Skip to main content

الأَضْحَى، والأُضْحِيَة، والتَّضْحِيَة

By الجمعة 6 ذو الحجة 1439هـ 17-8-2018ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

أيام مباركة نعيشها، مع إهلال شهر ذي الحجة، مفعمة بمعان كلها ترجع في اشتقاقها إلى مادة (ضحو) .. فلا بد إذن من بداية لغوية مع المعاجم.

فالأضحى، في قواميس اللغة؛ هو يوم عيد النحر. وسمي كذلك لأنّ الأضاحي تنحر فيه، وهو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، وهو يوم العيد ويسمى يوم النحر. وفي دين الإسلام ثلاثة أعياد عيد الفطر والأضحى والجمعة عيد الأسبوع .. عَنْ أَنَسٍ قَالَ: (قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: (مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟) قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ)). وفي رواية: (كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى).

ومن الخطأ الشائع عند كثير من الناس أنّ عيد الفطر ثلاثة أيام، والأضحى أربع. والصحيح أنّ العيد يوم واحد، يؤكد ذلك الحديث السابق: (وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى).

وأما الأيام الثلاثة التي تلي يوم الأضحى أو النحر وهو يوم العيد تسمى أيام التشريق، وسميت كذلك لأنّ الناس كان يشرقون اللحوم، أي ينشرونها في الشمس، لتجفيفها حتى لا تفسد، إذا حملوها معهم في سفر عودتهم من الحج. وجاء في الحديث: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أكل وَشرب وَذكر الله) .. ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامها، كما جاء في البخاري عن ابن عمر وعائشة: (لَمْ يُرَخَّصْ فِى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْىَ).

وأول أيام التشريق هو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، ويسمى يوم القَرِّ (بفتح القاف وتشديد الراء)، وسمي كذلك لأنّ الناس يقرون أي يستقرون فيه بمنى، بعد أن فرغوا من طواف الإفاضة والنحر واستراحوا. وقد جاء في الحديث الصحيح (إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ).

والمتأمل يجد أنّ أعياد المسلمين ترتبط ارتباطا وثيقا بالعبادة، بخلاف غير المسلمين، الذين ترتبط أعيادهم باللهو والمجون، والاختلاط الآثم بين الجنسين .. ولذلك نرى أنّ أول عمل يبدأ به المسلمون في يومي الفطر والأضحى أداء صلاة العيد، وقد أوجبها النبي صلى الله عليه وسلم حتى على النساء، ففي الحديث الصحيح: (وجب الخروج على كل ذات نطاق في العيدين) .. وكذلك نرى أنّه شُرع ليوم الجمعة، وهو عيد الأسبوع، صلاة خاصة تؤدى وقت الظهر، ولها خطبة بين يديها.


ولتكن وقفتنا الثاني مع (الأضحية) فماهي الأضحية وما مغزى مشروعيتها؟

في لسان العرب: (وضَحَّى بالشاةِ: ذَبَحها ضُحى النَّحْر، هَذَا هُوَ الأَصل، وضَحَّى بشاةٍ مِنَ الأُضْحِيةِ وَهِيَ شاةٌ تُذْبَحُ يومَ الأَضْحى. والضَّحِيَّة: مَا ضَحَّيْت بِهِ، وَهِيَ الأَضْحاةُ، وَجَمْعُهَا أَضْحًى يذكَّر ويؤَنَّث، فَمَنْ ذكَّر ذهَبَ إِلى اليومِ؛

أَلا لَيْتَ شِعْري هلْ تَعودَنَّ بعدَها … عَلَى النَّاسِ أَضْحَى تجْمَعُ الناسَ، أَو فِطْرُ

قَالَ يَعْقُوبُ: يُسَمَّى اليومُ أَضْحىً بِجَمْعِ الأَضْحَاةِ الَّتِي هِيَ الشَّاةُ، والإِضْحِيَّة والأُضْحِيَّة كالضَّحِيَّة. ابْنُ الأَعرابي: الضَّحِيَّة الشاةُ الَّتِي تُذْبَحُ ضَحْوَةً مِثْلُ غَدِيَّةٍ وعَشِيَّة، وَفِي الضَّحِيَّة أَربعُ لغاتٍ: أُضْحِيَّةٌ وإِضْحِيَّةٌ وَالْجَمْعُ أَضَاحيُّ، وضَحِيَّةٌ عَلَى فَعِيلة، وَالْجَمْعُ ضَحايا، وأَضْحَاةٌ، وَالْجَمْعُ أَضْحىً كَمَا يُقَالُ أَرْطاةٌ وأَرْطىً، وَبِهَا سُمِّيَ يومُ الأَضْحى. وَفِي الْحَدِيثِ: أنبأنا مخنف بن سليم قال: بينا نحن وقوف مع النبي، صلى الله عليه وسلم، بعرفة فقال: (يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحاة)).

وأكثر العلماء على أن الأضحية سنة، وبعضهم يقول: إنّها واجبة مع القدرة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا). والحديث السابق ذكره: (يا أيها الناس إنّ على أهل كل بيت في كل عام أضحاة…) وهو الراجح.

ومما يلقي ضوءا كثيرا على مشروعية الأضحية، ودورها في حياة المسلمين، أن نتعرف بإيجاز على سبب فرضية الأضحية .. ولنتدبر الآيات التالية: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

ولاستيعاب المطلوب من هذه القصة، يحسن قراءة تفسير هذه الآيات للشيخ السعدي رحمه الله. يقول في تفسيره: ({فَلَمَّا بَلَغَ} الغلام {مَعَهُ السَّعْيَ} أي: أدرك أن يسعى معه، وبلغ سنا يكون في الغالب، أحب ما يكون لوالديه، قد ذهبت مشقته، وأقبلت منفعته، فقال له إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} أي: قد رأيت في النوم والرؤيا، أنّ الله يأمرني بذبحك، ورؤيا الأنبياء وحي {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} فإنّ أمر الله تعالى، لا بد من تنفيذه، {قَالَ} إسماعيل صابرا محتسبا، مرضيا لربه، وبارا بوالده: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي: امضِ لما أمرك الله {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أخبر أباه أنّه موطن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى، لأنّه لا يكون شيء بدون مشيئة الله تعالى. {فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي: إبراهيم وابنه إسماعيل، جازما بقتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالا لأمر ربه، وخوفا من عقابه، والابن قد وطَّن نفسه على الصبر، وهانت عليه في طاعة ربه، ورضا والده، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي: تل إبراهيم إسماعيل على جبينه، ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه، لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه. {وَنَادَيْنَاهُ} في تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ} أي: قد فعلت ما أمرت به، فإنك وطَّنت نفسك على ذلك، وفعلت كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في عبادتنا، المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم.

{إِنَّ هَذَا} الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلام {لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي: الواضح، الذي تبين به صفاء إبراهيم، وكمال محبته لربه وخلته، فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه الله لإبراهيم، أحبه حبا شديدا، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، أراد تعالى أن يصفي وُدَّه ويختبر خلته، فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه، فلما قدّم حب الله، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم، بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي: صار بدله ذبح من الغنم عظيم، ذبحه إبراهيم، فكان عظيما من جهة أنه كان فداء لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قربانا وسنة إلى يوم القيامة). ورحم الله الشيخ السعدي فقد وفى القصة حقها من البيان.

ومن أجل إسقاط هذه القصة على واقع الناس، أريد أن أجعل منطلقي الآية (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ). يشهد ربنا أنّ هذا الامتحان الذي شاء، تقدست أسماؤه، أن يُخضِع له أبا الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، امتحانٌ يجمع بين شدته على نفس المُمْتَحَنِ، ودلالة نتيجته على صدقه وولائه وإيمانه، وبعد تجاوز ذلك الامتحان الفريد في نوعه مع البشر! وهل هناك أشد من أن يبتلى بَشَرٌ بذبح فلذة كبده بيده، في سِنٍ أحسنُ ما يكون فيها الولد، في نظر والديه ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) ؟!

ولننظر بعد هذا التفكر، كم كان ربنا رحيما بنا، نحن بني البشر، حين خفف لنا هذا الابتلاء والامتحان، الذي تعرض له أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام..! أجل كان الفارق كبيراً جداً جداً، بين امتحانه وامتحاننا، إنّه أُمِرَ أن يقدم فلذة كبده قربانا لله، بعد أن يذبحه بيده، دون أن ترتعش لتردد صاحبها، وهول ما يقدم عليه .. وبين أيدي الكثيرين، يوم ترتعش لتردد أصحابها حين تمتد إلى جيوبهم لإخراج ثمن أضحيةٍ تُذبح طاعة لله. وبرغم البون الشاسع بين شدة وصعوبة الامتحانين، فقد تجاوزه نبي الله إبراهيم عليه السلام، وشهد له ربه أنّه قد أحسن: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، ويخفق الكثيرون من بني البشر!

ابتلاءٌ تُختبر فيه النفس البشرية في فطرتها وحنوها ورحمتها وعواطفها تجاه الولد، وهو ما جبل عليه الخلق حتى من عالم الحيوان، وينجح ذاك النوع من الابتلاء الفريد والوحيد، وابتلاءٌ تُبتلى فيه جيوب الناس، ويخفق أكثر الممتحنين فيه. لأنّه في الحقيقية، امتحان للناس في صدق ما عاهدوا الله عليه، مع التباين في شدة الابتلاء.

ولعل مغزى القصة أصبح واضحا. والذي أنصح به نفسي وكل المسلمين، أنّ وراء تكليفنا بنسك الأضحية، والذي شُغلنا فيه ببحث نوع الذبيحة وسنها وعيوبها، وماذا ينبغي أن يفعله من نوى الأضحية إذا دخل شهر ذي الحجة. وكل ذلك حق لا أماري فيه، ولا أقبل الاختلاف فيه لصحة النصوص وصراحتها، وما علينا إلا العمل بظواهرها، ويكفينا هذه المحاولات، التي تؤذينا كل يوم، للتفلت من منطوق النصوص، وتحويلها عن طريق لَيِّ أعناق النصوص إلى مفهومات تفرزها الأهواء، أوصلتنا، وأعتذر جدا، إلى حالة من الإنفلات..!

أرجع لأقول، بعد استطراد طال قليلا، إنّ وراء تكليفنا بالأضحية غاية تبينها الآية الكريمة (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)، فلا يَطْغَيَنَّ الحدث، والانشغال به، على الأهَمِّ وهو الوقوفُ بتأملٍ وتدبرٍ مع بواعثه، والدوافع إليه، والمقاصد من ورائه، فيضيع أجر التكليف، في ثنايا تعقيدات التطبيق، فيكون نصبٌ بلا جائزةٍ، وعمل بلا محصلة .. ولِيَصِحَّ العملُ وتَصدق النيةُ لا ينبغي أن يغيب عنا المثل الذي أراد لنا ربنا أن نحتذيه في وقت (الأَضْحى، والأُضْحِيَة، والتَّضْحِيَة). إنّه خليل الله إبراهيم عليه السلام، وكيف تعامل مع التكليف الإلهي.

أما التضحية، وهي الدرس والعبرة، المراد لنا أن نخرج بها من نشاطات هذا الموسم المفعم بالمعاني، التي ترفع المسلمين فوق أطماعهم الطينية، وتُحررهم من الإخلاد إلى أمهم الأرض (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)، فللحديث عنها مدخل لغويٌ بسيط، لا بد منه.

إذا رجعنا إلى قواميس اللغة القديمة، فإنّنا لا نجد كلمة التضحية بمعناها المعاصر، إنّما هي مصدر لفعل (ضحَّى) من ضحى بالشاة تضحيةً. لكنّنا لو رجعنا إلى قواميس اللغة العربية المعاصرة، كالمعجم الوسيط مثلا، نجد الكلام الآتي: (وضحى بنفسه أَو بِعَمَلِهِ أَو بِمَالِه تبرع بِهِ دون مُقَابل [محدثة]). وفي معجم اللغة العربية المعاصرة: (تَضْحِيَة:

1. مصدر ضحَّى بـ التَّضحية بالذَّات: تضحية الشّخص بمصالحه الذاتيّة في سبيل الآخرين أو من أجل قضيّة ما.

2. عمل تطوُّعيّ يُقدَّم دون مقابل في سبيل هدف أخلاقيّ {قدّم الشعبُ تضحيات كبيرة حتى نال استقلالَه}).

وهذا تماماً هو المعنى الذي قصدت إليه. مع توسيعٍ أكبرَ لمساحة المعنى، وربطه ربطا عقديا وشرعيا. وأكبر معنى هو ذاك الذي يريده ربنا منا وتكثر الأوامر به، في تعاليم ديننا الحنيف، أن يضحي المسلم بكثير من حظوط الدنيا من أجل الآخرة ونعيمها المقيم، وقد حذرتنا الآية الكريمة في سورة القيامة من أن نعكس العملية (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ). ومن أعظم ما يضحي به المسلم ابتغاء مرضاة الله (الهوى)، يقول الله تبارك وتعالى في سورة النازعات (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).

ومناسب أن نقرن مع الآيات تفسير الشيخ السعدي لها: ({فَأَمَّا مَنْ طَغَى} أي: جاوز الحد، بأن تجرأ على المعاصي الكبار، ولم يقتصر على ما حده الله. { وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} على الآخرة فصار سعيه لها، ووقته مستغرقا في حظوظها وشهواتها، ونسي الآخرة وترك العمل لها. {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [له] أي: المقر والمسكن لمن هذه حاله، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي: خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل، فأثر هذا الخوف في قلبه فنهى نفسه عن هواها الذي يقيدها (2) عن طاعة الله، وصار هواه تبعا لما جاء به الرسول، وجاهد الهوى والشهوة الصادين عن الخير، {فَإِنَّ الْجَنَّةَ} المشتملة على كل خير وسرور ونعيم {هِيَ الْمَأْوَى} لمن هذا وصفه).

وماذا بعد تضحية إبراهيم عليه السلام بولده، يذبحه بسكينه ابتغاء مرضاة الله، وطاعة لأوامره..؟ وماذا بعد أن خفف ربنا لنا الامتحان فتحول من امتحان كل ما تكتنفه النفس البشرية من مشاعر وعواطف إلى امتحانٍ للجيوب..؟

فهل يا ترى وعينا المغزى، وفهمنا الدرس؟ وهل نعيش هذه الأيام بكل دقيقة زمنية فيها، وكل دقيقة فكرية تعطيها؟ وهل بدأنا السير على طريق التضحية، على كل المستويات، فما أوتينا إلا من غيابها من حياتنا ونحن أهل أسوأ نكبة في التاريخ المعاصر..؟!