الموضوع كتب منذ ما يقارب أربعة عقود أو يزيد، عقب مناقشة مع بعض الإخوة من المدرسين في ثانوية بريدة .. ولم تتفق الآراء، آنئذٍ، لعدم توفر الأدلة .. والموضوع الذي يحمله العنوان يحظى باهتمامٍ كبيرٍ لدى شريحة كبيرة من الإخوة السعوديين، لأنّ أعرافهم وعاداتهم تتقبله، وكتب الفقه تتناوله، فحررت الموضوع كتابة، واجتمعنا وقرأته عليهم .. والذي أثار المناقشة أنّ بعض المحاكم في السعودية تعتبر كفاءة النسب، وتحكم بالتفريق بناء على أقوال بعض الفقهاء وبخاصة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فوجدت من المتعين استعراض الأدلة وتحرير القول في المسألة. سقى الله تلك الأيام، وسلام الله ورحمته على أولئك الصحب .. وبعد؛
فللعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:
1. مذهب يرى كفاءة النسب شرطاً في صحة النكاح يبطل بفقده.
2. مذهب يرى كفاءة النسب ليست شرطاً وإنّما يعتبر في أمر الزواج، ويرونه حقاً من حقوق المرأة وأوليائها، يسقط برضاها أو رضاهم أو رضى البعض. وفي ذلك تفصيل.
3. مذهب يرى أنّ الكفاءة للدين فقط، وأنّه مقدم على ما سواه.
وسنبين أنّ المذهبين الأخيرين يمكن أن يلتقيا على أرضية مشتركة في بعض مواقفهما.
أما أصحاب المذهب الأول فهم الإمام أحمد في إحدى رواياته، ونقل أيضاً عن سفيان الثوري، وهو بطلان النكاح لعدم تحقق الكفاءة. فروي عن الإمام أحمد قوله: (إذا تزوج المولى العربية فُرق بينهما). وقال: (في الرجل يشرب الخمر ما هو بكفء يفرق بينهما).
وقال: (لو كان المتزوج حائكاً فرقت بينهما لقول عمر رضي الله عنه: (لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء)). رواه الخلال بإسناده.
وعن أبي إسحاق الهمذاني قال: (خرج سلمان وجرير في سفر فأقيمت الصلاة فقال جرير لسلمان: تقدم أنت. فقال سلمان: بل أنت تقدم، فإنّكم معشر العرب لا يُتقدم عليكم في صلاتكم، ولا تُنكح نساؤكم).
وتكلم البعض في صحة هذه الأخبار، ولو صحت لما كانت نصاً في الموضوع، لأنّها اجتهادات من صحابة ولم ترفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُرد بنصوص أقوى منها كما سيأتي.
واحتجوا أيضاً بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُنكحوا النساء إلا من الأكفاء، ولا تزوجوهن إلا من الأولياء) رواه الدارقطني، وقال ابن عبد البر عن الحديث ضعيف لا أصل له، ولا يحتج به.
والفريق الثاني من لم يعتبر كفاءة النسب شرطاً، ولا يرى له أصلاً شرعياً، وقد اعتمدوا على النصوص الآتية:
. قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
. وما صح عن عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ تَبَنَّى سَالِمًا، وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ – وَهْوَ مَوْلًى لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ).
. وما صح من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد مولاه، فنكحها بأمره.
. زواج ضباعة بنت الزبير، وهي هاشمية، من المقداد بن الأسود، وهو ابن عمرو الكندي، ونسب إلى الأسود بن عبد يغوث الزهري، لكونه تبناه. والقصة في البخاري.
. ومثل ذلك تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، من ابنة عمته زينب بنت جحش، والفارق الطبقي بينهما غير خافٍ.
. وعن حنظلة قال: رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف تحت بلال.
. ويروى عن ابن مسعود قوله لأخته: (أنشدك الله لا تتزوجي إلا مسلماً، وإن كان أحمر رومياً، أو أسود حبشياً).
وقد أخرج مسلم في صحيحه: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ).
ونفهم من هذا الحديث، مع استصحاب مفهوم النصوص السابقة، أنّ الشريف يستحب له أن يتزوج بالنسيبة، إلا إن كان الخيار بين نسيبة غير دَيِّنَةٍ، وغير نسيبة دينة، فتُقدم ذات الدين. وهكذا في كل الصفات التي وردت في الحديث.
وعبارة (تَرِبَتْ يَدَاكَ) تؤكد أنّ اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء. ومن أصرح الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لبريرة بعد أن أُعتقت وكانت تحت عبد: (لو راجعتيه؟ قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: إنّما أنا شافع قالت: لا حاجة لي فيه). أخرجه البخاري. ومراجعتها له في ابتداء النكاح فإنّه قد انفسخ نكاحها باختيارها، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في أن تنكح عبداً، إلا والنكاح صحيح شرعيا.
وتجدر الإشارة أنّ المرأة لو اعترضت على كفاءة نسب الزوج قبل الوطء، يفسخ العقد بينهما فسخاً، أما بعده فلا، وإن طلبت ذلك، يكون الخلع، لأنّ الوطء علامة الرضا، وما دامت رضيت ابتداءً، فليس لها أن ترفض بعد ذلك. ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لبريرة: (إن قربك فلا خيار لك). وهذه الرواية ضعيفة كما قال الشيخ الألباني في الإرواء وضعيف أبي داود وغيرهما.
لكنّ الحكم بذلك يصح لرواية أخرى صحيحة؛ روى نافع عن ابن عمر: (أنّ لها الخيار ما لم يمسها) رواه مالك، وصححه الألباني.
وأصحاب هذا المذهب ممن جزموا بأنّ اعتبار الكفاءة مختص بالدين هم مالك، ونقل ذلك عن ابن عمر وابن مسعود، ومن التابعين محمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز. ونقل عن الشافعي أنّه قال: (الكفاءة في الدين) وذلك في أحد أقواله .. ولا يخفى أنّ النصوص السابقة في صحتها وصراحتها تنفي أصل اعتبار كفاءة النسب.
وتوسط الفريق الثالث، ويمثل موقفهم الشافعي في أحد أقواله: (ليس نكاح غير الأكفاء حراماً، فأراد به النكاح، وإنّما هو تقصير بالمرأة والأولياء، وإذا رضوا صح ويكون حقاً لهم تركوه).
وفي المسألة تفصيل بين الفقهاء حول اختلاف الأولياء واتفاقهم، وعن حكم النكاح عند ذلك، وهل مخالفة واحد فقط تفسخ النكاح؟ في ذلك تفصيل ليس هذا محله .. والجمهور مع هذا المذهب إلا أنّهم اعتبروا كفاءة النسب ولم يجعلوها شرطاً كما ذهب الفريق الأول. وموقف الجمهور ليس واحداً بل فيه تفصيل.
فيرى أبو حنيفة مثلاً (أنّ قريشاً أكفاء بعضهم بعضاً، وأنّ العرب كذلك، وليس أحد من العرب كفؤا لقريش)، كما أنّه ليس أحد من غير العرب كفؤاً للعرب، وهو وجه عند الشافعية. واعتبروا حديثاً أخر وهو (العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض) لكن لا يصح في المعاني السابقة حديث مرفوع.
ورأى بعضهم في الحديث الصحيح: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِى هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِى مِنْ بَنِى هَاشِمٍ) متعلقاً لقول أنّ غير قريش من العرب لا يكافئوها، وغير بني هاشم لا يكافئهم، وعضدوا ذلك بالحديث: (قدموا قريشا ولا تَقدموها) وهذا قول لأحمد وبعض أصحاب الشافعي.
وقال ابن حجر مع صحة الحديث المذكور إلا أنّ الاحتجاج به هنا غير وجيه. ويقول ابن حجر لا يثبت في اعتبار كفاءة النسب حديث.
مما تقدم يتضح أنّ موقف الفريق الأول أضعف المواقف الثلاثة، لعدم تمسكهم بنصٍ تنهض به الحجة فضلاً عن ضعف نصوصهم أمام نصوص الآخرين.
ويمكن الجمع بين موقفي الفريقين الآخرين بأنّ الفريق الثالث يمكن أن يرد على أدلة الفريق الثاني (زواج بضاعة، وزينب) بأنّ اعتبار كفاءة النسب وارد، ولكنّه سقط برضى الأعلى بذلك .. لكن تبقى أدلة الفريق الثاني في موضوع استئمار المرأة واجبارها والحق الذي أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة في أن ترى في نفسها، دليلا على أنّ كفاءة النسب معتبرة كحق للمرأة ولأوليائها، ولو أسقطوه راضين لسقط، شأنه شأن الحقوق الأخرى.
وهذا ما يشير إليه الحديث الصحيح عن عبد الله بن بريدة عن عائشة: (أنّ فتاة دخلت عليها فقالت إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء).
ولقد ضعف الشيخ الألباني الحديث برهة لعلة الانقطاع، لأنّ عبد الله بن بريدة رضي الله عنه لم يسمع من عائشة رضي الله عنها، وذلك في كتابه (نقد نصوص حديثية)، لكنّه تراجع عن ذلك وذكر ذلك التراجع في
سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (7/1009). يقول في الموضع المذكور عن الحديث: (فإنّ عبد الله بن بريدة ثقة من رجال الشيخين، وقد أعل بما لا يقدح، فقال الدارقطني في “سننه” (3/233) – وتبعه البيهقي (7/118) – في حديث آخر لعبد الله بن بريدة [لم يسمع من عائشة شيئاً!]. كذا قالا! وقد كنت تبعتهما برهة من الدهر في إعلال الحديث المشار بالانقطاع ، في رسالتي “نقد نصوص حديثية” (ص 45) ، والآن؛ فقد رجعت عنه ؛ لأنّي تبينت أنّ النفي المذكور لا يوجد ما يؤيده، بل هو مخالف لما استقر عليه الأمر في علم المصطلح أنّ المعاصرة كافية لإثبات الاتصال بشرط السلامة من التدليس، كما حققته مبسطاً في تخريج بعض الأحاديث، وعبد الله بن بريدة لم يرم بشيء من التدليس).
وهو واضح في إسقاط كفاءة النسب برضى المرأة .. والأرضية العامة للموضوع ما رواه البخاري وغيره عن خنساء بنت حزام الأنصارية: (أنّ أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها). وعن ابن عباس: (أنّ جارية بكراً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أنّ أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم) وقد صححه الشيخ الألباني.
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين…