في البداية، لا بد من تعريف واضح لما اصطلح على تسميته (طفل الأنابيب) أو (التلقيح الصناعي). وبعيدا عن المصطلحات الطبية، فإنّي سألخص بأسلوب مبسط ما قرأته في مراجع طبية .. والتسميات السابقة هي اسمان لمسمى واحد، والمقصود أنّه حينما يحول حائل مرضي، عند أحد الزوجين، دون الاتصال الجسدي، لإجراء التلقيح داخل رحم الزوجة، يعمد الطب إلى أخذ النطفة من الزوج، وتوضع في رحم الزوجة بطريقة معينة، أو يتم تلقيح البويضة التي تؤخذ من الزوجة بالنطاف المأخوذة من الزوج في محضن خارجي، بشروط طبية وصحية خاصة، حتى تقوى اللقيحة، ثم تودع في رحم المرأة، ليُستكمل الحمل هناك .. وهذه العملية تحتاج إلى متابعة طبية دقيقة من البداية حتى وضع الحمل.
وقد اختلف المعاصرون، من علماء المسلمين، في تكييف هذه الحالة فقهياً، ثم إعطائها الحكم الشرعي، بين مبيحٍ بشروط، مع اجتنابٍ لمحاذيرَ مذكورة، ومحرمٍ جُملةً وتفصيلاً، مع تبيان الأسباب.
ولما كانت هذه الصورة من المعالجة، لواقع زوجين حُرما، مرضيا، من نعمة الإنجاب، قد صُدِّرتْ إلى المسلمين من بلاد الغرب، الذين توسعوا في تطبيقها، فاعترى ذلك ممارسات يتقبلها العقل الغربي الذي يفتقد الضوابط الشرعية، بل حتى الأخلاقية، التي تحترم إنسانية المخلوق الذي كرمه الله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، فأُجيزَ عند بعضهم أن تُلقَّح بويضة المرأة بنطافٍ من رجل غير زوجها، وأن تحفظ نطاف الزوج عن طريق التبريد، وتلقح بها الزوجة بعد موته، وقد تلقح بها امرأة أخرى..!
وأسوأ من ذلك كله أن تذهب امرأة تريد الولد وتكره الزواج إلى (بنك النطاف)، وتحدد رغبتها في خصائص طفلها المستقبلي، فتعرض عليها (كتالوجات) النطاف المخزنة لتختار ما تريد.
كذلك أجازوا فكرة الرحم المستعار، والصحيح أنّه المستأجر. ولقد رأى كثيرون، في هذه الطريقة، حلا ناجعا لحالة عدم الإنجاب، لكنّها نظرة قاصرة، لأنّها تناولت الإيجابيات وغضت الطرف عن السلبيات، بل المحرمات .. وهذا يتعارض مع القاعدة الشرعية القائلة: (درء المفسدة، مقدم على جلب المصلحة)، ولذلك كان الحكم الشرعي الصحيح، في هذه المسألة، التي يُؤخذ بعين الاعتبار، كل ما يحيط بها من ملابسات، وكل ما تتمخض عنه من ممارسات، لا يقبلها العقل السليم، فضلا عن الدين. فنقول: إنّ الصورة الوحيدة التي توافق الشرع، دون تجاهلِ موضوعِ كشفِ العورات، وسنفصل فيه إن شاء الله، والتي يقتصر العمل فيها على جمع نطفة الزوج مع بويضة الزوجة، ولا يوجد دليل يُحرِّمها لذاتها، إنما تُحَرَّمُ، دون ترددٍ، سدا للذريعة .. فما معنى )سدًّا للذريعة)؟
بالرجوع إلى المعاجم اللغوية نجد أن: (الذريعةَ في اللغة تعني {الوَسيلَة والسَّبَب إلى شيءٍ}، يُقال: فلانٌ ذَريعَتي إليكَ؛ أَي: سبَبي الذي أَتَسَبَّبُ به إليكَ).
وأما المراد بالذريعة اصطلاحًا: فهو منع الوَسَائِلِ السالمة من الفساد أن
تكون سببا أو طريقة لمقصد فاسد .. بكلمات أخر: مَتَى صارَ الْفِعْلُ السَّالِمُ عَنْ الْمَفْسَدَةِ، وَسِيلَةً لِمَفْسَدَةٍ منعنا من ذلك الفعل. فيكون معنى الذريعة أنّها كل مسألة ظاهرها الإباحة، ولكن يُتوصل بها إلى فعل محظور.
ويمكن، زيادة في الإيضاح، أن نورد القاعدة الآتية (الوسائل لها أحكام المقاصد)، فالوسيلة إلى مباح تكون مباحة، والوسيلة إلى حرام تكون حراما.
وأوضح مثال يُضرب لتوضيح قاعدة (سد الذريعة) الشرعية قوله تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ). ويقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية: (ينهى الله المؤمنين عن أمر كان جائزا، بل مشروعا في الأصل، وهو سب آلهة المشركين، التي اتخذت أوثانا وآلهة مع الله، التي يتقرب إلى الله بإهانتها وسبها. ولكن لما كان هذا السب طريقا إلى سب المشركين لرب العالمين، الذي يجب تنزيه جنابه العظيم عن كل عيب، وآفة، وسب، وقدح –نهى الله عن سب آلهة المشركين، لأنهم يحمون لدينهم، ويتعصبون له. لأن كل أمة، زين الله لهم عملهم، فرأوه حسنا، وذبوا عنه، ودافعوا بكل طريق، حتى إنهم، ليسبون الله رب العالمين).
إذاً حرم الله تعالى سبَّ آلهة المشركين، وهو أمر مشروع مطلوب، لما صار ذريعةً إلى سبِّ الله عز وجل.
من هنا، ليس لنا أن نقول بالحرمة، ما دامت النطفة من الزوج حقيقة، والبويضة من الزوجة حقيقة، ولا يوجد رحم مستعار، لكنّ الحرمة جاءت، من الممارسات الأخرى التي تُوُسِّعَ فيها، سدا للزريعة، كما أسلفنا .. ومرة أخرى، لا ننسى مسألة شرعية هامة كان الشيخ الألباني رحمه الله يؤكد عليها وهي كشف العورات لغير ما ضرورة. وسيأتي تفصيل إن شاء الله.
وبعد أن صارت قاعدة (سد الذريعة) واضحة جلية، واتضح إسقاطها على عملية (طفل الأنابيب)، للوصول إلى تحريمها سدا للذريعة. نلقي في ما سيأتي أضواء على المحاذير التي يخشى منها، لتكتمل صورة هذه المسألة في أذهان المسلمين.
وأول ما أبدأ به، أن أسرد للقراء قصة رسالة جاءتني من امرأة، منذ عشر سنوات، تطلب فيها حلا شرعيا لمشكلتها، وأسوقها للعبرة أولا، ولأنّها شاهدٌ قويٌ واقعيٌ حياديٌ، على صحة ما جاء في هذا البحث، ثانياً.
نقول: الخشية كل الخشية، أن يعتري تلك العملية شيئآن، خطأٌ غيرُ متعمدٍ، وتجاوزٌ إلى فعلِ الحرامِ متعمدٌ..! وكلاهما في النتيجة سواء.
أما القصة، ملخصةً باختصار: (ذهبت وزوجي إلى عيادة طبيب مشهور من أجل عمل طفل الأنابيب، وجرت الأمور على ما يرام. وأثناء التردد على العيادة كنا نلتقي بسيدة وزوجها، يسيران في المراحل التي نسير فيها. ونشأت صداقة بين السيدة وبيني، وبين زوجها وزوجي. ووضعنا حملينا في الوقت نفسه، وكان المولودان ذكرين. ولم نلتق بعد ذلك. وبعد ثلاث سنوات بدا لي ولزوجي أن نعيد الكرة. وكانت المفاجأة أن نلتقي بالصديقين اللذين جاءا للغرض نفسه. وما أن وقع بصري على ابن صديقتي البالغ من العمر ثلاث سنوات، حتى صعقني شدة شبه الطفل لزوجي، في حين لم يكن بين ولدنا وزوجي أدنى شبه. ولما حدثت زوجي بالقصة، ورأى الطفل، أصابه ما أصابني. وجاء دورنا في لقاء الطبيب، ولم يستطع زوجي كتمان دهشته وانزعاجه، وبدأ الطبيب يهدؤنا، ويقول أعطوني فرصة التحقيق، وارجعوا إلي بعد يومين. ولما رجعنا بالَغَ في الاعتذار، مبرراً ما جرى بخطأ الممرضة فلانة وصار يكثر من أن يقول: أنا جاهز لما تأمران..!).
ثم سألتني ما الحل الشرعي المناسب؟ وكان جوابي، لم تسألا قبل أن تقدما على العمل، فوقعتما في الحرام. فما عليكما إلا أن تستغفرا الله من ذنبكما وتتوبا، وترضيا بالأمر الواقع.
هذه القصة من المحتمل جدا أن تتكرر مع كل من يتعرضون لعملية طفل الأنابيب، إما لخطأٍ غير متعمد، أو خيانة مُبيَّتَة. وهذا الذي قدمنا به وقلنا إنّ العملية تحرم سدا للذريعة.
وفي نقاشات عدة حول هذا الموضوع قال لي كثيرون، ماذا لو كان الطبيب ثقة ذا دين؟ وأجبت هل يمنع ذلك من أن يقع الخطأ البشري، ونجد أنفسنا مع مشكلة تستعصي على التصحيح، كالقصة الذي ذكرنا. ويصبح الطفل الذي دفع الزوجان المال، وبذلا كل الجهد، لِتَقَرَّ عيونهم به، لعنة على الأسرة وشقاءً. فالأب يبقى، مهما تقدم الزمن يراه طفلا ليس من صلبه، تربى في رحم زوجه رغما عنه. ولو تبادلت الأسرتان الأطفال، لانتقلت المشكلة إلى الزوجة التي صارت ترى في الطفل الذي في حجرها طفلا غريبا عنها، لم تحمله في بطنها .. فأين السعادة..؟!
كما أنّنا لو افترضنا وجود الطبيب المستقيم، فمن الممكن أن يأتي التلاعب من الفريق الذي يعمل معه.
ولو ترك هذا الأمر الخطير في يد الأطباء غير الملتزمين لكانت الطامة الأكبر، وهي أن تصبح تلك المراكز والعيادات، مكانا للثراء عن طريق الاتجار بالنطاف، دون أي رادع، أو مسؤولية عن اختلاط الأنساب وخيانة الأمانة، وهو ما يجري عمليا، وفي بلاد الغرب بخاصة.
ففي عالم الحيوان يستطيع الأطباء البيطريون الاحتفاظ بنطف الذكور التي تحوي الحيوانات المنوية، بعد اختيار القوية والسليمة عن طريق التجميد في درجات منخفضة جدا، وتخزينها إلى عشرات السنين، وترسل إلى جميع أنحاء العالم بشكل كبسولات مجمدة. ليتم تلقيح الإناث من ذاك الحيوان مختصرين المال والوقت. وأكثر ما يكون ذلك في الأبقار والخيول والأغنام وغيرها.
ثم بدا للطب البشري أن يطبق ذلك في عالم الإنسان. ففي المختبر يأخذون نطافا من الرجل الذي يريد عمل طفل الأنابيب ويجرون عليها التحاليل ويتم تخزينها. وإذا كان الطبيب لا يخاف الله، وراجعه زوجان لمعالجة عدم الانجاب، ووجد بالفحوص أنّ السبب ضعف نطاف الزوج، تظاهر بإجراء معالجة طويلة، وفي النهاية يلقح المرأة بنطاف قوية عنده ويرتفع اسم تلك العيادة، ويوصي النسوة بعضهن بذاك الطبيب، وتكون المتاجرة الآثمة، ولا أحد يعلم بالمأساة الإنسانية. وقد تكون الخيانة من بعض العاملين في الفريق الطبي، ودون علم الطبيب. لذلك كان التأكيد على التحريم سدا للذريعة.
ولقد ذكرنا في البداية أنّ عملية طفل الأنابيب، لو سلمت نظريا من الخطأ والخيانة، تعترضها قضية شرعية، وهي كشف العورات لغير ما ضرورة.
وقد يقول قائل أليس عدم الإنجاب عند الزوجين ضرورة شرعية تبيح المحظورات، نقول: لا، لوجود حلول شرعية. فما هي تلك الحلول:
لا بد لكل زوجين مؤمنين، يريدان الله والدار الأخرة، أن يكونا مستسلمين لقضاء الله، ويتدبرا قول ربهما: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).
وبدلاً من الدخول في تلك المتاهات المحفوفة بالمخالفات، فالحلول الشرعية موجودة. فإذا كانت المشكلة من المرأة فالتعدد يشكل حلاً شرعيا واقعيا أمام الرجل، فلا يُحرم الرجل من نعمة الولد، وتبقى الزوجة الأولى تعيش حياتها الكريمة مع زوجها الذي تحبه ويحبها، وتستمتع مع زوجها بأولاده.
وإن كانت المشكلة في عدم الإنجاب من الرجل، وكانت المرأة تريد الولد، فلها الحق شرعياً أن تطلب الطلاق من زوجها الذي لا ينجب، وتتزوج من رجل آخر، ولا تُحرم متعة الولد.
لكن واقع المسلمين اليوم، وبعدهم عن فهم أحكام دينهم الحق، يوقعهم في مشكلات كثيرة، يلتمسون حلولها عند أهل الكفر فلا يزيدونهم إلا خبالا .. وأريد أن أذكر نفسي والقراء بقاعدة عظيمة قد نكون نسيناها (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) … والحمد لله رب العالمين