Skip to main content

حُكْمُ الإِقَامَةِ فِي البِلَادِ غَيْرِ المُسْلِمَةِ

By السبت 12 شعبان 1439هـ 28-4-2018ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

موضوع ليس بالجديد، وليس الذي جعله محلَّ بحث، الأوضاعُ التي تمر بها بعض بلاد المسلمين. إنّما هو من تعاليم الإسلام التي أكدها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن حدثت الهجرة إلى المدينة، وقامت الدولة المسلمة فيها. وتَزَيَّل الإيمان والكفر، ولم يعد المسلمون والكفار مختلطين على أرض واحدة، كما كان الحال في مكة .. ولنستعرض النصوص الصحيحة التي منعت من مساكنة المسلمين للكفار:

1. يقول عليه الصلاة والسلام: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ: لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا). ولا تراءى ناراهما: تعبير تستعمله العرب عن بعد المسافة بين موقعين على الأرض، بحيث لو أوقدت نار في أحدهما لما أمكن رؤيتها من الآخر.

2. يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا، أو يفارق المشركين إلى المسلمين).

3. يقول عليه الصلاة والسلام: (من جامع المشرك، وسكن معه؛ فإنّه مثله).

4. وعن جرير قلت: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع فقلت: يا رسول الله ابسط يدك حتى أبايعك واشترط علي فأنت أعلم قال: (أبايعك على أن تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين)).

هذه أبرز النصوص، وإن وجد غيرها من روايات، فبألفاظ مغايرة للمعاني نفسها، والنصوص المذكورة لا مطعن في صحتها.

ولمعرفة شدة الحكم في المسألة، فلنستعرض بعض ألفاظ الأحاديث السابقة:

. (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ…) فهل من عقوبة، أو وعيد أشد من أن يتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم لفعل يفعله المسلم..؟ وماذا يكون حكم ذلك الفعل إلا التحريم الشديد؟

. (لا يقبل الله عز وجل…) نعيد العبارة السابقة مرة أخرى:
هل من عقوبة، أو وعيد أشد من أن لا يقبل الله من مشرك بعد أن يسلم عملا ما لم يفارق مساكنة أهل الشرك والكفر..؟ وماذا يكون حكم ذلك الفعل إلا التحريم الشديد؟

. (فإنّه مثله…) نعيد العبارة السابقة مرة أخرى:
هل من عقوبة، أو وعيد أشد من يجعل النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، المسلم الذي يساكن المشرك ولا يفارقه، مثله..! وماذا تعني كلمة مثله إلا أنّه مشرك مثله؟! وماذا يكون حكم ذلك الفعل إلا التحريم الشديد؟

. (يا رسول الله ابسط يدك حتى أبايعك…) وهل يبايع رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم إلا على أركان الإسلام وقواعده الثابتة..؟ ولنرجع ثانية إلى الحديث، لنرى الأمور المُبايَع عليها: (أن تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين). وفي أصول الفقه قاعدة تسمى (دلالة الاقتران)، وتعريفها: (أن يُجْمَع بين شيئين أو أشياءٍ في الأمرِ أو النهيِ، في سياق واحد، ثم يُبَيَّنُ حكمُ أحدِها، فيستدل بالقِرَانِ على ثبوتِ ذلك الحُكْمِ للآخرين). فقد استدل من قال بأنّ نجاسة الخمر معنوية وليست حسية حقيقية بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وذلك لأنّها اقترنت بالميسر والأنصاب والأزلام، وليست أعيانها نجسة.

كذلك استدل بعض الفقهاء على أنّ التسليم في آخر الصلاة يعد ركنا من أركانها لاقترانه مع تكبيرة الإحرام، في قوله عليه السلام عن الصلاة: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، ومعلوم من نصوص أخرى أنّ تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة .. وعلى القاعدة المذكورة (دلالة الاقتران) يكون حكم مفارقة المشركين كحكم أركان الإسلام في القوة. ومرة أخرى نقول: وماذا يكون حكم مفارقة المشركين إلا التحريم الشديد؟

تتمات:

* الأحكام السابقة لا تنطبق على من سافر إلى بلاد الكفر للتجارة أو المعالجة أو الدراسة، مادامت فترة الإقامة تنتهي بقضاء الحاجة. ويمكن أن يشترط أن يكون المطلوب موفورا ببلد إسلامي بالمستوى نفسه.

* يكثر اتصال الناس، وبخاصة من السوريين، في السنوات الأخيرة يطلبون فتيا أو رخصة أو استثناء من الحكم السابق، من أجل الهجرة إلى بلاد الكفر، ويذكرون ظروفهم ويبالغون فيها. والجواب على ذلك: أنّ المفتي لا يجوز أن يفتي في أي مسألة إلا بالنص والحكم الشرعي، أما الاسستثناء فصاحب السؤال هو الذي يتحمل مسؤولية استثناء نفسه من الحكم الذي بُيِّن له بتفصيل، لأنّه هو الذي سيقف بين يدي ربه للحساب، فهو إذن الذي يقدر هل حجته تقبل عند ربه أولا، وهو الأدرى بدرجة حاجته أو ضرورته وليس الذي يفتيه. أما أن يعتقد أنّه إذا استصدر لنفسه فتيا فإنّها تنجيه عند الله، عملا بمثل عامي نجدي يقول (خلِّ بينك وبين النار مطوع) فهذا وهم وتورط .. والنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا ذلك وحذرنا من أن نقع فيه، وذلك في الحديث المتفق عليه: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)

والذي يفتي الناس بشر، وكل من تعرض للإفتاء يعلم أنّ الناس يضخمون الأسباب التي تدعو إلى التخفيف ليكون ألحن في عرض وضعه، فلنتق الله جميعا .. وأذكر إخواني بقوله تعالى في سورة القيامة: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، ويقول الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، أي: شاهد ومحاسب. {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فإنها معاذير لا تقبل، ولا تقابل ما يُقرَّر به العبد، فيقرُّ به، كما قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}. فالعبد وإن أنكر، أو اعتذر عما عمله، فإنكاره واعتذاره لا يفيدانه شيئا، لأنه يشهد عليه سمعه وبصره، وجميع جوارحه بما كان يعمل، ولأن استعتابه قد ذهب وقته وزال نفعه: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}).

* يقول بعض الذين أوتوا الجدل، إنّ كل بلاد المسلمين يُرتكب فيها من المخالفات والكبائر، أكثر وأشد من الدول الكافرة، فما فائدة منع المسلم من الإقامة مع الكفار؟

والجواب: أن نُعَلّم الناس أولا أنّ النقاش العقلي في مواجهة النص الشرعي القاطع لا يجوز ولا ينفع فاعله، وأما حال العالم اليوم فليس خافيا على خالق الكون، ومن له الأمر والحكم. والأمر الهام في المسألة ليس وجود المعاصي نفسها في بلاد الكفر وبلاد الإسلام. إنّما هناك ما هو أهم الثقافة المتجذرة في الأرض. فهل نجد في أرض الكفر شخصا واحدا يقول الزنا حرام أو الربا حرام أو المسكر حرام، لا لأنّهم أصلا لا وجود للحرام في ثقافتهم المتجذرة في بلدهم على مر القرون، كما هو الحال في البلاد المسلمة، ولو وجدت في بلاد المسلمين الكثير ممن يستبيحون تلك المحرمات، فإنّك ستجد في المجتمع الأضعاف المضاعفة لذلك العدد ممن يقولون إنّها حرام بملء أفواههم، وقد يكون منهم من يرتكب ذلك سرا، وهذا ما نعنيه بالثقافة المتجذرة. أما موضوع تنشئة الأبناء في محاضن لا تمت إلى الدين والأخلاق بصلة، فتلك باقعة كبرى يطول الشرح فيها … والحمد لله رب العالمين