Skip to main content

الدِّمَاءُ المَشْرُوعَةُ فِي الإِسْلَامِ

By الأثنين 5 ذو القعدة 1437هـ 8-8-2016ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

إنّ الله تبارك وتعالى، قد تَعبَّد عباده المسلمين بإِنْهَارِ دم الأنعام لوجهه الكريم. ومن أدلة ذلك قول الله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر). وقوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).

وقوله: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ).

والأنعام تعني أصنافاً ثلاثة من البهائم أحلها الله للذبح تقرباً وللأكل، الإبل، والبقر، والغنم ويُلحق بها الماعز. ويذبح المسلم تلك الأنعام للأكل، في أي وقت شاء، ويذكر اسم الله عليها، ويتصدق منها تطوعاً إن شاء. أما ذبحها نُسكاً وطاعة لله، فلذلك شرائط، زمانيةٌ ومكانيةٌ وشكليةٌ .. وهي ثلاثة أنواع: الأضحية، والعقيقة، والهدي.

أما الأضحية فمن شروطها المحل الزماني، وهو من بعد صلاة العيد في الأضحى، إلى آخر أيام التشريق، في كل عام، ولا تُجْزِيءُ خارج ذلك الوقت أبدا. وليس لها محل مكاني. ولها شروط شكلية عن سنها وشكلها وغير ذلك، يُبحث عن ذلك في كتب الفقه. وحكمها الوجوب مع القدرة على الراجح لقوله عليه السلام في حديث أبي هريرة: (من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا).

أما العقيقة فذبح يُنسك به عن المولود لقول النبي عليه السلام: (كل غلام رهينة بعقيقته تُذبح عنه يوم سابعه ويُسمى فيه ويُحلق رأسه). ويختلف العدد تبعاً لجنس المولود لقوله: (عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، لا يضركم أذكرانا كن أم إناثا). أما حكمها، فعلى الراجح، الوجوب مع القدرة كالأضحية.

أما الهدي، فنُسك يُهدى إلى البيت العتيق وفقرائه، وله محلان زماني ومكاني. أما المكاني فلا يُقبل ولا يصح إلا داخل حدود الحرم في مكة. أما الزماني فنوعان: ما كان أثناء أداء الحج، فرضاً أو نفلاً، وله تفصيل في وقته ضمن أحكام الحج. وما كان في غير الحج والعمرة، فهو خاص في هدي التطوع، ويكون في أي وقت من العام، ويصح إنابة من يذبحه دون سفر صاحبه، والشرط ألا يذبح إلا في الحرم، ودليل ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم).

والهدي يكون واجباً على المتمتع والقارن لقوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). ويجوز لغيرهما التطوع به. والأنساك الثلاثة تصح بكل أنواع الأنعام، وفي الإبل والبقر يشترك فيها الأشخاص السبعة أو العشرة حسب تفصيل له مظانه، إلا العقيقة فلا يصح فيها الاشتراك.

ولقد شاعت بين المسلمين في بعض أقطارهم أنواع من الذبح، يظنونها مشروعة وليست كذلك، وهي من نتاج العادة والابتداع. من ذلك الذبح مع ابتداء بناء البيت أو شرائه أو لأول نزولهم فيه، أو لدى شراء السيارة، حفظاً لها أو عند أية مناسبة فرح. وكل ذلك لا أصل له في الدين، بل بعضه يكون محرماً إذا تُوُخِّي فيه الحفظ والسلامة فيدخل في الشرك، لأنّه لم يشرع. وقد يستعظم بعض الناس وصف تلك الأعمال بالشرك وقد جرت عليه عوائد الناس ولا يُنكر عليهم مشائخهم. وأقول: إنّ من عوائد بلاد الشام، إذا بدؤوا بصب القواعد (الأساسات) للبناء، أتوا بالجزار فذبح الخروف فوق إحدى القواعد وأراق دم الخروف عليها، زاعمين أنّ في فعل ذلك حفظاً وسلامة للبناء، وهو الشرك بعينه..! ولو كان خيراً لشرعه الله. ويفعلون الشيء نفسه، لدى شراء السيارة فيلطخون بعض جوانبها بدم الخروف للاعتقاد الباطل نفسه.

فالاتباع لما جاء عن الله أصل الدين، والعقل دوماُ تبع للنص ولا يتقدم عليه. ومنشأ البدع في حياة المسلمين، من اتباع العقل في ما لم يأت به الشرع.

ولا يحرم الذبح في مناسبات معينة من أجل إقامة وليمة، ولكن لا يترتب على ذلك أجر شرعي على
إنهار الدم لمن فعله، بمعنى أنّه سيان لو اشترى اللحم من الجزار، أو اشترى البهيمة وذبحها..! بينما لا يصح شرعاً أبداً في الهدي أو الأضحية أو العقيقة، التصدق بقيمة البهيمة أو شراء اللحم جاهزاً من عند الجزار، بل لا بد من إنهار الدم. وتدبروا قول الله عز من قائل: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) فالتقوى في إنهار الدم لا في توزيع اللحم.

ويحلو للكثيرين أن يسأل لماذا؟ وبخاصة حينما تكون رؤية عقله مخالفة للشرع..! وأقول: لا ينبغي لنا أن نعلل أحكام الشرع بما لم يأتنا عن الله، عن طريق ما تتوصل إليه عقولنا بالاستنباط، وهذا يندرج تحت (القول على الله بغير علم)، لكن، لا يمنع أن نقول استنباطاً، لعلَّ العلة كذا وكذا، والله أعلم، ولا نجزم. وعلى هذه القاعدة، أقول: أفهم بعقلي، والله أعلم، أنّ الله امتحن وابتلى أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام ابتلاء لا يطيقه ولا ينجح فيه أحد من العالمين: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، ولم يتردد الإبن في الاستسلام لأمر الله، ولم يتردد الوالد في القبول بذبح ابنه بيده قرباناً لله، ولما بلغ الصدق منتهاه، والاستسلام قمته، وهمَّا بالتنفيذ (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) جاءت الجائزة والمكافأة والفرج (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم).

وربنا تبارك وتعالى، رحمةً بنا، وهو يعلم ضعفنا، خفف لنا هذا الامتحان الكبير (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) إلى امتحان مادي لجيوبنا، ومدى تعلق قلوبنا بما فيها، وما أرخص ذلك في طاعة الله..! ومع ذلك يخفق منا الكثيرون..!

ويجوز في التصدق شراء اللحم للتصدق به، دون اللجوء إلى الذبح، وعندي أنّ هذا أفضل لأنّه يعطي فرصة التعرف على جودة اللحم. ومن أراد الذبح، فهو جائز، لكنّ الأجر في الذبح والشراء واحد.

ولسائل أن يسأل ما حكم الذبح من أجل وليمة العرس؟ والجواب وليمة العرس واجبة، لقول النبي عليه السلام لعلي رضي الله عنه: (إنّه لا بد للعرس من وليمة)، لكن وجوب الوليمة لا يعني وجوب الذبح لها، ولو فُعل فجائزٌ، ويستوي في الأجر مع شراء اللحم. وهذا رسول الله عليه السلام يُولم لعرسه دون لحم. يقول أنس رضي الله عنه: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت، فألقي عليها التمر والأقط والسمن، فشبع الناس).

ولا يشغب على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ). وكان ابن عوف ذا مال، ولم يكن طلب رسول الله الشاة إيجاباً على ابن عوف ولا على الأمة.

وأختم بما وجدت في كتاب (الشرح الممتع) من كلام الشيخ العثيمين، ما يؤكد ما حُرر في هذه الصفحات .. يقول رحمه الله: (وبهذا يكون قد انتهى باب الأضاحي، والهدي، وبه يتبين لنا أنّ الدماء المشروعة ثلاثة أقسام: هدي وأضحية وعقيقة. وما يفعله بعض الناس إذا نزل منزلاً جديداً ذبح ودعا الجيران والأقارب، هذا لا بأس به ما لم يكن مصحوباً بعقيدة فاسدة، كما يفعل في بعض الأماكن إذا نزل منزلاً، فإنّ أول ما يفعل أن يأتي بشاة ويذبحها على عتبة الباب حتى يسيل الدم عليها، ويقول: إنّ هذا يمنع الجن من دخول البيت، فهذه عقيدة فاسدة ليس لها أصل، لكن من ذبح من أجل الفرح والسرور فهذا لا بأس به) … والحمد لله رب العالمين