من خلال دراسة مستفيضة للموضوع، واطلاع واسع على كثير مما كتب حول هذا الموضوع، تبلور عندي التصور التالي للمسألة، أقول والله أعلم: أن لا يحكم بالموت شرعاً إلا بعد توقف القلب والرئتين وذلك لاعتبارات:
1. من الناحية الشرعية فإنّ الروح تعتبر لا زالت في الجسد ما دامت هناك حركة في الجسد..! وما الذي يسبب استمرار عمل القلب إلا بقاء الروح من الوجهة الشرعية..؟ ولا يقال المنفسة والأجهزة فتلك تحرك الرئتين أما القلب فحركته ذاتية (الروح) وإن كانت للأطباء تفسيرات علمية لاستمرار عمل القلب لا يعنينا الخوض فيها.
2. لا توجد في الواقع حالات تستدعي الاستعجال في الحكم بالوفاة كلياً، من الوجهة الشرعية والواقعية. وإثبات الوفاة شرعاً يترتب عليه، وجوب الدفن، وعدة الزوجة وتقسيم التركة .. فما وجه العجلة..؟ وقد فقه بعض الفقهاء هذه المسألة بدقة بالغة حتى قال أحدهم (وأظنه الغزالي رحمه الله) إذا تعذر الحكم بالوفاة بالقرائن المعروفة، ترك الميت حتى يظهر التغير في الجسد. وتتضح أهمية هذا الفقه من الفقرة التالية.
3. إنّ فكرة الإلحاح على الإثبات المبكر للوفاة (الموت الدماغي) وفدت إلينا من الغرب واستخفت بعض أهل الطب وأهل الدين وتسابقوا لإقرارها وتبريرها على أنّها سبق علمي، وما دروا علام تنطوي..؟ إنّ اهتمام الغربيين بذلك والإلحاح عليه، مبني عندهم على تسويغ وتجويز أخذ الأعضاء من الميت دماغياً لأنّ أخذ الأعضاء قبل توقف القلب والتنفس أنجح وأجدى لعملية نقل الأعضاء..! ولا أظنها تخدم غرضا آخر. وإنّي لا أرى على صفحة الواقع أي أمر آخر يستدعي الإسراع بإثبات الوفاة، وبخاصة عند المسلمين.
والخلاصة: إنّ الحكم بالموت الدماغي يبيح شرعاً سحب أجهزة الإنعاش دون أي محذور شرعي لأنّه نوع من أنواع التداوي، والراجح بالأدلة أنّ التداوي ليس على الوجوب. وهذا في الواقع أمر ملح وينهي مشكلات كثيرة تواجه الأطباء وأهل المريض، والحمد لله على يسر هذا الدين.
وأما الحكم النهائي بالوفاة والذي يترتب عليه الأمور المذكورة في الفقرة السابقة فلا يجوز شرعاً، ولا ينبغي أن يكون، إلا بعد توقف القلب والتنفس. والله أعلم.
ويحسن أن نضيف إلى هذا الموضوع الخطير، موضوعا أخطر منه، عن حكم نقل الأعضاء، في عجالة وهو أقرب ما يكون، لأخذ فكرة سريعة ما دمنا تعرضنا لذكره في تضاعيف الموضوع السابق. وباختصار شديد فالموضوع تحكمه القواعد الآتية:
1. إنّ الإنسان من منظور إسلامي لا يملك جسده، ولا يملك حق التصرف فيه بأي شكل، وبالتالي لا يجوز التبرع بالأعضاء من الحي ولا الوصية بها بعد الموت. ومن باب أولى أن لا يكون هذا الحق لأقرب الناس إليه بعد موته.
2. إنّ نقل الأعضاء من الحي اعتداء على حكمة الله في الخلق، كأن يزعم زاعم أنّ الإنسان يمكن أن يعيش بكلية واحدة، والسؤال لماذا خلق الله الأخرى..؟ والله يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).
3. إنّ استئصال الأعضاء من الجسد الحي لنقلها يعتبر من المُثْلَة، وهي محرمة لقول النبي عليه السلام: (نهى عن المُثْلَة). ولا يجوز ذلك أيضاً من الميت لقوله: (إنّ كسر عظم المسلم ميتا ككسره حيا).
4. بناء على ما سبق يعتبر نقل الأعضاء من التداوي بالمحرم لما جاء عن النبي عليه السلام: (إنّ الله تعالى خلق الداء والدواء فتداووا ولا تتداووا بحرام) وقوله: (نهى عن الدواء الخبيث).
ولا يخفى ما يعانيه العالم اليوم من عصابات سرقة الأعضاء، والتي تبدؤ بالخطف والقتل، وبخاصة للأطفال، في كل مكان، وما كان ذلك ليكون، لولا فتح الباب على مصراعيه لنقل الأعضاء من أجل تسجيل انتصار طبي علمي، أفرز كوارث قاتلة..! فيوشك أن نرى قريباً، مع تقدم العلم الذي لا ضوابط له، محلات (قطع غيار بشرية)، ولا تستغربوا ولا تضحكوا. إنّ بعض المنجزات العلمية هَدَمَ بنيان الإنسانية في النفوس قبل أن يهدم بنيان الدين..! فلنتعظ.
وأوجه لأهل الطب، من يقرأ الموضوع منهم اعتذاراً، إن أحسوا أنّي أتدخل في اختصاصهم، فأنا أحترم كل اختصاص، ولا أتكلم فيما لا أحسنه، وإنّي في الطب جاهل، لكنّ الموضوع يفرض نفسه بقوة وإلحاح على أهل الدين. ولقد حرصت ما استطعت أن أتجنب الإيغال في المسائل الطبية، واكتفيت بعناوين لمناقشة الموضوع .. والله أعلم