جاء في صحيح مسلم
عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ فَإِذَا أُهِلَّ هِلاَلُ ذِى الْحِجَّةِ فَلاَ يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّىَ).
وفي رواية: عن سعيد بن المسيب يقول: سمعت أم سلمة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ).
ولنجعل بحثنا على شكل ملحوظتين:
الأولى: الحديث بروايتيه صحيح، وهو في مسلم، ولا يُعتد بالأقوال المضعفة له. ومع ذلك حدث الاختلاف بين العلماء في ثبوته، وفي دلالته وتطبيقه، على ثلاثة مذاهب:
1. الحنابلة فقط قالوا بوجوب العمل به، وهو الراجح.
2. الشافعية قالوا بالاستحباب، وتركُه على الكراهة.
3. الأحناف والمالكية قالوا بأنّ العمل به ليس بسنة، ولا يلزم من تركه شيء.
الثانية: مناقشة..
بيَّنا أنّ القول بالوجوب هو الراجح، ومن ترك ذلك آثمٌ، لكنّ أضحيته صحيحة. والدليل أنّ الحديث صحيحٌ؛ لا يقبل ترك العمل به، وصريحٌ؛ لا يقبل التأويل والاختلاف في فهمه وتطبيقه.
ومن المفيد أن نبين مواقف من لم يقولوا بالوجوب، وأدلتهم باختصار:
أ. من نالوا من صحة الحديث، تكلموا في السند، وقالوا بعدم الرفع، وقالوا إنّ الحديث انقلب على أم سلمة رضي الله عنها، وكل ذلك غير صحيح. وكون الحديث في مسلم يرد عليهم ويبطل ما ذهبوا إليه.
وآن للمسلمين إنْ صح الحديث أن لا يعبؤوا بالأقوال المخالفة، وذلك أرضى لله، وأسلم لأمر الدين، من أن تتقاذفه العقول والأذواق والأهواء .. وقد عززوا مذهبهم بأنّه لم يثبت أنّ النبي عليه السلام عمل به ولا الصحابة، وهذه دعوى باطلة لا دليل عليها.
ب. منهم من رد الحديث بحديث عائشة رضي الله عنها وهو في الصحيحين وغيرهما: (كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم يقلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم يبعث بها مع أبي فلا يدع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أحله الله عز وجل له حتى ينحر الهدي). والقلائد مثل ضفائر من قماش ملون يُعَلَّمُ بها الهدي المرسل إلى الكعبة، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك في غير الحج، لا يمتنع عن فعل شيء .. أما رد حديث أم سلمة رضي الله عنها، بحديث عائشة رضي الله عنها، المذكور، فيجاب عنه من عدة وجوه:
1. عائشة رضي الله عنها تتحدث عن عبادة مستقلة، كان يفعلها النبي عليه السلام، وهي إرسال الهدي إلى مكة ليذبح هناك تطوعاً، ولا يُحرّم على نفسه شيء .. وأم سلمة رضي الله عنها تتحدث عن عبادة أخرى مستقلة وهي الأضحية، وتنقل عن النبي عليه السلام أحكاماً متعلقة بها .. فلا وجه أبداً لمقارنة الحديثين ورد أحدهما بالآخر. فكل حديث يتناول حكماً مستقلاً.
2. نقول لمن لا زال يُصر على مقارنة الحديثين، بعد البيان السابق، عائشة رضي الله عنها تروي حديث فعل، وأم سلمة رضي الله عنها تروي حديث قول، والقول مقدم على الفعل عند التعارض، ولا مراء.
3. ومرة أخرى نقول لمن لا زال يُماحك، بعد ما قيل، فلنطبق قاعدة (المُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافي)، فعائشة رضي الله عنها تنفي، وأم سلمة رضي الله عنها تُثبت، فيكون العمل بحديثها واجباً.
بعد هذا التطواف عليك أيها المسلم أن تخرج بفائدتين:
الأولى: الحكم الصحيح للمسألة المناقشة، المستنبط، ببساطة ويسر وفق ضوابط الاستدلال الصحيحة، بعيداً عن اللف والدوران.
والثانية: أن تعلم من خلال ما قيل أنّ كثيراً من المسائل الفقهية، رغم وضوح أدلتها، تعرضت لإدخالها في متاهات الجدل والأخذ والرد، وهذا من جنايات المذهبية التي أفرزت أنّ (الاختلاف رحمة)، وأن لا مانع من ( تعدد الحق) .. وكان من نتيجة ذلك أن وجدنا في تراثنا الفقهي حالات كثيرة مما يمكن أن نسميه (ترفاً فكرياً)، يجادل لأجل الجدل، ويخالف لأجل الاختلاف..! .. إذن التراث يُقَدَّرُ ولا يُقَدَّسُ، ففيه الغث وفيه السمين، وفيه الصواب وفيه الخطأ، وتبقى النصوص هي الفصل والفيصل.
وأما في واقعنا المعاصر فنحن نعاني من نوع جديد من الخلل الفقهي، فبالإضافة إلى السلبيات القديمة، فقد أفرز الواقع الجديد ما أضر بالسلامة العلمية التي تعتمد المعايير الصحيحة في الاستدلال .. فلما ابتلي المسلمون بما يسمى (الإسلام السياسي)، الذي خلط الدين مع السياسة على منهج السياسيين، فكان العجب .. جعل الدين لخدمة السياسة، فكانت المقولة الخطيرة التي يدين بها أهل الإسلام السياسي (نتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه). يعني إلغاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك التواصي بالحق، وهي صورة حديثة لمقولة قديمة بين العوام (كل مين على دينه الله يعينه). صلَّ كما تشاء، ودعني أصلَّ كما أشاء، المهم أن لا يفسد الدين تلاحمنا السياسي..! وما أكثر المفتين من رجال الإسلام السياسي.
ولمّا كان الواقع المعاش يطبق فيه الناس، وليس الحاكم، علمانيةً في البيوت والأسواق وأماكن النزهة وكل شيء، لرقة الدين .. باتت حياة المسلمين أقرب إلى حياة أهل الكفر، بل هي محاكاة مقصودة لها، فصار الواقع يحتاج فقهاً جديداً يتجلى فيه ضغط الواقع ومحاباته، بل صار يظهر ضغط الواقع على أهل الفتوى .. مثال ذلك المسألة التي بين أيدينا. فحين ابتلي أكثر الرجال بحلق لحاهم، صار تطبيق حديث أم سلمة رضي الله عنها في مسلم، مُحرجاً لوجوب ترك الحلق مدة عشرة أيام، لمن يريد أن يضحي .. فنرى أكثر المفتين يفتون بالحلق أخذاً بالأقوال الباطلة والاستدلالات الواهية التي مرت.
وبعد، أما آن الأوان لتوبة وأوبة ورجعة، إلى تحكيم الوحيين، ونبذ علم الكلام وأهله، وتَحكُّم العقل ومنافسته النقل، وأن لا يُخضَع الدين للواقع بل يُخْضَع الواقع للدين .. ولعل في ما سُطِّر ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد