القنوت مصدر من فعل قنت، ومصدره قنوتاً، مثل: سجد سجوداً، وركع ركوعاً، وركب ركوباً.
ما معنى فعل قنت؟
جاء في لسان العرب (2/ 73): (قنت: القُنوتُ: الإِمساكُ عَنِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ: الدعاءُ فِي الصَّلَاةِ. والقُنُوتُ: الخُشُوعُ والإِقرارُ بالعُبودية، والقيامُ بِالطَّاعَةِ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا مَعْصِيَةٌ؛ وَقِيلَ: القيامُ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)).
وعن جَابِرٍ قَالَ: (سُئل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضلُ؟ قَالَ: (طُولُ القُنوتِ)). وعَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه: (قَنَتَ شَهْرًا فِي صلاةِ الصُّبْحِ، بَعْدَ الرُّكُوعِ، يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وذَكْوانَ). وهو هنا بمعنى الدعاء.
والقانِتُ: الذَّاكِرُ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً). والقانِتُ العابدُ. والقانِتُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أَي: مِنَ الْعَابِدِينَ).
وفي لسان العرب أيضاً: (وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ (القنوت) فِي الْحَدِيثِ. ويَرِدُ بمعانٍ متعدِّدة: كالطاعةِ، والخُشوع، وَالصَّلَاةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالْعِبَادَةِ، وَالْقِيَامِ، وَطُولِ الْقِيَامِ، وَالسُّكُوتِ؛ فيُصْرَفُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي إِلى مَا يَحتَملُه لفظُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ). والمشهورُ فِي اللُّغَةِ أَن القُنوتَ الدعاءُ.
والذي يعنينا من تلك المعاني اللغوية، القنوت الذي هو بمعنى الدعاء .. وهناك ثلاثة أنواع من القنوت في الفقه الإسلامي، هي:
1. القنوت في الركعة الثانية من الفجر بعد الركوع، يوميا.
2. قنوت الوتر بعد صلاة العشاء، أو صلاة الليل.
3. قنوت النازلة حين تنزل بالمسلمين نازلة.
1. القنوت في الركعة الثانية من الفجر بعد الركوع، يوميا.
وهو الذي عليه المذهب الشافعي فقط، دون المذاهب الثلاثة الأخرى، وأكثر أئمة المساجد اليوم في البلدان التي يكثر فيها أتباع المذهب يفعلونه. وهو الذي يجعلونه بعد الرفع من الركوع في ثانية الفجر، ويدعون فيه بدعاء (اللهم أهدنا فيمن هديت …)، ويزيدون عليه ما شاؤوا، ويواظبون عليه يومياً بلا انقطاع. ولم يعد هذا مقصوراً على كون الإمام شافعياً، بل صار أكثر الأئمة في المساجد يفعلونه، جهلاً، ولطلب المصلين له. والصحيح، والقول الفصل في هذا النوع من القنوت أنّه لا دليل عليه من السنة الصحيحة. وانفرد به الشافعية دون المذاهب الثلاثة الأخرى.
فعن أبي مالك الأشجعي قال: (قلت لأبي: يا أبت إِنّك صلّيت خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي هاهنا بالكوفة نحو خمس سنين، أكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بنيّ مُحدَث). صحيح ،أحمد والترمذي والنسائي، وابن ماجه وغيرهم، وانظر (الإِرواء).
ولعل عمدة الشافعية في القنوت في الفجر الحديث (ما زال رسول الله يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا). والحديث منكر فيه: أبو جعفر الرازي واسمه عيسى بن ماهان مُتكلَّم فيه. وقال ابن التركماني: (… قال ابن حنبل والنسائي: ليس بالقوي، وقال أبو زرعة: يَهِمُ كثيراً، وقال الفلاس: سيئ الحفظ وقال ابن حبان يحدث بالمناكير عن المشاهير…) وانظر التفصيل في الضعيفة (1238).
وقال ابن القيّم رحمه الله في زاد المعاد (1/ 271): (ومن المحال أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في كلّ غداة بعد اعتداله من الركوع يقول: “اللهمّ اهدني فيمن هديت، وتولّني فيمن توليت…”. إِلخ ويرفع بذلك صوته، ويؤمّن عليه أصحابه دائماً إِلى أن فارق الدنيا، ثمَّ لا يكون ذلك معلوماً عند الأمة، بل يضيّعه أكثر أمّته وجمهور أصحابه، بل كلّهم؛ حتى يقول من يقول منهم: إِنّه محدَث!).
ولا يتسع المقام لبسط الكلام أكثر في موضوع قنوت الفجر، فله مظانه لمن أراد التوسع، لأنّ موضوعنا الأصلي قنوت النازلة .
2. قنوت الوتر بعد صلاة العشاء، أو صلاة الليل.
أما قنوت الوتر بعد صلاة العشاء أو بعد صلاة الليل، ويقصد بالقنوت الدعاء المأثور عنه صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنّه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لا منجا منك إلا إليك)،
والذي علمه للحسن بن علي رضي الله عنهما. ويُجعل في الركعة الأخيرة من صلاة الوتر بعد الركوع. والأصح فيه أنّه قبل الركوع، كما هو عند الأحناف، بخلاف قنوت النازلة، وبعض العلماء على أنّ الأمر واسع. وتشرع إضافة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الدعاء لثبوت ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، ولجريان عمل السلف بها.
والنبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن يدعو بالدعاء المذكور في معظم أحيانه، إنّما كان يقرأ في الركعة الأولى (سبّح اسم ربّك الأعلى)، وفي الثانية: (قُل يا أيها الكافرون)، وفي الثالثة: (قل هو الله أحد)، وربما أضاف إليها أحياناً، المعوذتين (الفلق) و(الناس).
وكان عليه الصلاة والسلام يقنت أحيانا في ركعة الوتر. ويعلق شيخنا الألباني رحمه الله على ذلك في (صفة الصلاة) قائلاً: (وإنّما قلنا: “أحياناً”، لأنّ الصحابة الذين رووا الوتر لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله دائماً؛ لنقلوه جميعاً عنه).
3. قنوت النازلة حين تنزل بالمسلمين نازلة.
والمقصود بالنوازل المصائب الكبيرة والكوارث، كانتشار الأوبئة المميتة والفيضانات والزلازل والحروب. وكذلك تسلط بعض الأعداء واشتداد مكرهم بالمسلمين. والمقصود بالقنوت في هذه الأحوال الدعاء بالفرج وكشف الغمة ورفع المعاناة. ولا يوجد دعاء مأثور، بل كل نازلة بحسبها.
مشروعيته:
وأصل ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ إذْ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ: (اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ. اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ).
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: (لَأَقْرَبَنَّ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: (وَصَلَاةِ الْعَصْرِ مَكَانَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ).
وفي مسلم من حديث خُفاف بن إِيماء قال: (ركَع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمَّ رفع رأسه فقال: (غِفار غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ، وعُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهِ، اللَّهُمَّ الْعَنْ بَنِي لِحْيَانَ، اللَّهُمَّ الْعَنْ رِعْلًا وَذَكْوَانَ، ثُمَّ كَبِّر وَوَقَعَ سَاجِدًا)). وأهم ما ينبغي أن نلفت إليه النظر في هذه الأحاديث، عدم إطالة الدعاء منه صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما يفعله أئمتنا اليوم.
حكمه:
وإجماع العلماء أنّه ليس بواجب، لا على الأعيان ولا على الأئمة، ولكن من الأفضل فعله لأنّه دعاء ورحمة للمسلمين.
والمخاطب الأول الإمام الأعظم وذلك لفعل النبي عليه الصلاة والسلام له، ولم يأمُر بفعله. واختلف العلماء هل يقتصر فعله على الإمام الأعظم، أم يتعداه إلى كل من يصلي بالناس، أم يصح من كل مصل؟
أقوال كثيرة، وابن تيمية رحمه الله يرى أنّ كل مصلٍ يصح منه القنوت في النازلة عملا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي). وهو قول وجيه، لما فيه من مصلحة الدعاء للمسلمين.
وللشيخ العثيمين رحمه الله رأي أحببت أن أثبته هنا للمنفعة. يقول رحمه الله: (ولكن الذي أرى في هذه المسألة: أنْ يُقتصرَ على أَمْرِ وليِّ الأمْرِ، فإن أَمَرَ بالقُنُوتِ قنتنا، وإن سكتَ سكتنا، ولنا ـ ولله الحمد ـ مكانٌ آخر في الصَّلاة ندعو فيه؛ وهو السُّجودُ والتَّشَهُّدُ، وهذا فيه خيرٌ وبَرَكَةٌ، فأقرب ما يكون العبدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجد، لكن؛ لو قَنَتَ المنفردُ لذلك بنفسه لم نُنْكر عليه؛ لأنّه لم يخالف الجماعة).
والذي يظهر لي أن يقنت للنازلة الإمام الأعظم، أو من في حكمه، في بعض البلدان، ومن يـأتمر بأمرهم من أئمة المساجد. أما إن لم يكن الأمر، في بعض البلاد، منضبطاً بهذه الطريقة، فالأفضل أن يترك القنوت لمن شاء من أفراد المصلين. لأنّه حصل في بعض البلدان احتكاك بين المصلين في المسجد الواحد، حيث بعضهم لا يرى القنوت لأنّه لا يعتبر ما جرى نازلة، وآخرون يرون العكس. ولا نستغرب فبعض المصلين يختلفون على أئمة المساجد، عند نزول المطر، هل يجوز جمع الصلاة أم لا..!
كيفيته:
يكون في الركعة الأخيرة من الصلاة، بعد الرفع من الركوع، وقال بعضهم قبله، والأمران جائزان إلا أن كونه بعد الركوع أغلب، وأكثر العلماء على ذلك. ولا يكون إلا في الفرائض. ويجهر الإمام بالدعاء حتى لو كانت الصلاة سرية، حتى يسمعه المأمومون فيؤمنوا، ويرفع يديه، ويرفع ويؤمن من خلفه. وكل ذلك ثابت من هديه عليه الصلاة والسلام. وتركنا التوثيق تجنبا للإطالة، وقد مر بعض ذلك في الأحاديث المذكورة.
ومن أهم ما ننبه عليه في موضوع قنوت النازلة، الاقتصار على النازلة وتسميتها، والاختصار في الدعاء. ولم يثبت أن أطال النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت النازلة، مهما كانت، وقد مرت بكم الأحاديث. وهو الأسوة والقدوة. والملاحظ في كل البلاد إطالة الأئمة دعاء قنوت النازلة، حتى في الحرمين، والمبالغة في رفع الصوت فيه، وبعض الأئمة يقرؤونه مجوداً، وكل ذلك لا أصل له. ولا ينبغي إدخال أدعية أخرى معه كسؤال الغيث، ورخص الأسعار وصلاح الناشئة. وكل ذلك مخالف لهدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنّ خير الهدي هديه، وشر الأمور محدثاتها … والحمد لله رب العالمين