النذر في العبادات شائع جداً بين المسلمين، ومع هذا الشيوع فإنّ التعامل مع هذه المسألة الشرعية غير صحيح عند الأكثرين، ولا يتفق مع فهم النصوص فهما علمياً مؤصلاً. ومما ساعد على هذا الانفصام بين الحكم الشرعي الصحيح والتطبيق أنّ مسألة النذر صارت في نظر الكثيرين من العوائد والعرف، فيحكمها مداخلات الناس فيما بينهم أكثر من التحقيق العلمي..! والجهل العام أصل المشكلة .. هذه السطور تسعى إلى إعادة الأمر إلى نصابه الشرعي، في مسألة النذر، إن شاء الله.
إنّ البدء بالموضوع بالطريقة المعتادة (التقليدية) وهي البدء بالتعريفات اللغوية، والاصطلاحية، ثم الانتقال إلى المشروعية (الحكم)، لا أجده منطقياً هنا، لأنّ العلماء اختلفوا منذ البداية على تعريف النذر، وحكم النذر في الإسلام، وسبب ذلك أنّ النظر في الأدلة يوهم بوجود التناقض. وهذا ما سبب الاختلاف. وقد عبر الخطابي عن حيرة العلماء بشأن النذر بالعبارة الآتية منقولة عنه من نيل الأوطار: (قَالَ الْخَطَّابِيِّ فِي الْإِعْلَامِ: هَذَا بَابٌ مِنْ الْعِلْمِ غَرِيبٌ وَهُوَ أَنْ يُنْهَى عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ، حَتَّى إذَا فُعِلَ كَانَ وَاجِبًا).
ووجدت، باجتهادي أنّ البديل جعل استعراض الأدلة، ومناقشتها للتأليف بينها، مدخلاً للموضوع تمهيداً للخروج بالتعريف الدقيق للنذر، وحكمه الشرعي، وباقي أحكامه، وفق الأدلة المتآلفة فإلى ذلك، بدءاً باستعراض الأدلة:
قوله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا). (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ).
. (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَنْذُرُوا فَإِنَّ النَّذْرَ لاَ يُغْنِى مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ).
. وعن عبد الله بن عمر (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال إنّه لا يأتي بخير إنّما يستخرج به من البخيل).
. حديث عائشة مرفوعاً: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ).
ولعل القاريء يجد لدى قراءة النصوص المذكورة، وللوهلة الأولى تناقضاً واضحاً بين الآيات الثلاث والأحاديث النبوية، وحاشا أن يكون ذلك، لكن المشكلة في فهمنا لها، فكيف ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر نهياً صريحاً، ويذم النذر بقوله إنّه لا يأتي بخير .. وتأتي الآيات الثلات لتحض عليه وتثني على فاعليه..؟ ثم يأمر النبي عليه الصلاة والسلام الناذر أن يَبَرَّ بنذره ما دام طاعةً..! ولا يمكن الجمع بين هذه النصوص والتأليف بين معانيها إلا بالفهم الآتي:
إنّ لكلمة النذر معنيين، هما مفتاح فهم موضوع النذر برمته، والأهم دفع التعارض والتناقض الموجود وهماً بين نصوص الوحيين:
المعنى الأول: وهو الذي تلتقي عليه كل كتب الفقه، ومعظم الفقهاء، وإليكموه من الموسوعة الفقهية: (النذر لغة هو النحب، وهو ما ينذره الإنسان فيجعله على نفسه نحبا واجبا، يقال نذرَ على نفسه لله كذا، ينذرُ، وينذرُ، نذراً ونذوراً، كما يقال أنذرُ وأنذرُ نذراً، إذا أوجبت على نفسك شيئا تبرعا، من عبادة أو صدقة، أو غير ذلك. والنذر اصطلاحا إلزام مكلفٍ مختارٍ نفسَه لله تعالى ،بالقول ، شيئاً غير لازمٍ عليه بأصل الشرع).
أما المعنى الثاني، وهو عندي الأهم، فسيأتي فيما بعد، بفقرة مستقلة وشرح طويل.
وبعد أن اتفق العلماء على التعريف الأول، المذكور آنفاً، فإنّهم اختلفوا حول الحكم، فمن قائل بالمشروعية ومن قائل بالندب، ومن قائل بالكراهة، ومن قائل بالتحريم. وسبب هذا الاختلاف التعارض المتوهم بين الآيات والأحاديث السابقة.
وتلخص مذاهب الأئمة بالآتي:
(ذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَنُقِلَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّذْرَ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا عَنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَزَمَ الْحَنَابِلَةُ بِالْكَرَاهَةِ). ونقل صاحب النيل عن القرطبي:
(وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ بِحَمْلِ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ النَّهْيِ عَلَى نَذْرِ الْمُجَازَاةِ فَقَالَ: هَذَا النَّهْيُ مَحَلُّهُ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ فِعْلَ الْقُرْبَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى حُصُولِ الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ لَهُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا صَدَرَ مِنْهُ بَلْ سَلَكَ فِيهَا مَسْلَكَ الْمُعَاوَضَةِ…).
ولحل إشكال التناقض اضطر بعض العلماء إلى القول بأنّ النهي على الكراهة وليس على التحريم. يقول ابن قدامة في المغني: (وَهَذَا نَهْيُ كَرَاهَةٍ، لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَا مَدَحَ الْمُوفِينَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ أَشَدُّ مِنْ طَاعَتِهِمْ فِي وَفَائِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّذْرَ لَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا، لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفَاضِلُ أَصْحَابِهِ).
واضطروا أيضا إلى جعل النذر أنواعاً: (كنذر المجازاة أو العوض، ونذر اللجاج، ونذر التبرر، وغيرها…). وكل هذه الأسماء حصلت بالاستنتاج والاستقراء ولم تأت بنص .. وقد بالغ بعض الفقهاء في التقسيم فعدوا في النذر سبعة أقسام كلها اجتهادية.
وإلى محاولة جمعٍ بين النصوص موفقٍ، إن شاء الله ويسر، للخروج بحكم واضح في النذر.
لا شك أنّ صورة النذر الشائعة بين المسلمين هي ما أسماه الفقهاء: (نذر المعاوضة أو نذر المجازاة) .. وكما مر فإنّ فيه من سوء الأدب مع الله، في إشتراط العبادة، وفعل الخير، مقابل حاجة يريدها العبد من ربه، وهذا ما انصب عليه معنى الحديث النبوي المذكور برواياته، من النهي عن النذر، وذمه. ولا بد أن نُبقي هذا النهي والذم على حقيقته ولا ننزله إلى مرتبة أقل كالكراهة. كذلك لا نخترع صوراً من النذر غير موجودة واقعاً بين الناس لنَخرج من مصادمة النصوص، كالقول: (بنذر التبرر) وهو أن يقول العبد: نذرت أن أصوم لله شهراً، دون مقابل، وقالوا إنّ هذا هو النذر الذي أثنىَ الله عليه وعلى أهله في الآيات المذكورة، وبذلك أزالوا التعارض بين الحديث والآيات بزعمهم .. وقد أخذوا التسمية من قوله تعالى في سورة الإنسان: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَاسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا).
وحملوا كل الآيات على هذا المعنى .. ومرة أخرى أقول ليست هذه الصورة من النذر (نذر التبرر) المفترضة هي الشائعة والمعروفة بين الناس، وقل أن تجد فيهم ناذراً، يقصد هذه الصورة .. ولدى التدقيق نرى أنّه حتى هذه الصورة المفترضة من النذر ينالها الذم النبوي، بل والنهي أيضاً. لأنّ المسلم يوجب على نفسه ما لم يوجبه عليه الله، وقد يعجز عن الوفاء وكثيراً ما يحدث ذلك، ويكون المسلم بذلك قد رغب عن قبول صدقة الله وعافيته ورحمته، في أنّه تبارك اسمه، لم يكلف عباده ما لا يطيقون، رحمة بهم .. ومن أراد زيادة التقرب بالطاعة، فباب النفل والتطوع مفتوح
ومشروع، وليس فيه أي شكل من أشكال الإلزام وتكليف النفس بإيجاب ما لم يوجبه الله .. وجميل أن نتذكر يسر الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم: (الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر) بل له أن يفطر في أية لحظة من نهار صومه ولا قضاء عليه.
والذي يستبدل اليسر بالعسر، والتطوع بالإلزام، ألا يكون مشدداً على نفسه مخالفاً يسر الإسلام فيستحق اللوم من نبيه، والنهي عن هذا الفعل. وإنّي لأرى رأيا مستنبطا من قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ) رواه البخاري، أنّ إيجاب الوفاء على الناذر ليس تعظيما لشأن النذر، ولا ثناءً على الناذر، إنّما هو عقوبةٌ للناذر الذي لم يقبل عافية الله كما سبق، فأُلْزِمَ شرعاً بما ألزَم به نفسه اختياراً. ويؤيد ذلك أنّ كل الواجبات الشرعية تسقط عن الإنسان بالموت، ولا يلحقه بعد موته أي تكليف أو إيجاب إلا الوفاء بنذر أوجبه عل نفسه .. لماذا؟ هل لأنّ النذر أعظم مما أوجبه الله؟ لا، ولكن الله يسقط عن عباده ما أوجبه عليهم بالموت، رحمة بهم وتخفيفاً عنهم، أما النذر فلا يسقط لأنّه ليس من تكليف الله للعبد، بل هو من تكليف العبد نفسه، فلْيَتحملْ المسؤولية ولْيَذُقْ وبال تنطُّعه … وهذا فهمٌ قد يجده بعض الناس غريباً، لكنّه يبقى اجتهاداً بين الأجر والأجرين إن شاء الله.
والآن ما هي صورة النذر التي يثني الله بها على عباده في قوله (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)، (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ)، (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) في الآيات السابق ذكرها؟ وهنا نصل إلى المعنى الثاني للنذر، وهو الأهم، والذي أجلنا الحديث فيه، في البداية.
إنّ الإنسان إذا قال كلمة التوحيد، مخلصاً بها قلبه، وصار مؤمناً، يكون قد ألزم نفسه (وفق المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة النذر) بكل الواجبات الدينية التي يحتمها الإيمان، وصارت بمعنى النذورِ الواجبِ الوفاءُ بها، وهذا هو المراد من قول الله تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) ثناءً على المؤمنين القائمين بما أوجب الله عليهم .. ومما يؤكد هذا التوجه، قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). ففي البخاري وغيره عن ثابت، عن أنس قال: (قَالَ غَابَ عَمِّى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِى قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ – يَعْنِى أَصْحَابَهُ – وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ» – يَعْنِى الْمُشْرِكِينَ – ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الْجَنَّةَ، وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّى أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ).
ولا شك أنّ معنى (النحب) العهد والنذر، أما الموت فهو ليس أصلا في المعنى، لكن يستعمل لأنّ المتوفى يعتبر قد قضى ما عليه. ويُستبعد أن يكون الموت من معاني النحب الأصلية للحديث الآتي: (من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه، فلينظر إلى طلحة).
والحديث جاء بألفاظ متعددة وزيادات، والشيخ الألباني يقول في السلسلة الصحيحة إنّه يرقى بتعدد طرقه إلى الصحة. فمعنى قضاء النحب هنا، وفاء العهد والنذر.
ومن هذا المنطلق يكون وصف الرجال من المؤمنين بـ (قَضَى نَحْبَهُ) أي أدى واجباته تجاه ربه ودينه وأمته … فمنهم من انتهت فرصته في الاستمرار على الوفاء بعهد الله بموته، فكان حظياً بأجرِ ما قدم حياً، وأجرِ النية التي مات عليها، وهي البقاء على العهد واستمرار العمل .. والذي ينتظر ما زال على الطريق سائراً، ولواجباته مؤدياً حتى يأتيه اليقين.
واقرؤوا الآيات السابقة ثانية على ضوء هذا الفهم وستجدون أن لا تعارض بين الأحاديث والآيات والحمد لله .. وبهذا العرض نكون قد غطينا فقرتين أساسيتين من البحث هما (التعريف، والمشروعية).
بم يكون النذر؟
لا يكون النذر إلا في طاعة، ولا ينعقد إن كان في معصية لحديث عائشة رضي الله عنها: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ).
ومع أنّ نذر المعصية لا ينعقد ولا يجب الوفاء به ولكن تجب فيه كفارة اليمين على الراجح لحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ) وفي حديث آخر: (لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم). وفي سنن النسائي: عن عمران بن حصين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (النَّذْرُ نَذْرَانِ: فَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي طَاعَةٍ فَذَلِكَ لِلَّهِ فِيهِ الْوَفَاءُ وَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي مَعْصِيَةٍ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ وَلَا وَفَاء فِيهِ وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ). ولا يكون النذر إلا فيما يتقرب إلى الله به لحديث: (إنّما النذر ما ابتغي به وجه الله).
وكل ما قد يداخل النذر من شوبِ شرك، أو التقربِ لغير الله بغير ما شرع، فيجب الاحتراز منه، والابتعاد عنه. ولو وجد شيء من ذلك لسقط الوفاء بالنذر، يؤخذ ذلك من الحديث الآتي: (عَن ثَابت بن الضَّحَّاك قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟) قَالُوا: لَا قَالَ: (فَهَلْ كَانَ فِيهِ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟) قَالُوا: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أوف بِنَذْرِك فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ)).
كذلك، فإنّ من النذور التي تقع من الناس ما لا يكون قربة إلى الله، وفي الوقت نفسه، هو في شيء مباح، فما حكم ذلك؟ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ: (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَدْرَكَ شَيْخًا يَمْشِى بَيْنَ ابْنَيْهِ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (مَا شَأْنُ هَذَا). قَالَ ابْنَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ. فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (ارْكَبْ أَيُّهَا الشَّيْخُ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنْكَ وَعَنْ نَذْرِكَ)).
فإنّ هذا النذر لا ينعقد، وبما أنّه لا ينعقد فلا وفاء فيه ولا كفارة بتركه والدليل: (عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر برجل بمكة وهو قائم في الشمس فقال: (ما هذا) قالوا: نذر أن يصوم ولا يستظل إلى الليل ولا يتكلم ولا يزال قائما قال: (ليتكلمْ وليستظلْ وليجلسْ وليتمَّ صومه)).
والشاهد في الحديثين السابقين أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بترك العمل وهو النذر ولم يوجه إلى أمر الكفارة. والنبي عليه الصلاة والسلام لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة.
وقد أشكل على بعض الناس حديث في أبي داود: (أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ قَالَ: (أَوْفِي بِنَذْرِكِ)). وكان ذلك لدى عودة النبي عليه الصلاة والسلام من بعض مغازيه .. فأخذوا من هذا الحديث أنّ الوفاء بالنذر المباح واجب. وأحسن ما قيل في توجيه الحديث أنّ إباحة الدف لتلك المرأة، وهو غير مباح إلا في العيد والعرس، ألحق بهذين لأنّ الفرح بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلامته، إن لم يكن كفرحة العيد والعرس فهو أكبر. وبذلك يزول الإشكال بأن فرح المرأة كان من باب القربة إلى الله. والله أعلم
من نذر ما لا يطيق:
عن عقبة بن عامر: (أنّ النبى صلى الله عليه وسلم لما بلغه أنّ أخته نذرت أن تحج ماشية قال: (إنّ الله لغنى عن نذرها، مرها فلتركب)) وفي رواية: (لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ). وعن جابر: (أَنَّ رَجُلًا قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: يَا رَسُول الله لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ: (صل هَهُنَا) ثمَّ عَاد فَقَالَ: (صل هَهُنَا) ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: (شَأْنَكَ إِذن)).
وواضح من الحديثين أنّ النبي عليه الصلاة والسلام رخص للناذرين بعدم الوفاء، ولم يأمر بكفارة، ولا يؤخر النبي صلى الله عليه وسلم البيان عن وقت الحاجة. وقد أوجب الكفارة بعضهم استنتاجاً من عموم الحديث: (من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين)، والحديث لا يصح بهذا اللفظ، والحديثان السابقان صريحان في إسقاطها، وهو الأقرب، والله أعلم
كفارة النذر:
جاء في الأحاديث المذكورة آنفاً أنّ: (كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ) وذلك على التفصيل السابق، وما ملخصه أنّ النذر الذي تجب فيه الكفارة هو النذر الذي لا يجب الوفاء فيه، لكونه نذر معصية لحديث: (لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ)، أو نذراً يجب الوفاء به لكونه نذر طاعة، ولكن صاحبه عجز عن الوفاء به للحديث: (إنّما النذر يمين، كفارتها كفارة يمين)، ولحديث: (من نذر نذرا فكفارته كفارة يمين).
عدة الشهر:
من حلف على شيء لا يفعله شهراً جاز له أن يفعله بعد مضي تسع وعشرين يوماً لحديث أم سلمة: (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ لاَ يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا عَلَيْهِنَّ أَوْ رَاحَ فَقِيلَ لَهُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ حَلَفْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا قَالَ: (إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا)).
من مات وعليه نذر:
من مات وعليه نذر وفّى بنذره أولياؤه لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن عبادة حينما استفتاه أنّ أمه ماتت وعليها نذر لم تقضه: (اقْضِهِ عَنْهَا). ولقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ) وهو في صوم النذر.
واختلف العلماء هل يجب على الولي ذلك أم هو على الاستحباب؟ والثاني هو الأرجح عملاً بالعموم من النصوص: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
نذر الصدقة:
عن كعب بن مالك قال: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهْوَ خَيْرٌ لَكَ). قُلْتُ فَإِنِّى أُمْسِكُ سَهْمِى الَّذِى بِخَيْبَرَ). وفي رواية: (قلت يا رسول الله إنّ من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله وإلى رسوله صدقة قال: (لا) قلت: فنصفه. قال: (لا) قلت: فثلثه قال: (نعم) قلت فإنّي سأمسك سهمي من خيبر).
إذا نذر المشرك أو الكافر:
إذا نذر المشرك أو الكافر نذراً حال كفره ولم يكن معصية لزمه الوفاء به بعد إسلامه لحديث عمر في الصحيحين وغيرهما قال: (سَأَلت النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فقلت: كُنْتُ نَذَرْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ: (فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ)) … والحمد لله رب العالمين