Skip to main content

سَفَرُ المَرْأَةِ

By الثلاثاء 26 صفر 1437هـ 8-12-2015ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

تيسر، بفضل الله، أمر السفر، حتى صار عند البعض كالنزهة بل هو النزهة، وكثرت حاجات الناس ومتطلباتهم فتجاوزت حدود بلدانهم إلى بلاد أخرى، لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس، وقوي سلطان الهوى على الناس، فصاروا يلتمسون الرخص ولو في الأقوال الشاذة والضعيفة، وانتشرت الفتاوى مع انتشار الفضائيات، وصارت تصدر عمن يُحسنها ومَن لا يحسنها، فتشابه الأمر، وكثر الخلاف والاختلاف، حتى ليُخيل إلى بعض الناس، بسطحية، أنّ الحق قد ضاع، وأنّ البحث عنه من المستحيل .. فأين المخرج؟

المخرج في استيعاب أصول ثلاثة:

أولها: حينما تتعدد الأقوال في المسألة الواحدة، وتكثر الفتاوى حولها، ويُقال إنّ المسألة خلافية..! فإنّ ذلك لا يعني أبداً صحة كل الأقوال، وصواب كل الفتاوي، وبعبارة أخرى لا يعني أنّ الخيار واسع والاختلاف رحمة، وأنّ العمل بكل تلك الأقوال مبرء للذمة عند الله … وإنّما نُحكِّم في ذلك مقولة الإمام مالك رحمه الله: (سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتراه من ذلك في سعة؟ فقال: لا والله! حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً؟! ما الحق والصواب إلا واحد). فكيف باختلاف من بعد الصحابة…؟

ثانيها: إنّ الحق الذي هو أحكام الإ سلام لا يمكن أن يُضيع أو يغيب أو يختلط ما دام الوحيان (القرآن والسنة) بين أيدي المسلمين، والله قد تكفل بحفظهما، وهما المرجع.

ثالثها: لا يجوز أنْ يعلو على الوحيين صوت، ولا يقدم بين يديهما رأي، ولا يطاع في مخالفتهما أحد.

والسؤال الذي نريد أنْ نُحرر القول فيه: هل تسافر المرأة بلا محرم؟

لنستعرض أولاً النصوص في ذلك:

1. عن ابن عباس: (‏أنّه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يخطب يقول: (لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَلاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ). فقال رجل: يا رسول اللّه إن إمرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت غزوة كذا وكذا؟ قال: (انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ)).

2. وعن ابن عمر قال: ‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثًا إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ).

3. وعن أبي سعيد ‏أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ).

وفي لفظ قال: (لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا إِلاَّ وَمَعَهَا أَبُوهَا أَوِ ابْنُهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ أَخُوهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا). رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي‏.‏

4. وعن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:‏ (‏لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ عَلَيْهَا‏).
متفق عليه‏

وفي رواية: (مسيرة يوم)‏‏.‏ وفي رواية: (‏مسيرة ليلة‏)‏‏.‏ وفي رواية: (‏لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم‏).
رواهن أحمد ومسلم‏.‏ وفي رواية لأبي داود: (‏بريدا‏).

فما موقفنا من اختلاف الروايات في تحديد المدة أو المسافة، وبأيها نأخذ ؟

جاء في نيل الأوطار للشوكاني ما نصه:

(قال في الفتح: وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقديرات‏.‏ قال النووي: ليس المراد من التحديد ظاهره بل كل ما يسمى سفرا فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم وإنما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه‏.‏ وقال ابن التين: وقع الاختلاف في مواطن بحسب السائلين).

يزيد الفكرة الأخيرة وضوحاً قول البيهقي: (كأنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم فقال لا. وسئل عن سفرها يومين بغير محرم فقال لا. وسئل عن سفرها يوماً فقال لا. وكذلك البريد. فأدى كل منهم ما سمعه…).

ويضيف: (فروى تارة هذا وتارة هذا وكله صحيح، وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفراً، فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً أو غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة (لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم) وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً والله أعلم).

الحاصل أنّ النصوص النبوية الصحيحة السابقة تُحرم سفر المرأة بلا محرم في كل ما يصدق فيه مسمى السفر.

ونسأل، ما الذي جعل بعض العلماء في القديم والحديث يتساهلون في هذا الحكم الشرعي الخطير، وينزلونه عن التحريم إلى ما دون ذلك..؟

لقد أوردوا على النصوص السابقة حديثين:

الأول: عن عدي بن حاتم قال: (بَيْنَا أَنَا عِنْد النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ثُمَّ أَتَاهُ الْآخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ. فَقَالَ: (يَا عدي هَل رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ فَلَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَلَئِنْ طَالَتْ بك حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ فَلَا يجد أحدا يقبله مِنْهُ)). رواه البخاري

لقد رأوا في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة تسافر وحدها، ولا تخشى على نفسها، دليلاً على جواز ذلك. والجواب من وجوه:

1. إنٍّنا متعبدون بالأمر الشرعي وليس بالأمر الكوني، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن شيء سيكون، دون إشارة إلى حله أو حرمته، ويبقى الحكم للنص الشرعي. ولذلك نظائر. مثال ذلك:

قول الله عز وجل (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)
وهو أمر كوني، فهل ندع كل النصوص التي تحرم الاختلاف وتنهى عنه (وهي أوامر شرعية)، ونقول إنّ الله أباحه في الآية المذكورة..؟

ومثل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في مسلم: (أَرْبَعٌ فِى أُمَّتِى مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِى الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِى الأَنْسَابِ وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ).

فالنبي يُخبر عن محرمات أربعة لا يتركها الناس، فهل يفهم من إخباره عنها جوازها؟ جاء في النيل:

(وقد احتج أيضا من لم يعتبر المحرم في سفر الحج بما في البخاري من حديث عدي بن حاتم مرفوعا بلفظ: (يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت …{الحديث السابق}) وتعقب: بأنّه يدل على وجود ذلك لا على جوازه وأجيب عن هذا بأنّه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام فيحمل على الجواز والأولى على ما قال المتعقب جمعا بينه وبين أحاديث الباب).

ويقول ابن حجر رحمه الله في الفتح نقلا عن النووي رحمه الله: (ليس في كل شيء أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه سيقع يكون محرما ولا جائزا).

2. إنّ ما نستنبطه من حديث عدي من حكم الإباحة (مفهوم) والحكم المأخوذ من الأحاديث المذكورة (منطوق). والقاعدة الأصولية تقول: (إذا تعارض منطوق ومفهوم قدم المنطوق).

3. تقول القاعدة الأصولية: (إذا تعارض حاظر ومبيح يقدم الحاظر) فلا بد من تطبيقها هنا.

الثاني: (أَذِنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ). للبخاري وغيره

والحجة في إيراده أنّ أمهات المؤمنين لم يكن لديهن محارم، ومع ذلك أذن لهن الخليفة ووافقنه ووافقه بعض الصحابة.

والرد من وجوه:

1. إنّ الصحابة وعلى رأسهم عمر تعاملوا مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على أنّهن أمهات المؤمنين، باجتهاد منهم، وعمر رضي الله عنه كان متردداً في اجتهاده مما يدل أنّ المسألة لم تكن عنده وعند من وافقه من الصحابة، من المسلم بصحتها.

جاء في الفتح: (وكأنّ عمر رضي الله عنه كان متوقفا في ذلك ثم ظهر له الجواز فأذن لهن، وتبعه على ذلك من ذكر من الصحابة ومن في عصره من غير نكير). وجاء عن عائشة رضي الله عنها كما في الفتح: (منعنا عمر الحج والعمرة، حتى إذا كان آخر عام فأذن لنا).

ولقد كن في حماية ورعاية ولي الأمر. جاء في الفتح: (وكان عثمان ينادي ألا لا يدنو أحد منهن ولا ينظر إليهن، وهن في الهوادج على الإبل، فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشعب فلم يصعد إليهن أحد، ونزل عبد الرحمن وعثمان بذنب الشعب). وفي رواية لابن سعد: (فكان عثمان يسير أمامهن وعبد الرحمن خلفهن). وفي رواية له: (وعلى هوادجهن الطيالسة الخضر).

وتبقى المسألة حالة خاصة بأمهات المؤمنين، رضوان الله عليهن، استدعت اجتهاد كبراء الصحابة وعلى رأسهم عمر، من أجل تلبية رغبة أمهات المؤمنين في حج بيت الله .. فهل من الدين والعقل أنْ نجعلها حكماً لكل النساء، وفي كل سفر .. وندع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه..؟

2. إنّ اجتهاد عمر رضي الله عنه وموافقة بعض الصحابة له، وفيهم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة المتفق عليها، الباقية تشريعاً للأمة، والتي يتعبدنا الله بها.

ولا بُد من التنبيه إلى نقطة هامة في البحث، وبخاصة لأولئك الذين يغترون بخلاف العلماء في القديم حول جواز سفر المرأة بغير محرم، ويتذرعون به اليوم لتغطية مخالفاتهم الشرعية، نقول: إنّ خلاف العلماء كان منحصراً في مسألة سفر المرأة لحج الفريضة، إنْ لم يكن لها محرم .. لا لسفر السياحة والنزهة وتحصيل أمر دنيوي..!

ولنضرب مثلاً بابن تيمية الذي نقل عنه جواز سفر المرأة لحجة الإسلام دون محرم، بأدلة ليس هذا موضع سردها. فقد ثبت عنه قوله في شرح العمدة: (فهذه نصوص من النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم سفر المرأة بغير محرم ولم يخصص سفرا من سفر مع أن سفر الحج من أشهرها وأكثرها فلا يجوز أن يغفله ويهمله ويستثنيه بالنية من غير لفظ بل قد فهم الصحابة منه دخول سفر الحج في ذلك لما سأله ذلك الرجل عن سفر الحج وأقرهم على ذلك وإلى كون المحرم شرطا في الحج (إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا كذا قال فانطلق فحج مع امرأتك)).

تلك هي أحكام الله، ومن أحسن من الله حكماً. لا يغيرها اجتهاد مجتهد كائن من كان، ولا يبدلها تحول الزمان والمكان، هي الحكم على الواقع وأهله، وليست تبعاً لانحرافه وفشله، هي حدود الله فاعرفوها، وقفوا عندها ولا تعتدوها. ولتتق الله مسلمة في نفسها، وليتق الله مسلم في أهله. وليُعلم أنّه لا يحمل التبعة، عند الله أحد عن أحد، يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) … والحمد لله أولا وآخرا