Skip to main content

صَلَاةُ الضُّحَى

By الأحد 9 جمادى الآخرة 1439هـ 25-2-2018ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

هي من نوافل الصلاة، ولم تحظ باهتمام الكثير من المسلمين، رغم الأحاديث الصحيحة التي عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بفضلها وجائزتها .. ولعل السبب الرئيس الذي تركها الناس من أجله ما ثبت أنّ النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يواظب عليها، مع أنّه ليس بسبب، من نظرة شرعية، وسيأتي إن شاء الله بيان وتفصيل.

حكمها:

هي نافلة، كما أسلفنا، وبتخصيص أكثر فهي صلاة مستحبة، فقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث تندب المسلمين إلى فعلها وتبين عظم جائزتها وأجرها، وهذه بعض تلك النصوص:

1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أَوْصَانِى خَلِيلِى بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ).

2. عن أبي ذرّ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْىٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى).

3. عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ بِصَدَقَةٍ» قَالُوا: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: (النُّخَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ تَدْفِنُهَا وَالشَّيْءُ تُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُكَ)).

4. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعَث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعْثاً فأعظَموا الغنيمة، وأسرعوا الكرَّة: فقال رجل: يا رسول الله ما رأينا بعْثاً قطّ أسرع كرَّة، ولا أعظم غنيمةً من هذا البعث فقال: (ألا أُخبركم بأسرع كرّة منهم، وأعظم غنيمة؟ رجل توضّأ فأحسن الوضوء، ثمَّ عمد إِلى المسجد فصلّى فيه الغداة، ثمَّ عقَّب بصلاة الضَّحوة، فقد أسرع الكرَّة، وأعظم الغنيمة)).

5. عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنّ الله عزّ وجلّ يقول: يا ابن آدم! اكفني أوّل النهار بأربع ركعات، أكفِك بهنّ آخر يومك). وقال بعضهم: المقصود بالأربع صلاة الفجر وراتبتها، ولكنّ الأكثرين على أنّها الضحى، ولعله الصواب.

6. عن أبي أُمامة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَة فَأَجره كَأَجر الْحَاج الْمُحْرِمِ وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لَا يُنْصِبُهُ إِلَّا إِيَّاهُ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ وَصَلَاةٌ عَلَى إِثْرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عليين).

7. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على صلاة الضحى إِلاَّ أوّاب، قال: وهي صلاة الأوّابين). و(الْأَوَّابِينَ) جَمْعُ أَوَّابِ وَهُوَ الرَّاجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ آبَ إذَا رَجَعَ.

وهنالك روايات عديدة أخرى غير ما ذكر، لكن معظمها روايات لا تصح، فليتنبه إلى ذلك.

وقـتها:

ووقت صلاة الضحى يبدأ حين ترتفع الشمس في السماء مقدار رمح (وقدر العلماء الرمح بمترين)، وهو وقت صلاة العيد. وآخر وقتها إلى ما قبل زوال الشمس (ميلها عن كبد السماء إلى جهة الغرب)، وهو نفسه بداية وقت الظهر (ويُعرف ذلك ببداية زيادة طول ظلّ الشاخص بعد تناهي قِصَره).

أما أفضل وقت لأدائها فهو ما جاء في مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ:
(خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ وَهُمْ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقَالَ: (صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمِضَتْ الْفِصَالُ مِنْ الضُّحَى)). وقد ذكرنا سابقا معنى الأوابين. أما معنى ترمَض الفصال فهو: أن تَحمى الرمضاء -وهي الرمل- فتبرك الفصال -جمع فصيل- وهي الصغار من أولاد الإبل، من شدة حرّها وإحراقها أخفافها.

وأختم مسألة التوقيت بتأكيد أنّ أداء صلاة الضحى في أي ساعة بين بداية وقتها ونهايته جائزٌ وحسنٌ، لكن ما قبل الزوال، أو عند اشتداد الحر، هو وقت الأفضلية.

عدد ركعاتها:

أقل ما تؤدى به سبحة الضحى، ركعتان، ثم أربع، وست، وثماني ركعات.

وفي نيل الأوطار: (وقَدْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالُهُ فِي مِقْدَارِ صَلَاةِ الضُّحَى، فَأَكْثَرُ مَا ثَبَتَ مِنْ فِعْلِهِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ، وَأَكْثَرُ مَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً). لكنّ الحديثَ في ثبوت اثنتي عشرة ركعة منقول عن أبي الدرداء، وهو ضعيفٌ، ولعله هو الذي أشار إليه الشوكاني.

وفي مسلم وغيره، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ). وبناء على هذا الحديث، قال بعض العلماء إنّه لا حدّ لأكثر صلاة الضحى. وهو اجتهاد، ولم يثبت بنصٍ من فعلٍ أو قولٍ عنه عليه الصلاة والسلام. والله أعلم

واستكمالاً للفائدة فإنّ صلاة الضحى، أو سبحة الضحى، والمعنى واحد من النوافل التي يجوز فعلها في السفر.

بقي في موضوع صلاة الضحى مسألتان مهمتان، أحيطتا بجدل واختلاف، ولعل الله يعين على تحرير القول فيهما:

أما المسألة الأولى فهي موضوع سؤال هل يصح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليها؟ وقبل الإجابة أقول مصححا لصيغة السؤال، إنّ الأصوب أن يقال: (لم يكن يواظب عليها)، وسيأتي التفصيل.

وجواب السؤال: نعم، لم يكن عليه الصلاة والسلام يواظب عليها، وقد صلاها، وجاءت بذلك أحاديث صحيحة. وسأكتفي بنصين يؤكدان ذلك:

عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنّها قالت: (ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإنّي لأسبحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم).

وجاء في فتح الباري لابن حجر ما يلي، تعليقا على حديث عائشة رضي الله عنها: (وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِك فَذهب بن عَبْدِ الْبَرِّ وَجَمَاعَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ مَا اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَيْهِ دُونَ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ وَقَالُوا إِنَّ عَدَمَ رُؤْيَتِهَا لِذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُقُوعِ فَيُقَدَّمُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ الْأَثْبَاتِ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا {مَا رَأَيْتُهُ سَبَّحَهَا} أَيْ دَاوَمَ عَلَيْهَا وَقَوْلُهَا {وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا} أَيْ أُدَاوِمُ عَلَيْهَا، وَكَذَا قَوْلُهَا {وَإِنْ كَانَ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ}).

وقد صَحَّ عَنِ ابن عُمَرَ: (أَنَّهُ قَالَ فِي الضُّحَى هِيَ بِدْعَةٌ). وجاء في الفتح أيضاً: (قَالَ عِيَاضٌ وَغَيره: إِنَّمَا أنكر بن عُمَرَ مُلَازَمَتَهَا، وَإِظْهَارَهَا فِي الْمَسَاجِدِ، وَصَلَاتَهَا جَمَاعَةً، لَا أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ بن أبي شيبَة عَن بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَهَا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَفِي بُيُوتِكُمْ).

وفي صحيح البخاري عن مورق العجلي قال: (قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ أَتُصَلِّى الضُّحَى؟ قَالَ لاَ. قُلْتُ فَعُمَرُ؟ قَالَ لاَ. قُلْتُ فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ لاَ . قُلْتُ فَالنَّبِىُّ؟ قَالَ لاَ إِخَالُهُ).

وقد يقف بعض الناس أمام كلام ابن عمر رضي الله عنه، وكذلك كلامه السابق في أنّ صلاة الضحى بدعة، طويلاً، ثم إنّهم قد يتوقفون في حكمها .. وقد يحتج محتج فيقول أنا لا أصليها لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبيه وابن عمر لم يصلوها..! وأقول: مثل هذا الاحتجاج مردود، ولو قال هذا المحتج لا أصليها لأنّها سنة وليست واجبة، لقلنا أنت وما ترى كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال: (والله ما أزيد على ذلك) ولم ينكر عليه. والذي رددناه على ذلك المحتج احتجاجه لتركه صلاة الضحى بترك الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه وابن عمر، وها هو التفصيل. أما ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، فبينا أنّه لم يثبت في حقه تركها، وإنّما أُثبت ترك المواظبة عليها. أما ما جاء عن الصحابة عليهم رضوان الله فلم ينقل عنهم تفسير لتركهم، فلا يستدل بما نُقل. والأولى أنّهم ما كانوا يتركونها ألبتة، وإنّما تركوا المواظبة، كفعل النبي عليه الصلاة والسلام.

وليس من شأن أي مسلم أن يسأل لمَ لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يصليها، وليس لمسلم أيضا، ولو كان عالما، أن يعطي لهذا السؤال جوابا، مادام لم يأت من أهل الشأن تفسير. ويبقى لكل المسلمين إلى قيام الساعة الأحاديث الصحيحة والصريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل صلاة الضحى، وعظم أجرها، والندب لفعلها .. ويكون هذا من باب العمل بالمنطوق الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم جواز تركها بالمفهوم، الذي هو محض اجتهادات وافتراضات .. والقاعدة الأصولية تقول: (إذا تعارض المنطوق والمفهوم، فالحكم للمنطوق) .. ولكي لا يكون في الأمر مشكلة، فهو خلاف في مسألة هي من النوافل.

وأما المسألة الثانية: فقد تناقل الناس في الأيام الأخيرة فتوىً صادرة عن دار الإفتاء العامة في المملكة الأردنية الهاشمية. مادة الفتوى سؤال عن صحة الحديث الآتي، وهل يُستفاد منه أفضلية صلاة الضحى في المسجد؟

عَنْ أَبِى أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لاَ يُنْصِبُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ وَصَلاَةٌ عَلَى أَثَرِ صَلاَةٍ لاَ لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِى عِلِّيِّينَ). والحديث عند أبي داود، وغيره.

وكان الجواب مع بعض الاختصار: (لقد استدل السادة الشافعية بالحديث المذكور على أنّ الأفضل في صلاة الضحى أداؤها في المسجد بغير جماعة). ثم خُتمت الفتوى، بعد ذكر أقوال أخرى: (لكن الذي نفتي به هو مذهب السادة الشافعية، خاصة وأنّ ظاهر الحديث يدل عليه والله أعلم). وقد انتشرت الفتيا عن طريق وسائل التواصل، وكثر السؤال عنها.

ونقول جوابا على استفتاءات وردتنا: أنّ الفتيا المذكورة استدلت بالمذهب الشافعي وأنهت المشكلة، ولكن أليس الاستدلال بهدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الأصل؟

ولنفرض أنّ الباحث وقف على أحاديث صحيحة ظاهرها التعارض، فلا يجوز أن يختار واحدا منها للعمل به، ويهدر باقي الأحاديث. إنّما الذي عليه العلماء، الجمع والتوفيق بين النصوص، ما استطاع الباحث إلى ذلك سبيلا، فإن تعذر الجمع لجأ عندئذٍ إلى الترجيح. ولنطبق هذه القاعدة في التعاطي مع المسألة التي بين أيدينا. ولنستعرض ابتداء الأحاديث الصحيحة الآتية:

عن حرام بن معاوية عن عمه عبد الله بن سعد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال: (ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة).

عن زيد بن ثابت، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلَّا الْمَكْتُوبَة).

وفي صحيح البخاري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِى بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ الْمَرْءِ فِى بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ).

ولنضرب مثالا على ما قلنا عن طريقة العلماء في الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض، ما فعله العظيم آبادي رحمه الله في كتابه (عون المعبود شرح سنن أبي داود)، لدى شرحه حديث أبي أمامة المتقدم والذي اتُخذ دليلا لفتيا دار الإفتاء الأردنية. ولن أنقل كلامه كاملا من كتابه، بل سأثبت تلخيصا له تجنبا للإطالة.لأنّ فيه بعض الاستطرادات.

يقول صاحب عون المعبود بعد أن يستشهد بكلام لملا علي القاري من كتابه (مرقاة المفاتيح)
أنّه لا تخالف بين هذا الحديث وحديث “أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة” لأنّ حديث الباب يدل على جواز صلاة الضحى في المسجد لا على أفضليتها ويثبت بعضاً من كلام القاري: (أو يُحمَل على من لا يكون له مسكن، أو في مسكنه شاغل ونحوه، على أنّه ليس للمسجد ذكر في الحديث أصلاً، فالمعنى: من خرج من بيته أو سوقه أو شغله متوجها إلى صلاة الضحى تاركاً أشغال الدنيا).

ويأتي بالكلام الآتي بنصه عن ابن حجر المكي: (ومن هذا أخذ أئمتنا قولهم: السنة في الضحى فعلها في المسجد ويكون من جملة المستثنيات من خبر أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة).

ثم يخلص العظيم آبادي إلى النتيجة أنقلها بالنص: (ما قاله ابن حَجَرٍ الْمَكِّيُّ هُوَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَالْقَوْلُ مَا قال علي القارىء رَحِمَهُ اللَّهُ). وقد أجاد صاحب عون المعبود وأفاد.

ملاحظة: لقد أسقط أصحاب الفتيا كلمة (المكي) بعد اسم ابن حجر، وما ندري هل هو سهوٌ أم غير ذلك؟! فيتوهم الناس أنّه ابن حجر العسقلاني صاحب كتاب (فتح الباري في شرح صحيح البخاري)، وأمير المؤمنين في الحديث. وشتان بين الرجلين.

ولقد تناقل بعض الناس من المذهبيين هذه الفتيا، وأضافوا لها شاهدا لتُدحَض به حجةُ الملا على القاري، والتي أيدها العظيم آبادي، وكلاهما على الحق إن شاء الله، في أنّ لفظة (المسجد) لم ترد في حديث أبي أمامة (فليرجع إلى ما جاء في عون المعبود، آنفا). أما الشاهد الذي أتوا به فهو الحديث الصحيح الآتي: كما خرجه الشيخ الألباني، في (صحيح الترغيب والترهيب):

عن عبدِ الله بنِ عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (بَعث رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَريَّةً فغنموا، وأسرعوا الرجعة، فتحدَّثَ النَّاسُ بِقربِ مغزاهم، وكثرةِ غنيمتهم، وسُرعةِ رَجعتهم. فقال رسول الله: (ألا أدلُّكم على أَقربَ منهم مغزىً، وأكثرَ غنيمةً، وأوشكَ رجعةً؟ مَن توضَّأَ ثم غدا إلى المسجدِ لسُبْحةِ الضحى (1) فهو أقربُ منهم مغزىً، وأكثرُ غنيمة، وأوشكُ رجعةً)). رواه أحمد من رواية ابن لهيعة، والطبراني بإسناد جيد.

ويقال للذين فرحوا بهذا الحديث، وطاروا به، لقد علمتم شيئا، وغابت عنكم أشياء..! يلاحظ وجود رقم (1) بعد كلمة (الضحى) وهذا من وضع الشيخ الألباني رحمه الله لما خرج الحديث في( صحيح الترغيب والترهيب)، ثم أضاف في الحاشية الآتي: ((1) فيه اختصار يدل عليه الحديث الآتي عن أبي هريرة، فتنبّهْ). ثم ذكر الشيخ الألباني رحمه الله بعده فورا حديث أبي هريرة: (بعثَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثاً، فأعظموا الغنيمةَ، وأسرعوا الكَرَّةَ: فقال رجل: يا رسول الله! ما رأينا بعثاً قطُّ أسرعَ كَرَّةً، ولا أعظمَ غنيمةً من هذا البعث. فقال: (ألا أخبركم بأسرعَ كرَّةً منهم، وأعظمَ غنيمةً؟ رجلٌ توضأ فأحسن الوضوءَ، ثم عَمَدَ إلى المسجِد، فصلَّى فيه الغداةَ، ثم عَقَّبَ بصلاةِ الضَّحْوةِ، فقد أسرع الكَرَّةَ، وأعظم الغنيمة)).
رواه أبو يعلى، ورجال إسناده رجال الصحيح، والبزَّار وابن حبان في “صحيحه”، وبيَّن البزّار في روايته أنّ الرجل أبو بكر رضي الله عنه.

زبدة الكلام أن روايتي الحديث صحيحتان من حيث الأسانيد، ولاختلافِ الصحابيين الراويين للحديث جاءت إحدى الروايتين، وهي رواية عبد الله بن عمرو مختصرة، وأما رواية أبي هريرة فأوفى من سابقتها، وعند جميع المحدثين (أنّ من معه الزيادة في الرواية، معه زيادة في العلم) ما لم تكن الزيادة شاذة، أو منكرة، فلا يعتد بها. ولا بد أن يصار إلى الزيادة مادامت الرواية صحيحة. ولا يجوز، والحال كذلك العمل بالرواية المختصرة، لأنّه مخالف لفن الرواية والدراية.

ويفهم من رواية أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالخارج إلى المسجد الذي ضرب به المثل للصحابة، أنّه يخرج ليصلي فريضة الفجر ويتبعها بصلاة الضحى، خلافا لما في رواية عبد الله بن عمرو الصحيحة المختصرة .. وبذلك يسقط احتجاج من احتج برواية عبد الله بن عمر متجاهلا رواية أبي هريرة، وكلاهما ينقل الواقعة نفسها. وهذا لا يستطيع كشفه وبيانه وتحريره إلا الجهابذة من المحدثين، ورحم الله شيخنا الألباني..!

وبعد، فلعله يتبين للقاريء نتيجةً لهذا البحث، الفرقُ الكبيرُ بين طريقة العلماء المحققين والمدققين والغيورين على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، في ألا تقدم للناس، وفيها التعارض والتناقض .. وفي الوقت نفسه يقفون ويوقفون المسلمين على الهدي النبوي الصحيح، والبعيد عن الاضطراب الذي يُلصقه فيه الاختلافات المذهبية، وبين التناول السريع للمسائل بعيدا عن البحث والتمحيص، وتقديمها للناس، لمجرد موافقتها لقول أحد في المذهب. ولله درُّ من قال:

يا باريَ القَوْسِ بَرياً لسْتَ تُحسِنُهُ لا تَظْلِمِ القوس أعْطِ القوس باريْها

واستكمالا للفائدة، أود أن أُذكر كل مسلم يحمل بين جنبيه همَّ الإسلام بقاعدة شرعية، كنت أقول وأكتب، أني لو أجد لها وصفا أعلى من المتداول (قاعدة ذهبية) لقلته! ولكنّي الآن استدرك على نفسي وأقول: إنّ وصف تلك القاعدة بأنّها (شرعية) يُغْني، ويُقْني، وهو فوق كل وصف. القاعدة هي: (استدل ثم اعتقد) .. وما أزرى بالمسلمين إلا عكسُهم لها، موافَقَةً لأهوائهم، فجعلوها (اعتقد ثم استدل) وأي صواب، بل أي خير يُرَجّى، بعد هذا العكس، إلا كل نَقْصٍ ونَكْصٍ ونَكْس..؟! … والحمد لله رب العالمين