إنّي في كثير من الأبحاث الدينية، أميل إلى تطبيق مفهوم حديث (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ) وأحتفي بهذا الحديث وفق مفهوم ابن تيمية له: (إنّما هي أمية تشريف) في أنّ أمة محمد تستغني في تطبيق دينها عما هو من صنع العقل البشري حتى لا تكون عالة عليه، وحتى لا يُمَنَّ عليها به .. ولذلك أمثلة منها: (مواقيت الصلاة وربطها بظواهر فلكية، ومواقيت الصوم والحج وربطها بالأهلة ورؤيتها دون اعتماد الحساب. ومفطرات الصوم وربطها بالدليل وليس بعلم التشريح والقياس …و..و.. و..).
وهذه المسألة من هذا القبيل. فيحرم كل طعام أو شراب مسكر بالتجربة وكونه يُحدث إسكارا أم لا … وليس بنتيجة التحليل المخبري، كما يرى الرفاعي ومن حشدهم معه، فوافقوه ليرفعوه، ولم يخالفوه لينصحوه .. وهذا شأن التجمعات المشيخية وما جرته على الأمة. لقد كان عندهم حجة أقوى لكنّها عميت عليهم لأنّهم لا يريدون الحق..! كان يسعهم أن يقولوا: هل يشك أحد أنّ الكحول مسكر..؟ والجواب، ولا شك لا، بل هو علة الإسكار في كل شراب أو طعام، فيقال إذن الغرام الواحد منه بل الميليغرام أو أقل من ذلك حرام عملا بحديث: (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ).
ورغم ضعف هذه الحجة شرعياً لكنّها أبسط من الطريق الطويل الذي ذهبوا إليه، ولم يوفقوا لها، ولم تكن بهم حاجة للجوء إلى الاستدلال بالقانون الإفرنسي والأمريكي وغيرهما.
أما نحن فلنا، والحمد لله، طريقنا العلمي في البحث .. أقول وبالله التوفيق:
لدى البحث في مسألة تصنيف مادة ما هل هي مع المسكرات أم لا .. هناك طوران للبحث:
الأول: أن نُثبت فعل الإسكار للمادة.
ثانياً: أن نبحث في صحة إلحاقها بالخمر في كل أحكامها ..
فمشكلة الخمر شرعياً ليس في شربها وحسب، إنّما
للخمر أحكام غير تحريم
شربها .. وقبل استعراضها نقول: إنّ التحريم في الكتاب جاء باسم الخمر، وكذلك في معظم الأحاديث وأوضحها عن ابن عمر مرفوعاً: (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ) رواه مسلم. وحديث آخر ضروري لقطع الطريق على المتفننين بصنعها، المتهربين من تحريمها: (من الحنطة خمر ومن التمر خمر ومن الشعير خمر ومن الزبيب خمر ومن العسل خمر) ..
والآن ما هي أحكام الخمر؟
1. ما جاء في حديث: (أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ، وعاصِرَها، ومُعتصِرَهَا، وحامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وشاربها، وبائعها، ومُبتاعها، وساقيها، ومُسقاها). فلو فعل مسلم واحداً من العشرة ، كان آثماً ولو لم يذق الخمر في حياته.
2. ومن أحكام الخمر عدم جواز تخليلها بيد المسلم لكنّها إن خللت من غيره حل خلها، لما جاء في مسلم عن أنس: (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلاًّ فَقَالَ: (لا)). وعن أنس: (أنّ أبا طلحة سأل النبي عن أيتام ورثوا خمرا قال: (أهرقها) قال: فلا نجعلها خلا ؟ قال: (لا)).
3. ومنها عدم جواز التداوي بها، كما في صحيح مسلم: (أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِىَّ سَأَلَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَا أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ)). ولحديث أبي هريرة: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ). وغيرها من أحاديث.
4. ومن أحكام الخمر، وكل شراب مسكر يلحق بها في الأحكام، أن يحرم قليله إلى حد التأثم بالقطرة الواحدة، وإن كانت القطرة لا تسكر، ما دامت المادة ألحقت بالخمر، لحديث: (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ).
والمشكلة الأكبر، اليوم، انتشار استعمال العطور الحاوية للكحول بنسب عالية، وتخبط العلماء المعاصرين في فتوى استعمالها لعدم تحرير أصل المسألة .. من مثل فتوى البوطي هي حرام لنجاستها ولكن تباح في العطور لعموم البلوى بها، ولا تخفى غرابة هذه الفتيا.
وصارت المسألة ملحة أكثر وأكثر يوم انتشرت في دمشق وغيرها تجارة العطور ومعظم ذاك الاتجار يكون بمادة الكحول بيعاً وشراء واستعمالاً .. وخلصت إلى أنّ مدار المسألة:
هل مادة الكحول خمر تسري عليها كل أحكام الخمر المذكورة آنفا؟ وما هو بالضبط مفهوم كلمة الخمر؟
أبدأ بالسؤال الثاني فأقول كل لفظ نزل به الكتاب الكريم أو جاءت به السنة المطهرة يفسر بالمفهوم الذي كان سائداً وقت النزول. فماذا كانت تعني كلمة الخمر عند العرب وقتئذ؟ شراب يصنع من مواد غذائية أو فواكه وأشهرها العنب بالتخمير أي تغطيته حتى يتخمر ليُلتَذّ بشربه وينتشى بإسكاره .. وأضيف بالاستنتاج صفة أساسية للخمر، أغفل ذكرها الكثيرون ممن تناولوا هذه المسألة، وأظنها فاصلة في المناقشة، وهي صلاحيتها لتناول البشر لها شراباً، ولا يعني أنّها غير ضارة بالصحة ولكن ضررها على المدى الطويل، وليس كاحتساء قارورة كحول صرف، التي قد تسبب الوفاة .. وكان الشاعر العربي يقول:
ونشربها فتجعلنا ملوكاً وأُسْداً لا يُنْهَنْهَهَا اللقاءُ
ويقول آخر:
إذا متُّ فادفني إلى جنب كرمةٍ |
تروي عظامى بعد موتى عروقُها أخاف إذا ما مت ألا أذوقها |
ويقول ثالث:
فإذا سكرتُ فإنّني |
ربُّ الخوَرْنَقِ والسديرِ |
هذه هي الخمر التي نزل القرآن بتحريمها وكذلك السنة، وتلك هي طريقة العرب في التعاطي معها.
وأما الكحول فمادة كيميائية تصنع لأغراض صناعية، ومن مواد صناعية ولا تصلح لتناول البشر لها شراباً، فهي شديدة الإيذاء للجوف .. ولو فعل ذلك بعض الفساق.
ومن مقارنة التعريفين نستنتج أنّ الكحول لا يمكن أن نلحقها بالخمر وإن اشتركتا في علة الإسكار .. ونقول لو شربت للإسكار (كما يفعل بعض المنحرفين إذا لم يجدوا المسكر) لكان شربها حراماً قولاً واحداً … أما أحكام الخمر الأخرى فلا تنطبق على الكحول .. فيجوز استعمالها من قبل المسلم في الأغراض الطبية والصناعية وغير ذلك. وأذكر أنّني في ذاك النقاش بل الجدل ضربت مثلا .. لو أنني وأنا راكب سيارتي وجدت صاحب صيدلية وهو جار لي معه بعض البضاعة ومنها قوارير كحول للتعقيم فهل أكون آثماً لو حملته معي في سيارتي كإثمي لو حملت معي في السيارة صاحب بقالة معه صندوق بيرة مسكرة..؟
بدون إطالة استيقنت بعد ذلك وبتأملات عدة أنّ الكحول شيء .. والخمر التي كان يعرفها العرب يوم تنزل القرآن شيء آخر وإن التقتا في خاصية الإسكار. ومن هذا التفاوت بين المادتين يمكن تحرير القول في أحكام كل منهما .. كذلك ضربت مثلا في البنزين الممتاز الموجود في السعودية وكيف كان بعض الشباب يستنشقون رائحته بطريقة خاصة فيصيبهم بحالة من النشوة قريبة من السكر .. فهل يجعلنا ذلك نلحق البنزين بالخمر وأحكام الخمر..؟
نرجع إلى المسألة الأصلية وهي البيرة الخالية من الكحول، وأستحضر أقوال أبرز علماء السعودية التي تدور حول المعنى الآتي: (إن أسكر شرب الكثير منها فهي حرام، وإلا فلا) ولم يدخلوا المسألة في المخابر والقانون الفرنسي والأمريكي والألماني عملا (بأمية التشريف) .. وأقول إنّها لا زالت تشرب في دول الخليج وغيرها من البلدان الإسلامية منذ ما يقرب من أربعين سنة، ولم ينقل أنّ أحداً سكر بكثيرها، ولا بقليلها .. فلماذا هذا التشكيك..؟
ولمّا اطمأنت نفسي إلى التفريق بين الخمر والكحول، وبعد تبصر ومراجعة لمرات، لكنّي لم أطلع على ذلك كل أحد لفقداني أي كلام، لعالم معروف، يقوي موقفي .. حتى أظفرني الله بكلام للشيخ سلمان العودة في موقعه منذ عشر سنوات تقريباً ففرحت به فرحاً عظيماً، وهذا بعض ما جاء به:
(فهل الخلاف في الكحول هو عين الخلاف في الخمرة؟ في ذلك نظر؛ لأنّ الخمرة أعدت في أصلها للسكر، بخلاف الكحول، فإنّه أعد للطيب أصلاً، ثم إنّ باب اللباس أخف من باب المأكول والمشروب، ثم إنّ الكحول لا يكاد يخلو منه طعام ولا شراب، إلا أنّ نسبته قليلة جداً، يقول الدكتور البار: وإذا علمنا أنّ الكحول يتكون في كثير من المأكولات، وجميع ما نخمره، مثل: الخمير، والخبز، والكعك، والبسكويت. بل إنّ الكحول يتكون داخل أمعائنا بفعل البكتريا، فإنّنا نتيقن بذلك أنّ الكحول غير نجس، وأنّ العلة في تحريم الكحول هي الإسكار فحسب، وكذلك إذا علمنا أنّ الكحول المستخدم في الكولونيا وغيرها لا يستخرج من الخمر أبداً، وإنّما يصنع بطريقة كيماوية، منها: تحويل غاز الإيثان إلى الكحول الأيثيلي أو الإيثانول – كما يسمى علمياً، وعلى ذلك فليس مصدر الكحول هو الخمر، ومن يقول بنجاسة عين الخمر، فإنّ الكحول المستخدم في هذه العطور والروائح ليس مستخرجاً من الخمر، بل هو مصنوع بطريقة مغايرة، ومن مواد ليست نجسة .. والله أعلم).
ويمكن مراجعة المقال كاملا في الموقع.
وعلى هذا الفهم والحكم يكون التيسير على الناس دون أي مخاطرة أو لي لأعناق النصوص .. وتكون الفتاوى في هذا الشأن صحيحة ومنسجمة مع النصوص. ودون هذا التفصيل يكون فيها بعض الاضطراب والتناقض، والأمثلة كثيرة. أختار منها فتوى في موقع الإسلام اليوم:
(أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان … ما حكم تناول علاج للسعال يحتوي الكحول، علماً أن معظم علاج السعال يحتوي الكحول؟
الجواب يجوز شرب علاج السعال وإن كان فيه نسبة من الكحول المحرمة في الأصل، لاسيما أنّ نسبتها ليست كبيرة، وعامة الأدوية تدخل الكحول في ركيباتها، واستخدام مثل هذا الشراب جائز من باب الضرورة الشرعية المعتبرة، الأحاديث الناهية عن شرب الخمر (الكحول) إنّما جاءت لتحريمها لذات الشرب بغرض الإسكار لا لغرض العلاج، وقد أفتى بجواز مثل هذه الحالة جمع غفير من العلماء، وعدد من المجامع العلمية الفقهية، وفق الله الجميع إلى كل خير).
أعلق فأقول: أين ذهبت أحاديث النهي عن التداوي بالمحرم عند الدكتور..؟
ويوم يتسلسل البحث، وتحرر أصوله، وتنسجم مراحله .. نعصم فتاوانا من التناقض والتردد .. ونجني الفوائد التالية:
1. لا يكون الاتجار بمادة الكحول حراماً.
2. لا يكون في استعمال العطور التي تحوي الكحول ولا في بيعها وشرائها أدنى حرج.
3. لا يكون في استعمال الأدوية التي تحوي نسبة من الكحول، وهي كثيرة، أدنى حرج ما دامت النسبة لا تحدث الإسكار.
4. لا يكون في شرب البيرة الخالية من الكحول أي إشكال شرعي، ولو ثبت مخبريا وجود نسبة من الكحول لا تحدث الإسكار.
5. لا تنطبق على الكحول قاعدة: (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) ما دمنا لم نصنفها على أنّها شراب مسكر، حسب التفصيل السابق. وإنّما يحرم القدر الذي يحصل به الإسكار .. وبالمناسبة فإنّ مما يؤخذ على الأسلوب الذي اتبعه الرفاعي في البحث، اعتماده على الأرقام وبشكل دقيق وهو خلاف منهجنا وهو (أمية التشريف) ولقد وقفت على كلام للطيبي يعلق فيه على حديث الترمذي المعروف فيقول: (الفَرَقُ ومِلْءُ الكَفِّ: عبارتان يراد منهما التكثير والتقليل لا التحديد) … هذا والله أعلم ورد العلم إليه أسلم، والحمد لله أولا وآخرا