Skip to main content

العَمَلِيَّاتُ الانْتِحَارِيَّةُ

By الجمعة 12 ربيع الثاني 1434هـ 22-2-2013ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

كلام في المسمى: أحبَّ الذين يريدون أن يرفعوا من شأن تلك العمليات، تسميتها بالاستشهادية، وفي الوقت نفسه، من باب التفاؤل بكون فاعلها شهيداً، ولا بُد أن يُميز قبل ذلك، بين مفهوم الشهادة الإسلامي الذي صار مختلطاً عند الناس بالمفهوم الوطني والسياسي للشهادة … ونُذكر بما جاء في صحيح البخاري (باب لاَ يَقُولُ فُلاَنٌ شَهِيدٌ). عَن أَبُي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قال: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِهِ). فالبون واسع ويجب التمييز.

وأراد آخرون تسمية الأشياء بمسمياتها فقالوا: (العمليات الانتحارية) لأنّ فاعلها باشر قتل نفسه، ولم يُقتل بفعل غيره، فهو منتحر ولا شك.

طالعت العمليات الانتحارية الناس في العالم العربي، حينما بدأت تمارس في الأراضي المحتلة في فلسطين. ونظراً لما تحتله القضية الفلسطينية في نفوس الناس، فقد أعجبوا، بل فتنوا بتلك العمليات، ولم يُفكروا في الحكم الشرعي لها، جهلاً. وساير كثير من أهل الدين الناس، وسارعوا في هواهم، فسكتوا ولم يصححوا لهم مفاهيمهم، فكُرس الإعجاب والتعلق بتلك العمليات. وضَخَّمَت (ثقافة المقاومة) أمرَ تلك العمليات، لأنّها ساعدت (بفرقعتها) على نشر تلك الثقافة..! ولمّا مارست حماس تلك العمليات، وروجت لها اطمأن الناس إلى شرعيتها، لما يظنونه بحماس من خير…!

بدأ بعض أهل العلم يناقشون المسألة، وأفتى قلة بعدم شرعيتها، فهوجموا واتهموا من العوام، وانبرى آخرون من أهل العلم لمناقشتها والإفتاء بجوازها، وقد أمالتهم رياح الهوى العام، معتبرين بالموقف ممن سبقهم (لسان حالهم يقول: انج سعد فقد هلك سعيد) وأطالوا الكلام وأكثروا من الشواهد والأدلة، فأضاعوا الحق في متاهات الإطالة، وطول الكلام الذي ينسي آخره أوله .. ومع رغبتي في ألا أتهم النوايا، إلا أنّ ضغط الرأي العام كان له دوره في الفتيا.

الذي أحسب أنّه الحق، وأرجو ذلك، دون إطالة، فخير الكلام ما قل ودل، هو الآتي:

1. إنّ مباشرة قتل المرء نفسه، هو انتحار بغض النظر عن الظروف المرافقة. والقول الذي لا ينتطح فيه عنزان، في حكم الانتحار أنّه حرام بإجماع .. ونقل هذا الحكم من خانة الحرام إلى خانة الحلال يحتاج إلى دليل صحيح صريح..! فأين هو..؟ ولو كان للحكم استثناءات شرعية لصالح جهاد العدو، كما زعم بعضهم، فالرسول عليه السلام أولى بها، وقد بَثَّ في أمته الكثير من أحكام الجهاد وأحواله، وما يجوز فيه وما لا يجوز، ولم نر حالة واحدة وقعت من ذلك، ولا إشارة واحدة إلى حكمها .. وهو الذي ما مات حتى دل أمته على كل خير، مستحضرين القاعدة الأصولية (لا ينبغي للنبي أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة). فأين ذاك الدليل..؟ بل إنّ القرآن أعطى المسلم الذي يقدم روحه من أجل نصرة دينه أعلى مرتبة، في أجمع وصف في الآية التالية: (إِنّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). فهي صفقة بيع وشراء مع الله، وأي صفقة..! ولم تغفل الآية طريقة بلوغ الشهادة، لكي لا يأتينا أهل السياسة اليوم، بكل أطيافهم، ليعلمونا أحكام ديننا، ويفسرون تعاليمه، كما تشتهي أنفسهم. فلندقق في كلام ربنا (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ). فما تقديم (فَيَقْتُلُونَ) على (وَيُقْتَلُونَ) في الآية إلا لبيان أنّ المسلم يقاتل حتى يُنهي العدو حياته بقتله، وليس هو الذي يقتل نفسه (ينتحر)، فالترتيب يحدد أنّ الأولى سبب، والثانية نتيجة.

وما أبعد هذا المعنى عن العمل الانتحاري، لكل ذي بصر وبصيرة، إذا تجرد من الهوى..!

ولا أريد أن أغادر الكلام عن الانتحار، وما أثير حوله من لغط في إقحامه في ما يسمونه اليوم جهاداً، قبل أن أدعو إلى التأمل في الحديث التالي:

عن سَلَمَةَ بن الأكْوَعِ قال: (لمَّا كان يَوْمُ خيبر؛ قاتل أخي قتالاً شديداً، فارتدَّ عليه سيفُهُ فقتله، فقال أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك- وشَكُوا فيه-: رجل مات بسلاحه! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مات جاهداً مجاهداً)). وفي رواية: (كَذَبُوا! مات جاهداً مجاهداً؛ فله أجره مرتين). صحيح أبي داود.

فلننظر كيف كان صحابة رسول الله عليه السلام ورضوان الله عليهم أجمعين، على وجل من قتل النفس في ساحات الجهاد، لما يعرفون من سوء عاقبته، وظنوه بصحابي مثلهم..!

2. عمد كل المبيحين إلى الخلط بين (الانغماس) في معركة، فرص النجاة فيها ضئيلة جداً، وبين (الانتحار)، والفرق واضح جداً، وهو أنّ المنغمس لم يُباشر قتل نفسه، بل قتله العدو. فجعلوا الأمرين سواء، ولم يميزوا بين فعلي (الانغماس)، و(الانتحار)..! ولم يفتِ أحد بحرمة الانغماس..! ولعل هذا الخلط بين الأمرين كان متعمدا، لتعويم الفتيا.

3. الأدلة التي ساقها المبيحون ليست أدلة، ولو ظنها أصحابها كذلك وسأستعرض أهمها:

. قصة البراء في معركة اليمامة، هل قتل نفسه أو قتله أصحابه..؟ كلا، إنّما قذفوه وراء السور ليفتح لهم الباب، ولا ينكر أنّ فرص النجاة ضئيلة، لكنّه (انغماس)، وليس انتحاراً، وقد قُتل من قبل الحراس في معركة معهم بعد أن فتح الباب كما جاء في الرواية .

. قصة الغلام في قصة أصحاب الأخدود، ونسأل من استشهدوا بها، من الذي قتل الغلام؟ والجواب الملك، أما الغلام فلم يباشر قتل نفسه..! فهو أيضا (انغماس) وليس (انتحارا)..! فأين الشاهد.

. الاحتجاج بإفتاء بعض العلماء في القديم بأنّ العدو لو تترس بأسرى المسلمين جاز رمي العدو ولو أفضى ذلك إلى قتل الأسرى المسلمن. فهل في القصة انتحار..؟

يلاحظ فيما سبق إيهام القاريء أنّ حكم (الانغماس) في العدو الذي ليس فيه انتحار بل فيه فرص للنجاة، وإن كانت ضئيلة، وحكم (الانتحار) الذي هو مباشرة لقتل النفس، واحد. ودون اتهام النوايا لكنّي أرى الأمر مقصوداً مع ما يرافقه من لي أعناق النصوص.

. باقي الاستدلالات اجتهادات واستنباطات من أشخاص، ولو كان بعضهم علماء، إلا أنّها لا تقوى على تغيير حكم الانتحار، ونقله من الحرمة إلى الحل..! فصارت فتاوى سياسية عاطفية..!

السؤال الذي يجب أن نسأله: هل ضاقت فنون الحرب كلها، ولا سيما الحرب الحديثة، التي تجعل الصواريخ أداتها، مع تطور أجهزة التفجير عن بعد، بالمسلمين حتى يركبوا الصعب والذلول، ويتجاوزوا حدود الله..؟ أليس الصاروخ الذي يطلق من بعيد، ويُحكم توجيهه، يحدث بالأعداء نكاية أشد مما تحدثه عملية انتحارية..؟ ومهما غلا ثمنه، يبقى أرخص من حياة مسلم، وأرضى لله..!

آن لنا أن نطبق القاعدة، التي أسميتها زماناً (القاعدة الذهبية) وهي (استدل ثم اعتقد) والتي عكسها كثيرون وجعلوها (اعتقد ثم استدل) وما أخطرها..! فالعقل البشري الذي يطغي عليه الهوي يستطيع أن يأتي بفتاوى تبيح الربا والزنا وكل محرم..! وما ضعف المسلمون، وتداعت عليهم الأمم إلا حينما صار للواقع دور كبير في تحرير مسائل الحلال والحرام، وأعانهم على ذلك علماء السوء … والله أعلم