Skip to main content

الإِسْبَالُ

By الأربعاء 14 ذو القعدة 1437هـ 17-8-2016ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

تعريف: (الإسبال في أبسط تعريف له، هو المبالغة في إطالة الثوب حتى يتجاوز حدا يُحدده العرف أو الشرع).

وقد يرتبط الإسبال عند قوم، من أهل الأرض بمعنى، يصطلح عليه الناس، ويكون حسناً أو غير حسن، ويصبح من العرف. وقد ارتبط الإسبال (في الثوب والإزار وغيرهما) عند العرب في جاهليتهم بالكبر والخيلاء، وكان ينتشر عند الأغنياء والكبراء. ومن طرائف قصص إسبال الإزار التي توضح المقصود، وتطعم الموضوع بشيء من الأدب، قصة الملك جبلة بن الأيهم، من الغساسنة النصارى. وقد أسلم ثم ارتد بعد ما هشَّم أنف أعرابي داس على إزاره المسبل، خطأً أثناء الطواف حول الكعبة، وأراد عمر رضي الله عنه الاقتصاص للأعرابي منه، فارتد. وقد كتب أحد الشعراء السوريين المعاصرين مسرحية شعرية، سماها (الإزار الجريح) تصور تلك القصة، ومن المشاهد القوية فيها الآتي:

(قول عمر لجبلة: يا ابن أيهم جاءني هذا الصباح بدوي من فزارة بدماء تتظلم.. بجراح تتكلم .. مقلة غارت .. وأنف قد تهشم.. فسألناه فألقى فادح الوزر عليك.. أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟

قال جبلة بن الأيهم: لست من ينكر أو يكتم شيئا .. أنا أدبت الفتى .. أدركت حقي بيدي.

يُجيبه عمر: أي حق يا ابن أيهم؟!! .. عند غيري يقهر المستضعف العافي ويظلم .. عند غيري جبهة بالإثم بالباطل تلطم .. نزوات الجاهلية ورياح العنجهية؟!! قد دفناها أقمنا فوقها صرحاً جديدا .. وتساوى الناس أحراراً وعبيدا

أرضِ الفتى لا بد من إرضائه .. ما زال ظفرك عالقاً بدمائه .. أو يهشمن الآن أنفك .. وتنال ما فعلته كفك .

سمع جبلة هذا الكلام وقد أخذ فقال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين كيف ذاك؟؟!!

وهو سوقة _أي من عامة الناس_ وأنا عرش وتاج ؟!!…

كيف ترضى أن يخر النجم أرضا؟!! .. كان وهماً ما مشى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز .. أنا مرتد إذا أكرهتني .

يقول عمر: عنق المرتد بالسيف تحز .. عالم نبنيه، كل صدع فيه، بشبا السيف يداوى .. وأعز الناس بالصعلوك بالعبد تساوى).Top of Form

ولا زلنا نرى اليوم في دول الخليج، رواسب تلك العادة الجاهلية، لم يطوها الزمن، وبشكل يكاد يكون ظاهرة ملفتة. وتكثر في أوساط الكبراء والأغنياء ورقيقي الدين إلا من رحم الله، وبالمعنى الجاهلي نفسه. بل كان سائداً عند العرب نوع آخر من الإسبال، ولكن ليس في الثياب أو الأُزر، إنّما في العمامة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ مِنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وإسبال العمامة يكون بإطالة (عذبتها).

ولما كان الإسبال قد ارتبط عند العرب بمعاني الكبر والخيلاء، فإنّ الإسلام أبطل تلك العادة والعرف، وهذبها لتتناسب مع تعاليم الإسلام، التي تغير كل مرذول، وتوعد مخالفيها.

وللإسبال مظهران:
مظهر يُمارَسُ فيه مع الإسبال، خُلق الكبرياء والخيلاء، وتنعقد نية الفاعل على ذلك. ومظهر أخف من سابقه، لا يستطيع التحرر من تلك العادة الذميمة، وتغلبه نفسه عليها، ولا يريد، ولا يظهر منه خلق الكبر. وقد حرّم الإسلام ذينك المظهرين ورتب على كل عقوبة مناسبة.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا).

وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

وفي البخاري من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلاَءِ خُسِفَ بِهِ، فَهْوَ يَتَجَلْجَلُ فِى الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).

وأي عقوبة أعظم من أن لا ينظر الله إلى عبد يوم القيامة..؟ ولعلنا لا ندرك عظم الجرم إلا بضميمة الحديث التالي: قال الله عز وجل: (الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ).

وتأتي طائفة أخرى من أحاديثه عليه الصلاة والسلام، تحدد المظهر الشرعي المخالف للإسبال، وتحدد عقوبة أخف لمن تجاوزه. ولنقرأ الأحاديث:

عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِى النَّارِ). وهذا خاص بالرجال.

ومن حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ). قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وقد حدد النبي عليه السلام في الحديث الآتي بمَ يكون الإسبال .. فقد جاء في أبي داود والنسائي وابن ماجة عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ مِنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (أَخَذ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بِعَضَلَةِ سَاقِي أَوْ سَاقِهِ فَقَالَ: (هَذَا مَوْضِعُ الْإِزَارِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَأَسْفَلَ فَإِنْ أَبَيْتَ فَلَا حَقَّ لِلْإِزَارِ فِي الْكَعْبَيْنِ)).

ويتضح من تأمل الأحاديث السابقة أنّ المنهي عنه في الأحاديث السابقة إما أن يجتمع فيه نية الكبر والخيلاء مع الفعل المعبر عنها وهو الإسبال، ولذلك كان الوعيد فيه شديدا: (لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وإما أن يكون المنهي عنه فعل الإسبال، ومجاوزة المأذون به شرعا، دون وجود أي نزعة للكبر والخيلاء عند الفاعل، ومع ذلك فقد تحددت لتلك الممارسة عقوبة، لكنّها أخف من سابقتها: (مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِى النَّارِ).

ومع هذا الوضوح في الأحاديث في التفريق بين ظاهرتين في المخالفة، وتوعد المخالفين بعقوبتين مختلفتين في شدتهما، لا زلنا نرى في الناس من يُسبل ويدافع عن مخالفته بأنّ فعله لا تخالطه نية الكبر، مُتجاهلاً أو جاهلاً لتلك الأحاديث الصريحة.

وقد يحتج بعض المسلمين بما ورد من أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَ شِقَّىْ إِزَارِى يَسْتَرْخِى، إِلاَّ أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ. فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاَءَ)). ومما يبطل الاحتجاج بقصة أبي بكر رضي الله عنه، أنّ النبي طمأنه بأنّ الوعيد لا يناله بعد أن بين أبو بكر عذره (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَ شِقَّىْ إِزَارِى يَسْتَرْخِى، إِلاَّ أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ)، فقد كان استرخاء الإزار منه دون قصدٍ، مع حرصه ألا يكون، وهذا شأن كل إزار.

وقريب من ذلك الحديث التالي: عن عبد الله بن عمر قال: (مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِى إِزَارِى اسْتِرْخَاءٌ فَقَالَ: (يَا عَبْدَ اللَّهِ ارْفَعْ إِزَارَكَ). فَرَفَعْتُهُ ثُمَّ قَال:َ (زِدْ). فَزِدْتُ فَمَا زِلْتُ أَتَحَرَّاهَا بَعْدُ. فَقَالَ: بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: (أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ)).

ولا يُسقط هذا الحكم، حكم النهي عن الإسبال، أية علة يتعلل بها الإنسان كستر عيب أو مجاراة عادة. لحديث شريد قال: (أبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يجر إزاره فأسرع إليه أو هرول فقال: (ارفع إزارك واتق الله) قال: إني احنف تصطك ركبتاي فقال: (إرفع إزارك فإن كل خلق الله عز وجل حسن)). وفي رواية: (قال عمرو: فقلت: يا رسول الله! إنّي رجل حمش الساقين. فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عمرو! إنّ الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه)).

وإن تعجبْ فعجبٌ رؤيةُ بعض الشباب الملتزمين يبالغ في قصر ثوبه حتى ليكاد يقترب من الركبة أو أرخى قليلا، ويكون في بلاد يتتبع الأمن فيها الشباب حسب أطوال أثوابهم. أفلم يفهم أولئك عن نبيهم الحريص عليهم، بأبي هو وأمي، تلك السعة والمرونة التي منحهم إياها بشأن طول الثوب، للمناورة في ذلك حسب ما يقتضيه الواقع والسلامة من المتربصين بأهل الخير..! (إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ). فما بين نصف الساق إلى الكعب مسافة لا تقل عن عشرين سنتيمترا في الرجل المتوسط، أجاز النبي عليه السلام أن يكون طول ثوب المؤمن ضمنها .. فَلِم يُلزمون أنفسهم بذاك الحد الحرج..؟ ما أرى ذلك إلا خطوة على طريق الغلو، فلْيُتَنَبَّه..!

وكل الأحاديث المتقدمة في موضوع الإسبال خاصة بالرجال دون النساء .. فعن أم سلمة: (قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذَكَرَ الْإِزَارَ: الْمَرْأَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (تُرْخِي شِبْرًا) فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ عَنْهَا قَالَ: (فَذِرَاعًا لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ)). وفي رواية لابن عمر قالت إذاً تنكشف. قال: (فذراعا لا يزدن عليه).

يبقى في الموضوع أمر يكثر السؤال عنه: ما حكم الإسبال في البنطال؟

أقول: أما البنطال فلباس جديد أخذه المسلمون عن غيرهم، ولا نعلم أنّ قوما ممن اخترعوه ويلبسونه يربطونه بكبر أو أي معنى آخر بحسب طوله وقصره، فهو إن صح التعبير (حيادي). وهو عند المسلمين لا يحمل أي معنى. والرسول عليه السلام قال: (الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ مِنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). فلمَ ندخل في ذلك البنطال؟ سيقول البعض قياسا، وأقول لا مانع من القياس إن اتحدت العلة فنقول يحرم الإسبال في كل لباس ارتبط عند الناس بالكبر، أما ما دامت صفة الكبر غير ملازمة للبنطال إطلاقا، فالأصل فيه الإباحة والله أعلم.

وأضيف أنّ لبس السراويلات كان معروفا زمن النبي عليه السلام وتلبس تحت الملابس وهي أقرب ما تكون إلى البنطال ولم يذكرها النبي عليه السلام في الحديث. ومن الخطأ الكبير أن نعتقد أنّ كل ما يستر الكعبين عند الرجال هو من الإسبال المحرم، فهذه الجوارب لم تذكر في الإسبال، وهي تغطي الكعبين وما فوقهما وما تحتهما..! لماذا؟ لأنّها لم ترتبط في عادات الناس بمعنى الكبر.

وأضيف أيضاً أنّ النبي عليه السلام ألحق العمامة بما يكون به الإسبال، مع أنّ العمامة لا تصل الكعبين أبدا. وإنّ الإسبال فيها إطالة عذبتها (وهي نهاية كالذيل تسبل على الظهر بين الكتفين)، وإطالة العذبة عن المعتاد كان يرتبط بالكبر، فاعتبر إسبالاً.

هذا والله أعلم ورد العلم إليه أسلم .. والحمد لله رب العالمين