سألني أخ كريم: أنّه ربما احتاج في وضعه الجديد إلى شراء سيارات دينا وبيعها بسعر أقل من سعرها نقدا بغية الحصول على المال اللازم للاستمرار بالعمل بالشكل المناسب، ويقول إنّ هذا مفتى بصحته لدى علماء المملكة، ويكاد يكون إجماعا بينهم، لا سيما الكبار منهم.
والسؤال:
ما اسم هذه المعاملة؟ وما حكمها شرعا؟ وما حكم استمرار المشترك إذا عرف حرمتها؟
الجواب:
من تصحيفات الوَرَق، الوَرِق، ومن اشتقاقاتها التوَرُّق وتعريفه:
(وَالتَّوَرُّقُ فِي الِاصْطِلَاحِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً نَسِيئَةً، ثُمَّ يَبِيعَهَا نَقْدًا – لِغَيْرِ الْبَائِعِ – بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ عَلَى النقد) (الموسوعة الفقهية).
وأصل هذه المعاملة بيع محرم هو بيع العينة لحديث: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
وقد سمى بعض الصحابة تلك المعاملة بيع الحريرة (قطعة قماش) فقد ثبت عن ابن عباس أنّه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة، ثم اشتراها بخمسين؟ فقال: (دراهم بدراهم متفاضلة، دخلت بينها حريرة).
وعن ابن عباس أنّه قال: (اتقوا هذه العينة، لا تبيعوا دراهم بدراهم بينهما حريرة).
وعن أنس أنّه سئل عن العينة، يعني بيع الحريرة، فقال: (إنّ الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله).
وقول الصحابي: (حرم رسول الله كذا، أو أمر بكذا، وقضي بكذا، وأوجب كذا) في حكم المرفوع اتفاقاً عند أهل العلم، إلا خلافاً شاذاً لا يعتد به، ولا يؤبه له.
واختلاف العينة عن التورق أنّه في الأولى تباع السلعة إلى البائع نفسه، أما في الثانية فإلى طرف ثالث. وقد تكلم ابن القيم رحمه الله في كتابه الشهير إعلام الموقعين كلاماً أصولياً رائعاً واضحاً في موضوع العينة والتورق هذا بعضه: (فإنّ عامة العينة إنّما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن بها عليه الموسر بالقرض حتى يربح عليه في المائة ما أحب وهذا المضطر إن أعاد السلعة الى بائعها فهى العينة وإن باعها لغيره فهو التورق وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا والاقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق، وقد كرهه عمر بن عبد العزيز وقال هو أخيه الربا. وعن أحمد فيه روايتان وأشار في رواية الكراهة إلى أنّه مضطر وهذا من فقهه رضى الله عنه قال فإنّ هذا لا يدخل فيه إلا مضطر.
وكان شيخنا ابن تيمية رحمه الله يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مرارا وأنا حاضر فلم يرخص فيها وقال المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه).
وقد جاء في فتاوى ابن تيمية ما نصه: (الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ سِرًّا ثُمَّ يَبِيعُهَا لِلْمُسْتَدِينِ بَيَانًا فَيَبِيعُهَا أَحَدُهُمَا فَهَذِهِ تُسَمَّى “التَّوَرُّقُ” لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ غَرَضُهُ فِي التِّجَارَةِ وَلَا فِي الْبَيْعِ وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى دَرَاهِمَ فَيَاخُذُ مِائَةً وَيَبْقَى عَلَيْهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مَثَلًا. فَهَذَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ. وَالْأَقْوَى أَيْضًا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ التَّوَرُّقَ أَصْلُ الرِّبَا ; فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَخْذَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرَرِ الْمُحْتَاجِ وَأَكْلِ مَالِهِ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. وَإِنَّمَا الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ الْبَيْعَ وَالتِّجَارَةَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَرَضَهُ أَنْ يَتَّجِرَفِيهَا. فَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ مُجَرَّدَ الدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا: فَهَذَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ).
وأختم بحديث لم أجعله في مقدمة الأدلة لاختلاف العلماء فيه بين مضعف ومحسن، ولكنّي أسوقه للاستئناس به بعد إبراء الذمة بالإشارة إلى احتمال ضعفه، ولقد احتج به ابن تيمية مرات في الفتاوي وكذلك ابن القيم في الإعلام وانتصر لتصحيحه (قال الامام احمد حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن ابي اسحاق السبيعي عن امرأته انها دخلت على عائشة هي وام ولد زيد بن ارقم وامرأة اخرى فقالت لها ام ولد زيد إني بعت من زيد غلاما بثمان مائة نسيئة واشتريته بست مائة نقدا فقالت أبلغي زيدا أن قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب بئسما شريت وبئسما اشتريت) رواه الإمام أحمد وعمل به وهذا حديث فيه شعبة وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه.
ومن تعليق القرطبي على الحديث: (هذا لا يقال بالرأي، لأنّ إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي، فثبت أنّه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعوا الربا والريبة. ونهى ابن عباس رضي الله عنهما عن دراهم بدراهم بينهما حريرة).
أما عن الأسئلة فقد أجيب عن الأولين، وأما جواب الثالث: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا). والحمد لله رب العالمين