Skip to main content

حُكْمُ صِيَامِ السَّتِّ مِنْ شَوَّال لِمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ مِنْ رَمَضان

By الأحد 5 شوال 1437هـ 10-7-2016ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

مسألة يكثر الكلام فيها كل عام، وتهم كثيراً من المسلمين الذين يريدون تحصيل الخير العظيم الذي أرشدهم إليه نبيهم عليه الصلاة والسلام بقوله: عن أبي أيوب مرفوعاً: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ) رواه مسلم وأبو داود.

وتكثر الفتاوى في أجهزة التواصل الاجتماعي في أواخر رمضان وأيام العيد، وكل له وجهة، وما أكثر الاختلاف في المكتبة الفقهية الإسلامية..! لكن المشكلة لا تقف عند كثرة الاختلاف، بل تتعداها إلى ما هو أخطر، وهو قبول الاختلاف، وتزيينه، والحفاوة به، والدفاع عنه، وعن الدعاة إليه، على أنّه رحمة بالعباد..! ويتطور الاندفاع وراء الاختلاف إلى ظاهرة تسود، وثقافة تتجذر في عقول الناس، ولا تلبث أن تُنافس الحق المتمثل بتحكيم النصوص، وتصرف الهمة عن اتباع الوحيين إلى تقليد الرجال .. كل ذلك صار في واقع معظم المجتمعات الإسلامية، إن لم نقل كلها، عاملاً يُنقص من قدسية نصوص الوحيين، حينما يغلبها في حياة المسلمين الشرعية، العقل البشري بأرضيته وطينيته .. وهل ذلك إلا ردةٌ إلى الوراء، وهيمنةٌ لعقلية الاعتزال من جديد.

خرجنا قليلاً عن الموضوع لكنَّ للحديث شجونا .. ولوضع الأمر في نصابه يجب أن يعود المُفتون بالناس إلى الالتزام الكامل، بل الالتصاق التام بالنص، وأن يَعُوا أنَّ تدَّخُّلَ العقل في ما تأتي به النصوص، مخالفة كبيرة، قد تصل إلى أن تكون إثماً.

والأسطر القادمة لم يُرِدْها مُحرِّرُها رداً على أحد، إنّما هي محاولةُ دلوٍ يدلى به بين الدِّلاء، ويسري عليه كل ما يسري على بني البشر، إلا الأنبياء، من النقص والجهل والوهم. لكنّ القصد من وراء المحاولة؛ تأكيدُ ضرورةِ تحكيمِ النصوص، واتباعِ الهدي النبوي، والنصحِ للمسلمين، بعيدا عن كل رغبةٍ في الجدل … ولو رجع محرر السطور بالأجر الواحد لكان خيرا.

لقد اختلف العلماء في تطبيق حديث صيام الست من شوال، وأفرز الاختلاف بعض آراء أبعدَ أصحابُها النَّجْعَةَ، من ذلك كراهية الأحناف صيام الست من شوال، وكذلك المالكية، وهذا ثابت في كل كتب الفقه .. ولا حاجة إلى الدخول في تفاصيل موقف أهل المذهبين، ومبررات ذلك. فالأصل أن يكون تمحورنا حول النصوص، وهي وحي، ولا نعبأ بمخالفها. ويكفينا ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم لصيام الست من شوال، وجعل صيامها مع رمضان يعدل صوم الدهر، وهل لمسلم أن يقبل كلاماً كائناً من كان قائله، بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟ والله يقول: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) .. كذلك فقد تكلم بعضهم في جواز صيام ستة أيام من أي شهر غير شوال، ولا فرق. ومرة أخرى فلا حاجة للدخول في تفصيل كل ما يخالف بيان رسول الله. وانتشر كلام كثير، عن حكم صيام الست، لمن لم يقض ما عليه من رمضان، وهو موضوعنا. وذهبوا في ذلك مذاهب ثلاثة:

الأول:
لا إشكال في تقديم صوم الست على القضاء، ويكون القضاء بعد ذلك، لأنّ الوقت موسع.

الثاني: عدم جواز صوم الست قبل القضاء مطلقاً. وأصحاب هذا التوجه يصدرون عن أحد أمرين؛ إما أنّهم يرون أنّ تأخير القضاء بتقديم نافلةٍ عليه لا يجوز، أو أنّهم يرون أنّ من أفطر أياما من رمضان، بعذر شرعي، لا يعتبر أنه قد صام رمضان، وبالتالي لا تشمله ألفاظ الحديث: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ…) ما لم يقض ما عليه .. أو للأمرين معاً.

الثالث: صيام الست بجمع نيتين: القضاء، وصيام النافلة.

وقبل أن أدخل في مناقشة المذاهب الثلاثة لاختيار الأرجح عندي، أود بين يدي المناقشة، أن أسجل تساؤلاً واستغراباً، وجدته خلال تعاملي الطويل مع الأبحاث الفقهية، ويصلح أن أجعل ذلك مقدمة ومدخلاً للموضوع:

إنّ بعض العلماء في القديم والحديث، يتحجرون واسعاً في تحريرهم بعض القضايا الفقهية، قصدوا أم لم يقصدوا. ولا يمكن أن يكون دافعهم إلى ذلك إلا توخي الصحة والدقة والسلامة في تطبيق الأحكام. لكنّهم مع انشغالهم بذلك الهدف، يدخلون في تجاوزات لا أراها بسيطة. وتتلخص في مسألتين: الأولى انتهاك أصل عظيم في دين الإسلام فيما يخص التكليف، وهو (البراءة الأصلية)، وأبسط تعريف لها الآتي: (الحكم ببراءة الذمة من التكاليف الشرعية حتى يوجد دليل شرعى يدل على التكليف ويسمى هذا بالبراءة الأصلية). فحينما يكون التدخل العقلي مع ظاهر النص، في حدود تتجاوز ما ينبغي، وتكثر الإيرادات والافتراضات والاحتياطات العقلية، تصل بهم النتيجة إلى إيجابِ ما لا يُوجِبُهُ، ومَنْعِ ما لا يَمْنَعُهُ، ظاهرُ النصوص. وتُفْضي هذه المسألة إلى الأمر الخطير الثاني، وهو أن يصبح  التكليف الشرعي مزيجاً مما جاء عن الشارع الحكيم، وما تَمَخَّضَ عنه اجتهاد العلماء في فهم النص وتقديمه للمكلفين .. والأصل أن لا يكون تكليف إلا من الله ورسوله. وخطورة هذه النتيجة أنّها تُعْنِتُ المكلفين، حين ينالهم شيء من تكليف العقل البشري القاصر، فيُعَسِّر ما يَسَّره الشرع، أو يَتساهل في ما أكَّدَه الشرع .. وإلى التمثيل:

في كل كتب المذاهب، تحديدٌ لمسافة السفر الذي تحل فيه رخص السفر كالقصر مثلا، مع اختلاف بينهم. والاختلاف سببه أنّ المسألة اجتهادية لعدم وجود نص من الكتاب والسنة، فاصلٍ فيها، وكان الأصل أن يصير الحكم فيها إلى البراءة الأصلية، وكان الأولى أن تغيب كل الاجتهادات المخالفة، ويبقى الحكم للبراءة الأصلية، التي تربط أحكام السفر بمسمى السفر الثابت الذي لا يخفي، وليس بوصف السفر المتبدل المتغير. ولنقل الشيء نفسه في تحديد مدة الإقامة، ولم يحددها نص. ولا ننسى توسع الفقهاء الاجتهادي والعقلي في أحكام المسح على الخفاف والنعال والجوارب. والشروط المُعْنِتة التي وُضِعَتْ وليس عليها أثارةٌ من علم. ولا ينقضي عجبي من كلام أنقله من كتب الفقه يعتبر مثالاً صارخاً لما نحن في صدده. هو قولهم في أحكام الصيام: (وإن أسلم الكافر، أو طهرت الحائض، أو برئ المريض، أو قدم المسافر، أو بلغ الصغير، أو عقَل المجنونُ في أثناء النهار، وهم مفطرون، لزمهم الإمساك، والقضاء لذلك اليوم، لأنهم لم يصوموه، ولكن أمسكوا عن مفسدات الصوم لحرمة الوقت…)، فمن الذي ألزمهم..؟ وهل يُكَلِّفُ بَشرٌ بشراً، في دين الإسلام..؟

إنّ النظرة الأولى لهذا الكلام تجعلك تُحِسُّ أنّه ليس بدين، وأنّ مصدره عقل بشري وليس وحياً سماوياً..! أيُعْنَتُ الناسُ ويُضَيَّقُ عليهم باسم الاسلام..؟ ومن أكبر خصائصه اليسر…! ونجد في مباحث المفطرات التي وصلت في بعض كتب المذاهب إلى ما يزيد عن سبعين بنداً عجباً، في حين أنّ المفطرات التي جاءت بها الأدلة لا تتجاوز الخمسة. فيا لله، كم حُرِّمَ حلالٌ، وأُحِلَّ حرامٌ، حين يتطفل العقل البشري على سلطة التكليف، وتُتَجاهَلُ القاعدة العظيمة وهي (البراءة الأصلية) التي يقول عنها بعض العلماء إنها أقوى الأدلة في الدين…!

والخلاصة، لو وقف العلماء، ويقفون في أبحاثهم واجتهاداتهم وفتاواهم حيث تقف بهم النصوص، بل ظواهر النصوص، فيَعْتبِرون ما لم يأت به النص صريحاً، مما سكت عنه الشارع، وهو عفو. ويستحضرون دوما قاعدة: (أن النبي لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة). إذن لَقَلَّ الخلاف في المسائل الشرعية جداً، ولبقي وصف الحنيفية السمحة، يرافق كل تكليف شرعي لأنّه سلم من اعتداء العقل.

وإذا طبقنا كل ما أثبتناه في هذه المقدمة الطويلة على المسألة التي بين أيدينا، نخلص إلى الأتي:

قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)، يُترك النص على ظاهره، ليشمل حكمُه أكبرَ عددٍ من المسلمين، ولا تفوتهم هذه الفرصة الداعية إلى الخير، دون أن نتحجر الواسع، فنحرم الناس من الخير، مع تذكر الاعتبارات الآتية:

كل من صام رمضان، وأفطر أياماً منه، عملاً برخصةٍ، كالسفر والمرض، أو فعلاً لواجبٍ كالفطر بسبب الحيض والنفاس، وكل أولئك سيقضون ذلك، لأمر الله لهم: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، مشمولون بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ..).

يشبه ذلك قول ربنا (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) .. ولنستحضر التفسير القائل إنّ (فَمَنْ شَهِدَ) أي من أدركه رمضان حياً، فهذا صام الشهر وأفطر بعذر شرعي، وهو ناوٍ القضاء، ألا يعتبر شرعياً أنّه قد صام رمضان؟ أوليس اللسان العربي الذي نزل به القرآن يعبر عن الكل بالبعض منه، أو العكس أحيانا..؟ فحينما يأتي الحديث أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جاء العشر الأواخر (أحيا ليله)، فهل نفهم من ذلك أنّه عليه السلام كان في العشر يحيي الليالي من مغرب الشمس إلى طلوع  الفجر؟ لا .. فهذه عائشة رضي الله عنها تقول: (لا أعلم أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة كاملة) .. ويوم طالب الصحابةُ النبيّ عليه الصلاة والسلام بالزيادة في قيام الليل في رمضان أجابهم: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى ينْصَرف حسب لَهُ قيام اللَّيْلَة).

فليس الكمُّ الحَرْفي هو المطلوب في الشرع دائماً، وإنّما قد يكون المقصود الأجر المترتب على فعل ما..! فأداء قيام الليل في رمضان، مع الإمام، ولو استغرق ساعة من الليل، كان له من الأجر عدل قيام الليل كاملاً .. فلِمَ نُضَيِّقُ هذه المفاهيم الشرعية الواسعة بعقولنا وأفهامنا الضيقة، ونلزم بها الناس، ونحن نفتقر إلى الأدلة النصية، وليس الاجتهادية العقلية..! فأين دليل عدم تقديم النافلة على الفريضة إذا اتسع الوقت لهما..؟ وأين دليل أنّ من أفطر أياما من رمضان، بعذر شرعي، لا يعتبر قد صام رمضان كاملاً شرعياً، وأدرك أجر ذلك، ولو قبل أن يُتمَّ القضاء، لاطلاع ربه على نيته..؟ فلِمَ نُقحم عقولنا في شأن الله، ونأبى إلا التفسير بمقتضى العقل البشري، فنتحجر واسعاً، حتى ليكاد يصيبنا معنى قول ربنا: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا).

وهل عندنا نصٌ يُحدد لقضاء رمضان حدَّاً..؟ غير الحض على المسارعة (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وقوله: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) .. وإنّ من العلماء من قال إنّ مدة القضاء العمر. وعائشة رضي الله عنها كانت تقول: (لقد كان يكون علي الصيام من رمضان فما أقضيه حتى يجيء شعبان) متفق عليه. فها هي كانت تؤخر القضاء سنة تقريباً والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد يُقِرُّها .. ويقول الحافظ ابن حجر في خاتمة شرح الحديث في فتح الباري: (وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقا، سواء كان لعذر أو لغير عذر) .. وهل يا ترى لم تكن أم المؤمنين تصوم نفلاً طيلة العام، لأنّ في ذمتها قضاءً..؟ حسب القاعدة التي قررها بعض العلماء..؟ ولو سلمنا بذلك أما كانت لتتدارك قضاء ما عليها، وهي أيام فطر كل أنثى في السنة كي لا تحول بينها وبين صيام النوافل..؟ بل لم يكن هذا حال عائشة وحدها، بل حال أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ففي رواية لمسلم عن عائشة قالت: (إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان).

ونتساءل ثانية: هل كان أمهات المؤمنين يتساهلن في قضاء صوم أيام، لو كان ذلك يمنع من النوافل..؟ وهل كان رسول الله عليه الصلاة والسلام ليُقِرَّهن على ذك، ولم ينقل أبداً أنّ الأمر كانت تفرضه ضرورة .. بقي أن نعيد السؤال من أين جاءنا العلم أنَّ صوم الست لا يجوز قبل القضاء؟ إلا أن يكون ذلك استنتاجات وافتراضات عقلية أُقْحِمَتْ في عبادة المسلمين، ظاهر الحديث الذي جاءنا عن المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، يدحضها كلها..!

ولا بأس أن نضيف إلى ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي ندب أمته لصيام الست، وهو يعلم يقينا أنّ نسبة كبيرة من المسلمين والمسلمات سيخرجون من رمضان، وذممهم مشغولة بقضاءِ أيامٍ لأعذار انتابتهم، وربهم برحمته، يسر عليهم، فشرع لهم الفطر والقضاء، ولو كان في الأمر توجيه فقهي شرعي، لكان النبي، بأبي هو وأمي أولى بالبيان، وما دام سكت، فسكوته دين، وليسكت كل أحد، ولا يقدم بين يدي الله ورسوله وهو يعلم..! وهل تعني القاعدة الأصولية (إن النبي عليه الصلاة والسلام لا ينبغي له تأخير البيان عن وقت الحاجة) إلا هذا الذي استدركناه على علمائنا، والذي كان الأولى ألا يخاض فيه!

والآن نرجع إلى الترجيح بين المذاهب الثلاثة التي ذكرناها في مقدمة بحثنا. فالراجح: بناء على كل ما بُيِّنَ في تضاعيف الكلام، المذهب الأول، وهو: (لا إشكال في تقديم صوم الست على القضاء، ويكون القضاء بعد ذلك، لأنّ الوقت موسع)، وهو الصواب لأنّه عمل بظاهر الحديث، ووقوف حيث يوقفنا النص، وبعيد عن إقحام الاجتهادات والإضافات العقلية، مع مورد النص .. ففي ذلك الوحدة والخير والاتباع، وناهيكم بذلك.

وغنيٌ عن البيان، أنّ المذهب الثاني، ليس وارداً، بناء على ما توسعنا به من الأدلة.

أما المذهب الثالث، وهو جمع صيام الست والقضاءِ معاً، وهو ما يسميه بعض العلماء بالتشريك في النية، فهو خلاف الأصل، ولا يعين على العمل به دليل معتبر، وإن قال به بعض العلماء. وأكثرهم على عدم الجواز. وبخاصة حينما تكون كل عبادة مستقلة ومقصودة لذاتها، ولها أجر مستقل. ولو كان التشريك جائزا لِمَ لا يجمع إنسان قضاء الصوم مع صوم الأداء، أو يدمج راتبة الصلاة، أي صلاة، مع أداء فريضتها..؟ أو يجمع غسل الجمعة مع غسل الجنابة وهكذا .. وما اعتاده الناس من جمع سنة الوضوء، وراتبة الصلاة، وتحية المسجد بركعتين مع تعدد النيات المذكورة فهو أقرب إلى أن يكون من فعل العوام، وإن أفتى به من لا علم عنده.

ولما كان القضاء عبادة واجبة مقصودة لذاتها، ولها أجر مستقل. وصوم الست عبادة مقصودة لذاتها ولها أجر مستقل، وهي نافلة فلا يجوز جمع العبادتين بنية مشتركة .. وقد يورد بعض القراء على هذا ما جاء عن الشيخ الألباني رحمه الله في بعض أشرطته وما كتب، فصحيح ولكن ليس على الطريقة التي يفهمها أكثر الناس، وعلى رأي من أجاز جمع صوم الست والقضاء. ولا بد من توضيح. فمن أجازوا ذلك، يرون أنّ من صام الست بالنيتين المذكورتين، قضى دينه، وحصل أجر صيام الدهر الذي جاء في الحديث، وبُيِّنَ، قبل قليل، عدم قيام دليل صالح لمثل هذا الاستدلال .. أما ما يقوله الشيخ الألباني فمختلف، وهو أنّ من صام بنية القضاء قُبل منه وحصل على أقل الأجر وهو عشر أمثال، ولو نوى مع ذلك صوم الست، لكنّه لم يفعل، ربح بنيته أجراً واحداً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) .. فيكون قد خرج بعشر حسنات أجر القضاء، مضافاً إليه حسنة واحدة لنيته صوم الست دون أن يفعل، والمجموع أحد عشر حسنة، وليس أجر العملين كاملاً … وإلى باقي الكلام عن صيام الأيام الست من شوال بعد رمضان.

سؤال يورده كثيرون: هل تصام الست متتالية أم متفرقة؟

والجواب كلا الأمرين جائز لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. كذلك يكثر السؤال هل يصام يوم السبت من جملة الأيام الستة؟ والجواب: لا، لقوله عليه السلام (لا تصوموا السبت إلا فيما افترض عليكم…)، وصيام الست نافلة فلا يجوز صوم السبت فيه .. أما يوم الجمعة فيجوز صومه في الست، شريطة عدم إفراده.

أقول: لقد استوفينا في ما مضى، ولله الحمد والمنة، الكلام في هذه المسألة التي طال الكلام فيها، كما رأيتم .. ولأنّ أكثر المتكلمين في هذه المسألة اليوم، يعولون على فتيا الشيخ العثيمين رحمه الله، وكذلك بعض أقوال للشيخ الألباني، ولا أريد مغادرة البحث قبل كلمات أقولها: شيخانا الألباني والعثيمين رحمهما الله، لا شك أنّهما جبلان في العلم، ومنهما تعلمنا، تطبيق مقولة الإمام مالك: (كل يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر) .. والعلماء يختلفون في اجتهاداتهم، وقد سبقا إلى ذلك من بعض أهل العلم، وقد خالفهما بعضهم أيضا في هذه القضية .. ونرجع إلى ما أكدناه في تضاعيف الكلام السابق، أنّ الأصل أن نأخذ النص النبوي على ظاهره: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ) .. بضميمة القاعدة الأصولية: (إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة). ونرى أنّ المسألة حسب العرض النبوي، الذي لا يغيب منه ما يكون لازماً للناس بيانه، أوسع بكثير من أن تُحصَر وتُضَيَّق في اجتهادات وتأملات واستنتاجات عقلية، هديُ محمدٍ خيرٌ منها، وأقوم قيلا … والحمد لله رب العالمين