب مع طبيعة دور المرأة في الحياة .. نقول هذا مع عدم نسياننا الورقة الأقوى وهي أنّ آثارهما لها حكم الرفع لسلامتها من المعارض الأقوى. ويأتي من الفقهاء من يقول إنّ حديث أنس الكعبي، يحتم، (بدلالة الاقتران) مع المسافر، على الحامل والمرضع القضاء. ونجيب إنّ (دلالة الاقتران) قاعدة عقلية تُحكَّم في استخلاص الأحكام من النصوص ما سلمت من مؤثر أقوى منها، والذي منعها هنا قوة دلالة آثار الصحابيين ابن عباس، وابن عمر، رضي الله عنهم، في أنّهما لا تقضيان.

ويتشدد بعضهم فيقول: لا تفطر الحامل ولا المرضع إلا بعد أن تجربا الصوم وتدركا المشقة منه، أو الخوف عل نفسيهما أو ولدهما، ولا دليل على ذلك، فالسفر رخصة للفطر، فالمسافر يفطر ولو لم يشق عليه الصوم. والمرض رخصة في الفطر ولو لم يشق الصوم على المريض، وكذلك الحمل والإرضاع رخصة في الفطر وإن لم توجد المشقة. وشرط (إن خافتا…)، ليس معتبرا، فلهما الفطر دون الخوف. والدليل قوله عليه السلام (إنّ الله وضع الصوم عن المرضع والحبلى) ولم يذكر لذلك الوضع شرطاً .. والله أعلم، والحمد لله رب العالمين