Skip to main content

إِيجَازُ العِبَارَةِ فِي زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ

By الخميس 11 جمادى الأولى 1440هـ 17-1-2019ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, فقه

زكاة عروض التجارة مسألة خلافية بين العلماء في القديم والحديث، ومن الضروري جدا التوضيح أنّه حينما يُقال في الفقه إنّ المسألة خلافية، يظن الكثيرون أنّ العمل بكل الاجتهادات المطروحة صحيح ومقبول شرعا، والخيار واسع، وأنّ ذلك من اليسر والرحمة…! وما ذاك إلا عينُ الخطأ .. ولا بد من البحث في اختلافات العلماء للوصول إلى الصواب، والحق لا يتعدد، ولنستحضر دائما قول ربنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).

والاختلاف في الدين لا تحْسِمُه الكثرةُ والقلةُ والأسماءُ اللامعةُ المتألقة، إنّما عنصرُ الحسمِ الوحيدُ
النصُّ من الوحيين (القرآن والسنة الصحيحة).

ومسألةُ اليوم، القائلونَ بوجوبها، هُم معظمُ الفقهاء، وعلى رأسهم الأئمةُ الأربعةُ، إلا أنّ القائلين بعدم الوجوب قِلَّةٌ، لكنّهم ألصقُ بالأدلة، والصحيحةِ خاصةً، من سابقيهم .. ولله در الشاطبي يقول: (الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها، وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك، ولا يصلح فيها غير ذلك)، لأنّ الدين لا يأتي بالحكم وضده في المسألة الواحدة، في آنٍ معاً، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).

ومرة أخرى، فإنّ العبرة ليست بكثرة العدد، أو شهرة الأسماء، إنّما هي في صحةِ الدليل، وفقهِ الاستدلال…!

ومن الأسماء التي ترتبط بالتأكيد على أنْ لا زكاة في عروض التجارة، لعدم وجود الدليل الكافي لذلك؛ ابن حزم رحمه الله، وقد أطال القول في مسألة زكاة عروض التجارة. وذهب بقوة إلى أنّه لا زكاة في عروض التجارة .. وكانت ردوده، وانتقاداته العلمية الدقيقة المؤصلة، قويةً ومفيدةً لطلاب العلم، ولاسيما تبيان تناقضات القائلين بوجوبها، في استدلالاتهم، وذلك في كتابه المشهور “المحلى بالآثار” فليراجع.

وممن تابعه فيما ذهب إليه، الشوكاني في كتابه “الدرر البهية“، وصديق حسن خان، في شرحه المُسمَّى”الروضة الندية” .. وقد رَدَّ الشوكاني، أيضاً، على القائلين بوجوب زكاة عروض التجارة، في كتابه (السيل الجرار)، ورَدَّ فيه أيضاً، على القائلين بوجوب الزكاة على “المُسْتَغَلَّات”؛ وهي: (أموالٌ لم تُعَدَّ للبيع ولم تُتَخَذْ للتجارة، يستفيد أصحابها من منافعها لا من أعيانها، بإكرائها مقابل أجر أو بما تنتجه من محاصيل، فهي أموال مستثمرة في أصول بقصد تحقيق الكسب والنماء، كالإيرادات التي تتحقق عن طريق تأجيرها إلى الغير أو عن طريق بيع إنتاجها). ومثال ذلك البيوت المعدة للإيجار، وسيارات الأجرة، والمعامل وغيرها …
وهو موضوع يتبناه بعض المعاصرين، الذين يوسعون نظرتهم في مبحث الزكاة، حتى لو تجاوزوا النصوص، وذلك أقرب إلى النظرة الإصلاحية الاجتماعية والمادية، منها إلى الأبحاث الشرعية، على ضوء النصوص…! حتى إنّ بعض المغالين يقحمونها تحت فكرة النزعة الاشتراكية في الإسلام، يستلهمون حركتهم، تلك، من دعوى الحرص على الفقراء والدفاع عن حقوقهم، والانتصار لهم. وفي الغالب، فإنّ الذين يميلون إلى ذلك هم من أنصار المدرسة العقلية، التي تجعل العقل صِنْوَ الوحيِ في التشريع، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذباً.

ومن المعاصرين، القائلين بوجوب زكاة العروض، وزكاة المستغلات، (محمد أبو زهرة، وعبد الوهاب خلّاف، ومحمد الغزالي، وعبد الرحمن حسن، ويوسف القرضاوي، ووهبة الزحيلي)، وهو رأي أكثرية العلماء المعاصرين المشاركين في المؤتمرات والندوات الفقهية من خلال المجامع الفقهية. ويميل إلى ذلك فقهاء الزيدية في اليمن، ولعل بعض الشيعة يتبنونه. ونؤكد ثانية، أنّ هؤلاء، إمامهم العقلُ ومُستخرجاتُه، وليس النصَّ الذي أُنزل، وحياً، من فوق سبع سماوات.

يقول الشوكاني عن (المُسْتغَلاَّت): (هذه مسألة لم تطن على أذن الزمن، ولا سمع بها أهل القرن الأول الذين هم خير القرون ولا القرن الذي يليه ثم الذي يليه، وإنّما هي من الحوادث اليمنية والمسائل التي لم يسمع بها أهل المذاهب الإسلامية، على اختلاف أقوالهم، وتباعد أقطارهم، ولا توجد عليها أثارة من علم، ولا من كتاب ولا سنة ولا قياس. وقد عرفناك أنّ أموال المسلمين معصومةٌ، بعصمة الإسلام، لا يحل أخذها إلا بحقها، وإلا كان ذلك من أكل أموال الناس بالباطل. وهذا المقدار يكفيك في هذه المسألة).

ولاستكمال إيضاح الصورة، فقد وجدت في الشريط رقم (381) من سلسلة (الهدى والنور)، للشيخ الألباني رحمه الله، نموذجا واضحا للخلافات بين أهل النقل وأهل العقل في تحرير الأحكام الشرعية، ومنها ما نحن في صدده، مسألة زكاة عروض التجارة. والشيخ يلخص المسألة بتأصيلٍ وتمثيلٍ، فنقلت تفريغ الشريط للفائدة:

(السائل: شيخنا، الشيخ محمد الغزالى في كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، يقول: إنّ القائلين بأنّ عروض التجارة لا تجب فيها الزكاة، وبفتواهم هذه أصاب الإسلام ضررٌ شديد. إذ لا يُعقل أن تُفرض الزكاة على رجل عنده فدَّان شعير لا يكاد يخرج منه شيئا مذكوراً، ويُترك أصحاب الملايين بل المليارات لا يؤخذ منهم زكاة، فما جوابكم على هذه المقولة؟

الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: جوابي عن هذه المقولة، أنّه كما عهدناه في كل زلاته وشطحاته التي ظهرت في كتابه الأخير، وفى ما قبله، أنّه يعتمد على الرأي فيما يصدره من أحكام شرعية، ولا يعتمد على النقل. والسبب في ذلك معروف منذ القديم، أنّ أهل الرأي لمّا كانت بضاعتهم مزجاة في علم السنة والحديث النبوي، فهم لذلك يلجئون لتعويض ما فاتهم من الخير إلى الاعتماد على آرائهم وأفكارهم التي لا مستند لها من كتاب ولا سنة.
وكل إنسان يستطيع أن يفعل فعل أهل الرأي.

أما جوابنا عن هذه الشبهة العقلية، فيكون من ناحيتين:

الناحية الأولى: لو فرضنا أنّ تاجرا ما عنده من عروض التجارة ما يساوي مليون ريال أو جنيه، ويقابله إنسان آخر عنده مليون نقدا وليس عروض تجارة، ونحن نسأل هذا الرجل العاقل الذي يحكم عقله في أحكام الشريعة أي الرجلين تصرفه في ماله أنفع لأمته؟ أَلرجل الأول الذي حول المليون جنيه أو ريال إلى عروض تجارة وحرك مصالح الناس ونفع العشرات والمئات من الناس، أهذا أنفع للمجتمع من الناحية المادية والاقتصادية أم ذاك الذي حبس وكنز المليون جنيه في الصندوق الحديدي؟ ثم هو مع ذلك يُخرج النسبة المفروضة في المئة اثنين ونصف، نحن نسأل الآن أهل العلم بالاقتصاد أي الرجلين أنفع لأمته؟ الآن هذا السؤال يوجه إلى الحاضرين على اختلاف علمهم وثقافتهم أي الرجلين أنفع؟ الجواب الأول.

الناحية الثانية: نحن نقول لا يجب على عروض التجارة زكاة مطلقاً إنّما نقول ما تقتضيه الأدلة الشرعية أولاً ثم ما تقتضيه قاعدة اليسر في الشريعة ثانياً {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. نحن حينما نقول لا زكاة على عروض التجارة إنّما نعني ما هو معروف عند المذاهب الأربعة أنّ كل تاجر عليه في آخر كل سنه أن يقوِّم بضاعته ثم أن يخرج عن مجموع القيمة كما لو كانت هذه القيمة في يده أو في صندوقه نقداً، فعليه أن يخرج في المائة اثنين ونصف. هذا الذي نحن ننكره ونقول لا دليل عليه في الشرع. لكن يقابل هذا أنّنا نقول أنّ هذا الرجل الغني الذي حوَّل نقوده إلى بضاعة نفع بها مجتمعه الإسلامي لم ينجو من الزكاة المطلقة (الصدقة)، وأعني أنّ كل تاجر يجب أن يحقق في نفسه قول الله تبارك وتعالى: {قد أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}، وأن يزكى نفسه مما طبعت عليه، كما قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} ، فعليه أن يزكيها، ولا يكون ذلك أبداً، إلا بأن يخرج قسمًا من تلك العروض مما تطيب به نفسه، تزكيةً وتطهيراً لها. هذا واجب عليه من باب تطبيق النصوص العامة. أمَّا الذين يقولون ما ذكرناه أنفاً من التقويم، فهذا ليس له أصل في الشرع، ولذلك فنحن أعملنا النصوص العامة، التي معانيها واضحة جداً في تزكية النفس وتطهيرها من الشح والبخل وأعرضنا عن تلك الآراء التي لا مستند لها في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم.

وأضم إلى هذا البيان شيئاً آخر، وهو من الكمال فأقول: إنّ الذي يكنز ماله ويُخرج زكاته ويقدمها إلى الفقير، فيده هي العليا، ويد الآخذ هي السفلى كما جاء في الحديث الصحيح، أما الغني الذي حوّل ماله إلى عروض فهو والمتعاملون معه في مرتبة واحدة ليس هناك يد عليا وليس هناك يد سفلى، فيكون تحويل المال إلى العروض أشرف للأمة من أن يكون هناك يد عليا ويد سفلى، وبهذا ينتهي جوابي).

نعود إلى بحثنا في زكاة عروض التجارة .. والذين قالوا بالوجوب اعتمدوا على ما يأتي:

1. الأدلة العامة مثل: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) و (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ)، ومثل الحديث: (اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا) وغيرها .. وكل تلك النصوص دعوة إلى الإنفاق العام، ولا يجوز تخصيصها
بنصوص لا تصح للاستدلال بها على إيجاب زكاة (عروض التجارة). بل لا بد من قرينةٍ وتخصيصٍ من السنن الصحيحة، وإلا كان ذلك تكليفاً للناس بما لم يُكلفْهم به الله، واعتداءً على أموالهم التي عصمها الله.

2. اعتمد الموجبون على أحاديث وآثار، خصَّصوا بها عموم النصوص المذكورة في الفقرة السابقة، ووظفوها في إيجاب زكاة عروض التجارة مثل: حديث جابر بن سمرة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بأن نخرج الصدقة مما نُعد للبيع) وهو ضعيف، وحديث (في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البَزِّ صدقته) وهو ضعيف، أيضا، وعلى فرض صحته، فقد جاء برواية وفي (البُرِّ) وتعني (القمح)، واشتهر بلفظة (البَزِّ)، وتعني (الثياب أو متاع البيت من الثياب ونحوها)، فتفسيره بالثياب هو المناسب للمقام وإلا فمتاع البيت لا زكاة عليه اتفاقا.

ولما جاء الحديث بروايتين مختلفتين (البُرُّ و البَزُّ)، سقط الاستدلال بالنص، لتطرق الاحتمال إليه، حسب القاعدة الأصولية المعروفة (إذا تطرق الاحتمال، سقط الاستدلال).

ومن الأدلة الأخرى التي سيقت، قول ابن عمر: (ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة)، وقد أخرجه الإمام الشافعي في “الأم” بسند صحيح. والأثر موقوف على ابن عمر رضي الله عنه، ومع كونه موقوفا غير مرفوع، فإنّه ليس فيه بيان نصاب زكاتها ولا ما يجب إخراجه منها، فيمكن حمله على الصدقة المطلقة، غير الواجبة، ويدخل حينئذ بمنطوقه في عموم النصوص الآمرة بالإنفاق، بشكلٍ عام، كالتي مرت قبلاً، ونؤكد ثانية إنّ الأثر يصح موقوفا فقط فلا احتجاج فيه.

وحديث بلال بن الحارث المزني: (أنّ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخَذَ من معادن القَبليّة الصدقة). وقد ضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل.

وقول عمر لحماس: (أدِّ زكاة مالك، فقال: مالي إلاَّ جِعابٌ وأُدُم فقال: قوِّمها وأدِّ زكاتها). كذلك ضعفه الشيخ في المصدر المذكور.

ونخلص إلى القول إلى أنّ تخصيص النصوص العامة بمثل هذه النصوص لا يجوز، لأنّه اعتداء على أموال الناس بغير دليل صحيح، من جهة،
ومخالفة للقاعدة القوية وهي (البراءة الأصلية)، من جهة أخرى.

أما الأمر الأول، فمخالفة قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ اشْهَد).

والأمر الثاني مخالفة (البراءة الأصلية)، فإنّ ذلك العمل يخالف أصلا أصيلا في الاستدلال العلمي الشرعي، وهو الذي يسميه العلماء(البراءة الأصلية)، وأبسط وأوضح تعريف للبراءة الأصلية؛ (هي خلوّ الذمّة عن الاشتغال بالحُكم إلى أن يدلّ الدليل). ومثل هذه القاعدة ليس من السهل نقضها، إلا بدليل أقوى منها، لأنّها تعتبر من أقوى الأدلة في الدين.

ومما يؤكد أنّ أصل مسألة إيجاب الزكاة في عروض التجارة، لم يثبت في السنة الصحيحة، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وسع التفصيل في أحكام كل مال زكوي؛ فبين النصاب والحول والنسبة وو… فلا يعقل أن لا يأتي التفصيلُ نفسُه في أمرٍ كعروض التجارة، مع أنَّ انغماسَ الناسِ بها أكثر من انغماسهم في الأموال الزكوية الأخرى.

3. النظر في المسألة من منظار عقلي اجتماعي إنساني، وتغليب جانب مصلحة الفقير، غير مقبول لأنّ فيه استدراك على الشارع الحكيم العليم! .. وليست عقولنا ونظراتنا أحكم أو أعلم أو أرحم من الله بالفقراء من عباده .. يقول الشيخ الألباني، في تمام المنة، معلقا على هذا الزعم: (فائدة هامة: قد يدعي بعضهم أنّ القول بعدم وجوب زكاة عروض التجارة فيه إضاعة لحق الفقراء والمساكين في أموال الأغنياء والمثرين. والجواب من وجهين:

الأول: أنّ الأمر كله بيد الله تعالى فليس لأحد أن يشرع شيئا من عنده بغير إذن من الله عز وجل {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ألا ترى أنّهم أجمعوا على أنّه لا زكاة على الخضروات على اختلاف كثير بينهم مذكور عند المصنف وغيره واتفقوا على أنّه لا زكاة على القصب والحشيش والحطب مهما بلغت قيمتها فما كان جوابهم عن هذا كان الجواب عن تلك الدعوى.

والآخر: أنّ تلك الدعوى قائمة على قصر النظر في حكمة فرض الزكاة وأنّها لفائدة الفقراء فقط، والأمر على خلافه كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ …} الآية.

فإذا كان الأمر كذلك ووسعنا النظر في الحكمة قليلا، وجدنا أنّ الدعوى المذكورة باطلة، لأنّ طرحَ الأغنياءِ أموالَهم ومُتاجَرَتَهم بها أنفع للمجتمع، وفيه الفقراء، من كنزها، ولو أخرجوا زكاتها، ولعل هذا يدركه المتخصِّصون في علم الاقتصاد أكثر من غيرهم والله ولي التوفيق).

4. لمَّا لم يكُن في المسألة نصوص صحيحة صريحة، فقد أخضعها الموجبون للأقيسة العقلية، والقاعدة أنّ العبادات لا تقبل القياس. وكل أمر عبادي لم يثبت فيه الدليل، فالحكم فيه لما يسمى (البراءة الأصلية) وقد مر التفصيل فيها.

ولقد جاءت عن بعض السلف أقوال تؤكد البراءة مثل ما قاله ابن جريج، قال لي عطاء: (لا صدقة في لؤلؤ ولا زبرجد ولا ياقوت ولا فصوص ولا عرض ولا شيء لا يدار [أي لا يتاجر به] وإن كان شيء من ذلك ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع). فإنّه لم يذكر تقويما ولا نصابا ولا حولا، ففيه إبطال لادعاء بعضهم الإجماع على وجوب الزكاة في قيمة عروض التجارة.

ويعلق الشيخ الألباني على دعوى الإجماع في زكاة عروض التجارة، في معرض الرد على سيد سابق، في (تمام المنة، في التعليق على فقه السنة)، قائلا: (وجملة القول أنّ المسألة لا يصح ادعاء الإجماع فيها لهذه الآثار وغيرها مما ذكره ابن حزم في “المحلى”، الأمر الذي يذكرنا بقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: [من ادعى الإجماع فهو كاذب، وما يدريه لعلهم اختلفوا]، وصدق، جزاه الله خيرا، فكم من مسالة ادُّعِيَ فيها الإجماع، ثم تبين أنّها من مسائل الخلاف. وقد ذكرنا أمثلة منها في بعض مؤلفاتنا مثل “أحكام الجنائز” و “آداب الزفاف” وغيرها).

وجاء في كتاب الأموال لأبي عبيد، أنّ عطاء بن رباح سئل: (تاجر له مال كثير في أصناف شتى، حضر زكاته، أعليه أن يُقَوِّم متاعه على نحو ما يعلم أنّه ثمنه، فيخرج زكاته؟ قال: لا. ولكن ما كان من ذهب أو فضة أخرج زكاته، وما كان من بيع أخرج منه إذا باعه).

ومن الناحية العقلية الاقتصادية فإنّ الذي أنزل ماله على شكل بضاعة للسوق يتجر بها حرك السوق، وأسهم في نفع وتشغيل أقوام لا يقبلون الحصر، فكيف نلزمه بزكاة رأس المال وهو مال مبذول في السوق ينفع العباد وليس مكنوزا في البنك أو صندوق الحديد..! ونقول لهذا التاجر إذا زاد من أرباحك ما حال عليه الحول وهو يبلغ نصابا فزكه، ونكون قد أخذنا منه الزكاة مرتين؛ مرة عن رأس المال، وأخرى عما بلغ نصابا من ربحه وفاض عن إنفاقه، وهذا ليس من الدين!

5. أورد الموجبون بعض الأدلة الصحيحة، لكنّهم تعسفوا في استدلالهم بها وصرفوها عن حقيقتها، مثل: قول النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن قيس بن أبي غرزة: (يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ). والحديث صحيح، لكنّ الصدقة المأمور بها هي صدقة طوعية عامة، وليست الزكاة الواجبة التي لها تعاليمها وضوابطها ومقاديرها.

واحتجوا بالأثر الآتي: (إنّ بعض التُّجار قد جاءوا من الشام إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ومعهم خيل للبيع للتجارة، فقالوا له: يا أمير المؤمنين! خُذ منّا زكاتها. فقال، رضي الله عنه،: إِنّه لم يفعل ذلك صاحباي (النبي عليه السلام، وأبو بكر رضي الله عنه) من قبلي. فألحُّوا مُصِرِّين، وألحّ هو كذلك، وكان في المجلس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! خُذها منهم على أنّها صدقة من الصدقات، فأخَذَها فطابت قلوبهم).

والحديث في “مسند الإِمام أحمد”، وهو صحيح. وواضح من الحوار أنّ الخليفة رفض أخذ زكاةٍ واجبةٍ عنها. ولما ألحُّوا وألحَّ عمر، تدخل عليٌ رضي الله عنه وقال: (يا أمير المؤمنين! خُذها منهم على أنّها صدقة من الصدقات)، وهل يعني كلام عليٍ رضي الله عنه إلا تكْيّيفاً فقهيا لذلك الأخذ، على أنّه صدقة طوعية؟ ومعلوم أنّ الخيل مستثناة من زكاة الحيوان بالنص.

لقد توخيت الإيجاز ما استطعت، لأبقى منسجما مع وعدي في العنوان. ولعلي أقول هذه زبدة الموضوع، ولكن ما زال فيه زيادةٌ لمستزيد. ومن شاء الاستزادة، فأنصح بالمُحَلّى، لابن حزم، وهو الأوسع. وفي (الموسوعة الفقهية الميسرة، لحسين العوايشة)، وكذلك في كتاب (تمام المنة في التعليق على فقه السنة) للشيخ الألباني، تفصيلٌ وتأصيلٌ، غيرٌ مسبوقَيْن، أرجو أن ينفع الله بها … والله أعلم