يكاد يكون (التأمين الصحي) حديث الناس، كل الناس اليوم، في البلدان التي طبقت هذا النظام، وقد دخل الناس فيه مجبرين أو مختارين. ولارتباط المسمى بكلمة (التأمين)، وما استقر في أذهان الناس من حرمة التأمين شرعياً، كان هذا الاهتمام، استبراء لدينهم .. كما يشكل الموضوع حيرة لبعض الناس إذ تتجاذبهم خشية الحرمة من جهة، وارتفاع كلفة متطلبات الرعاية الصحية، في معظم البلدان، من جهة أخرى .. ولعل في الأسطر القادمة، بإذن الله، تجلية للموضوع، تعتمد التبسيط وتقريب الموضوع من كل الأفهام.
ولا بد من البدء من أصل المسألة وهو حكم التأمين بشكل عام كمقدمة لينتهي الموضوع إلى حكم (التأمين الصحي). وأول بداية للتأمين كانت بين العاملين في البحر، منذ مئات السنين، متعاونين بينهم لتَحَمُّل الأخطار التي تصيبهم، وسُمِّي (التأمين البحري)، وكان نواةً لما صار يعرف بالتأمين التعاوني. لكنّه تلاشى بعد حين لفقده مقومات الاستمرار، إذ أنّه لا يقبل التوسع، لأنّه يصل إلى حالة العجز عن تحقيق ما أوجد له، حين يكبر حجم التزاماته، عن مدخر صندوقه، ليحل محله نوع آخر من التأمين، ما زال سائداً في العالم كله حتى اليوم وهو: (التأمين التجاري)، الذي أضاف إلى عملية التأمين عمليات تجارية ربوية، لتؤمن دخلاً يفي بحاجة العملاء المؤمنين .. وصار لا بد له من جهة مالكة، ولا بُد من أن تتوخى الربح، فخرج كلياً عن المفهوم التعاوني (الإنساني)، وصار نوعاً من العمل التجاري، لتحقيق الأرباح الباهظة، وأسست له شركات عملاقة.
وصورته أنّه (عقد يتم بين شركة التأمين ومستأمن معين تتعهد هذه الشركة بمقتضاه بدفع مبلغ من المال،عند حدوث خطر معين، مقابل التزام المستأمن بدفع مبلغ مالي محدد).
و(التأمين التجاري) بكل أشكاله حرام في الإسلام، ويكاد يكون هذا إجماع العلماء والمجامع الفقهية الإسلامية، إلا قليلا ممن تأثر بالواقع وضغطه، واستسلم للأمر الواقع في بعض البلدان الإسلامية، فبدأ بمحاولة إيجاد مستندات شرعية لتحليله، لعموم البلوى به، بزعمهم، ولإثبات صلاحية أحكام الإسلام لكل زمان، بفهمهم..! ولكن كل مستنداتهم جاءت عرجاء لا تقوى على جعل هذا الأمر المحرم يقوم على سوقه.
وليكون القاريء على بينة، نُبَسِّط السبب الشرعي لتحريم التأمين: رجل اتفق مع شركة تؤمن على سيارته لمدة سنتين مقابل أن يدفع كل شهر 200 ريال. مضت السنتان ولم تصب السيارة بأي حادث، والشخص دفع للشركة مبلغ 4800 ريال، والشركة لم تدفع له أي هللة، فماذا قدمت له الشركة مقابل ما أخذت؟ سيقول أنصار التأمين: قدمت له الأمان. وقد رأيت ذلك مسطورا في كتب لعلماء اقتصاد مسلمين. ونجيب: نعوذ بالله، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، فهل يملك الأمن والأمان للعباد غير خالقهم..؟. فمن الرابح ومن الخاسر إذن؟ لا شك أنّ الرجل الذي طلب التأمين هو الخاسر والشركة هي الرابح..! نعيد المثال السابق، بعد القسط الأول وهو 200 ريال وقع الحادث، فدفعت الشركة للرجل 50000 ريال، فمن الرابح ومن الخاسر؟ الشركة هي الخاسر والرجل هو الرابح..! والسؤال هل لهذا التذبذب بين الربح والخسارة لطرفي التأمين ضابط أو قاعدة أو سبب يمكن أن تفسر به الأمور؟ الجواب لا. إنّه أمر غيبي لا يعلمه إلا الله، والعامة تقول إنّه مسألة (حظ). هذا ما يسمى شرعياً بالغرر والجهالة وهما محرمان، في المعاملات، في الإسلام.
ويسمي الإسلام مثل هذا التعامل المبني على الحظوظ بأنّه (الميسر)، والله يقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ويعرف العلماء الميسر تعريفاً مبسطاً فيقولون: كل معاملة مادية بين طرفين تنتهي بغانمٍ أو غارمٍ، ومثل ذلك ما يحصل لمن يشتري بطاقة (اليانصيب) فإما أن يربح جائزة، وإما أن يخسر ثمن البطاقة. وهذا أبسط شكل للميسر (القمار). وبناء على ذلك فإنّ الميسر هو من أكل أموال الناس بالباطل، وهو حرام.
يضاف إلى ما قيل، أنّ شركات التأمين تتعاطى صفقات ربوية ضخمة لاستثمار الأموال المتجمعة من اشتراكات المؤمنين، في مشاريع ربوية كبيرة، تؤمن للشركة ربحاً كبيراً تعوض به ما تخسره في عقود التأمين.
ومن أشد أسباب تحريم التأمين في الإسلام، كونه يُعَلِّق آمال الناس وهممهم بالأسباب المادية المحضة، ويبعدهم عن تسليم كل أمورهم لله، وطلب الأمن والأمان والسلامة منه تبارك وتعالى،
والاستسلام لقضائه وقدره إذا نزلت المصيبة: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
وبدأ الواقع في كل البلدان الإسلامية يضغط، للترخيص لشركات التأمين بالعمل، وانتشرت بحكم الأمر الواقع، فعمَّت وطمَّت، ودخلت كل مجال .. ولم تسكت الأصوات التي كانت تذكر وتؤكد
حرمة
التأمين التجاري. ثم بدأ يظهر شيء من التلبيس بادعاء إحياء فكرة (التأمين التعاوني)، وظهرت شركات تحمل هذا الاسم. والحق، أنّ التأمين التعاوني بمفهومه التعاوني والتكافلي الصافي، يستحيل تطبيقه دون تنازلات وثغرات وترقيعات، لنقله من الحرام إلى الحلال وهيهات.
والتعريف النظري (للتأمين التعاوني) ما جاء في بعض المراجع القانونية والاقتصادية: (إنّ التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة
ولا ربحاً من أموال غيرهم وإنّما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر). فهل ما جاء في التعريف موجود واقعياً في أي بلد؟ لا، لأنّه كما أسلفنا كلام نظري مثالي، لا يقبل التطبيق العملي، على نطاق واسع، ومع خليط من البشر لم يجتمعوا أصلا على الاحتساب للعمل من أجل الآخرين..!
ولما انتشرت بعض الكتابات والفتاوى التي خلطت الأوراق، وبدلت الحقائق، صدر من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بيان يرد ذلك التلبيس:
(الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فإنّه سبق أن صدر من هيئة كبار العلماء قرار بتحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه؛ لما فيه من الضرر والمخاطرات العظيمة، وأكل أموال الناس بالباطل، وهي أمور يحرمها الشرع المطهر وينهى عنها أشد النهي.
كما صدر قرار من هيئة كبار العلماء بجواز التأمين التعاوني وهو الذي يتكون من تبرعات من المحسنين. ويقصد به مساعدة المحتاج والمنكوب ولا يعود منه شيء للمشتركين – لا رؤوس أموال ولا أرباح ولا أيّ عائد استثماري – لأنّ قصد المشترك ثواب الله سبحانه وتعالى بمساعدة المحتاج ولم يقصد عائداً دنيوياً. وذلك داخل في قوله تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإْثْمِ وَالْعُدْوَان]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: [وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ] رواه مسلم.
وهذا واضح لا إشكال فيه، ولكن ظهر في الآونة الأخيرة من بعض المؤسسات والشركات تلبيس على الناس وقلب للحقائق.حيث سموا التأمين التجاري المحرَّم تأميناً تعاونياً، ونسبوا القول بإباحته إلى هيئة كبار العلماء من أجل التغرير بالناس والدعاية لشركاتهم.
وهيئة كبار العلماء بريئة من هذا العمل كل البراءة؛ لأنّ قرارها واضح في التفريق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني، وتغيير الاسم لا يغير الحقيقة. ولأجل البيان للناس وكشف التلبيس ودحض الكذب والافتراء صدر هذا البيان .وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين). اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.رقم الفتوى: [1003].
وبعد هذا البيان الشافي، والإيضاح الوافي، نصل إلى موضوعنا الرئيس (التأمين الصحي)، مؤكدين أنّ التأمين الصحي فرع عن التأمين التجاري وله حكمه، وإن كانت بعض الجهات تحاول ربطه بالتأمين التعاوني لإحلاله، والخلاف في ذلك كبير، والشبهة قائمة .. ويأتي التفصيل بعون الله.
التأمين الصحي…
التأمين الصحي لا يختلف عن كل ما ذكر، وللإيضاح نكرر ونمثل، موظف دفع لقاء التأمين الصحي 2000 ريال سنويا لشركة التأمين أو لمؤسسته المتعاونة مع شركة التأمين، فلو لم يمرض لكان هو الخاسر لأنّه دفع 2000 ريال مقابل لا شيء، والشركة ربحت ما دفعه لها، وفي حال تكاثرت عليه الأمراض، واحتاج الفحوص المتقدمة والعمليات، يصبح هو الرابح والشركة هي الخاسرة. وهذا هو الميسر، وهو أكل أموال الناس بالباطل .. وبعض العلماء تعاملوا مع التأمين الصحي على أنّه أمر واقع، لا بد منه في المجتمعات الحديثة اليوم، ولا شك أنّ ذلك واحد من كثير من الأمور التي يقلد المسلمون فيها أهل الكفر، والبدائل لديهم موفورة.
وفي كل المجتمعات، لا
يمكن الاستغناء عنه، خاصة مع غلاء العلاج والدواء. واعتبره بعضهم من الحاجات التي تصل إلى حكم الضرورات. والكلام قابل للمناقشة. ورحم الله الشيخ العثيمين، فكان يصرح في كثير من مقابلاته بحرمة التأمين الصحي، ويقول إنّه من الميسر، وهو حرام بلا
شك. ويقول من أُجبر على ذلك بقوة النظام فليدفع ما يُطلب منه مكرهاً، وهو معذور، ولكن لا يأخذ من شركة التأمين إلا بقدر ما أعطاهم.
يبقى السؤال الملح الذي يطرحه كل أحد: ما العمل؟
الجواب: التأمين الصحي، كسائر أنواع التأمين، حرام ولا ينتطح في ذلك عنزان، كما بُيِّن سابقا..! ولا يجوز أن تكون الفتيا العامة فيه، مخالفة للحكم العام. أما إدخال حالات الاضطرار، أو الحاجة التي تصل إلى حالة الاضطرار، في بلد ما، فلا ينبغي أن تكون سببا في تغيير الحكم الشرعي. لأنّها حالات خاصة تدرس وقد يكون لها عند العلماء مخرج، وتعطى فتاوى خاصة لأصحابها، وهي خارج الحكم العام، الذي يجب أن تحمله إلى الناس فتاوى العلماء ونصائحهم بالتزام ما يوافق الشريعة وترك ما يخالفها .. ولا نترك كل الناس يركنون إلى تلك الفتاوى الخاصة حينما تطرح على ملءٍ. فيتهرب الناس من تحمل مسؤولية أعذارهم ومواقفهم التي يتوهمون أنّها تبيح لهم مخالفة حكم الدين، أمام الله، ظانين أنّ الفتاوى الخاصة تَسَعُهم.
وللشيخ سليمان الماجد عدة فتاوى قيمة، في موقعه، حول التأمين الصحي، منها جوابه عندما سئل عن جواز الانتفاع بالتأمين الصحي الذي تقدمه المؤسسة لمن يعمل بها فقال:
(وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. ما دام أنّ جهة العمل قد التزمت بتقديم خدمة معينة للموظف، مثل العلاج، ولم يوقع الموظف عقد التأمين مع شركة التأمين فله الاستفادة من هذه الخدمة، وليس مسؤولاً عن عقد شركته مع شركة التأمين .
ونحوُ ذلك: إذنُ الشريعة في الأكل من ضيافة اليهودي رغم أنّهم أكلة الربا؛ وقد ثبت ذلك في السنة من وجوه متعددة؛ وكالمجني عليه في الحوادث المرورية وغيرها يستحق التعويض، ويحل له أخذه من شركة التأمين؛ رغم أنّه نتج عن عقد محرم، وكذلك أكل الزوجة والولد من مال رب الأسرة؛ وإن كان ناتجا عن حرام.
وهذا كله مبني على أنّ المال الحرام إنّما يحرم على كاسبه أن ينتفع به هو، وفي “فتاوى اللجنة الدائمة” (26/26/332): (لا يجوز للأب أن يربي أولاده على كسب حرام، وهذا معلوم عند السائل، وأما الأولاد فلا ذنب لهم في ذلك، وإنّما الذنب على أبيهم) اهـ.
ولهذا لم يحرم وضع المال الحرام في وجوه البر؛ لما ذكرنا من أنّ حكم التحريم تعلق بكاسبه أو من عقده.
فعليه نؤكد في مسألتنا أنّه إذا التزمت الشركة بتغطية النفقات الطبية، ثم تعاقدت مع شركة تأمين لتمويلها كان خطاب تحريم التأمين موجها إلى الشركة لا إلى موظفيها. لكن هذا لا يمنع مناصحة الشركة فيما يرى الموظف أنّه محرم. والله أعلم).
وهذه فتوى مؤصلة، وواقعية والحمد لله، فجزى الله الشيخ خير الجزاء.
ولعل من المناسب أن نثري الموضوع بفتيا لشيخنا العثيمين رحمه الله، يدندن فيها حول الموضوع نفسه. يقول رحمه الله: (وقد سبق بيان أنّ وجه كون التأمين الصحّي من الميسر أنّ الشّخص يدفع مبلغا من المال تمتلكه شركة التأمين، فإذا مرض أو حصل له حادث استفاد وإلاّ ذهب ماله، ثمّ قد تكون الاستفادة بمثل أو أقلّ أو أكثر مما دفع. وفي هذا من الجهالة والغرر، وأكل المال بغير حقّ، أو الخسارة لأحد الطّرفين ما لا يخفى. وليت بعض المسلمين أو العقلاء يقومون بإنشاء مؤسسات تأمين تعاونية تقرّها الشّريعة الإسلامية، تكون فكرتها الأساسية أن يتضامن دافعو الأموال لصندوق معيّن (لا يمتلكه طرف آخر) أنّه إذا حصل لأحدهم مرض أو حادث أنْ يعوّض برضاهم، ثمّ لا بأس أن يُعطى القائمون على هذا الصّندوق من الموظّفين رواتب، ولا بأس أن تستثمر الأموال شركة أخرى بنسبة معينة من الأرباح).
لعل في ما قيل بياناً وتذكرةً ونفعاً، والله أعلم … والحمد لله رب العالمين