في دين الإسلام .. وفي أصل عقيدته مساحة يحتلها (الإيمان بالغيب) .. وقد جعل الله (الإيمان بالغيب) من أولى صفات المؤمنين في سورة البقرة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)، وفي سورة (ق) ذكر مستحقو الجنة التي أزلفها الله للمتقين غير بعيد، وهم (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ). ولا يقوم إيمان، ولا تُؤسس عقيدة من غير استسلام كامل للغيب .. فالإسلام دين عموده الفقري (الإيمان بالغيب).
و(الإيمان بالغيب) امتحانٌ للنفس البشربة، وتهيئةٌ لها للإيمان الصحيح، القائم على الاستسلام لما جاء عن الله ورسوله، المُوصل إلى رضا الرحمن والجنة، المُزحزح عن غضبه والنار .. فوجود الله غيبٌ لا تُدركه الأبصار ولا تُحيط به العقول، إنّما لا تخفى آثار وجوده وقدرته وتصرفه في الكون على كل عاقل ذي بصيرة، غير مكابر .. وأركان الإيمان الستة كلها غيوب .. القيامة والبعث والنشور غيوب، والجنة والنار وما فيهما مما لم تره العيون ولا يُدرك بالعقل غيوب .. وعذاب القبر، وحياة البرزخ غيوب .. فكيف يستقيم الدين لإنسان يُريد أنْ يُقيم تدينه على العقل والواقع والمحسوسات وحدها..؟
والمتربصون بالإسلام، وأهله اليوم، يُدركون أكثر من بعض أبناء الإسلام خطورة (الإيمان بالغيب) على صحة العقيدة والتدين، فراحوا يُمطرون أبناء الإسلام بما يُفسد عليهم إيمانهم بالغيب، وبالنتيجة يضيع دينهم .. وهو عندهم هدف هام ومركزي يخدم كل أهدافهم الأخرى .. ولن يكون ذلك بالمواجهة المباشرة، بل هو اصطياد بشباك من حرير .. فأمة الإسلام تُؤتى اليوم من مأتى خطير، ألا وهو باب تحكيم العقل، والواقع، والنظريات العلمية الكونية، في الدين، وإزاحة أو توهين ثوابت الدين .. وهو إحياء لما اندرس بالأمس البعيد، يوم تسلل إلى عقول المسلمين فكر المعتزلة، وباض في الأمة وفرّخ .. وللتمويه فقد غيّر الاعتزال الجديد ظاهر ملامحه، وقديم لبوسه، وطوّر أسلوب التدخل والطرح، ليظن السُّذج والجهال والنائين عن الوحيين، أنّه شيئ آخر يطل مع مستجدات العصر .. إنّهم المعتزلة الجدد، وقد تسموا بأسماء جديدة مثل: الإصلاحيون، المستنيرون، العلمانيون، الليبراليون، العصرانيون، وغيرها من تسميات وتمويهات.
كل ذلك يُكاد للإسلام وأهله، وفي المسلمين سماعون .. ما يُؤكد ضرورة العودة إلى حقائق وأصول دين الإسلام، وتأكيد وتفعيل الإيمان بالغيب في النفوس ليكون التدين مؤصلاً راسخاً، أمام موجات غزو العقول والقلوب..!
والآيات القرآنية التي تتحدث عن الغيب كثيرة، لكن الذي أريد عرضه في موضوع الإيمان بالغيب، حديث لا ينقضي منه عجبي وهو مما اتفق عليه الشيخان، البخاري ومسلم. قرّب النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمر الإيمان بالغيب من عقول أمته بضرب الأمثال .. وما ذاك إلا لأهميته وخطورته في أمر العقيدة، كما أسلفنا، ولأنّ أمور الغيب مما لا يُدرك بالعقل والحواس فيسهل على العقل البشري جحوده أو التشكيك فيه .. لا سيما أمام عواصف الشك، ومتغيرات الواقع
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ. فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّم!ُ فَقَالَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ، وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئْ:بُ هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي. فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ! قَالَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ)).
وليكن لنا مع الحديث وقفات مبينة:
1. الحديث لم تكن له مناسبة استدعته، وإنّما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم ليُحدّث به أصحابه عقب صلاة الفجر مباشرة، والنفوس والأذهان نشطة، لم تُعافس أمور الدنيا بعد، والشحنة الروحية بعد الصلاة وراء المبعوث رحمة للعالمين لا زالت في شدتها .. ليكون ذلك إشعارا للأمة بمنزلة (الإيمان بالغيب) في دين الإسلام.
2. هل الإيمان (ببقرة تتكلم) ، (وذئب يتحدث) من مستلزمات الإيمان بالله..؟ وهل هي مما يُسأل عنه المؤمن في قبره..؟ وهل تثقل ميزانه يوم القيامة..؟ الجواب قطعاً: لا .. فما وجه ذكر البقرة والذئب في الحديث؟
إنّ القصد أنْ يُبين النبي صلى الله عليه وسلم، باختصار، أنّ كل أمر يأتي المسلمَ عن طريق الوحي قرآناً، أو من رسول الله، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، يجب الإيمان به، وتصديقه، وإنْ كان العقل وإلف الواقع يُنكره..! وأمور الغيب لا تقبل المناقشة العقلية، لكن دور العقل معها، ينتهي في إثبات كونها وحياً أم غير ذلك .. أما التدخل في المضمون فلا ينبغي.
3. ضَرَبَ النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للُمصدّقين بما يأتي عن الله ورسله، وعدم التردد في ذلك، بنفسه وبأبي بكر وعمر .. ليكون صلى الله عليه وسلم وصاحباه في ذلك أسوة وقدوة.
4. ما مغزى الإشارة إلى أنّ أبا بكر وعمر لم يكونا في المجلس..؟ إنّها شهادة من نبي الأمة صلى الله عليه وسلم لهما، وهما غائبان، بالاستسلام المطلق للوحي، والاتباع الكامل لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم دونما تردد أو تلكؤ .. أو إنتظار شهادة العقل لذلك .. ذلك لأنّ اكتفاء النبي عليه السلام بالحديث عن نفسه بأنّه يُصدّق أنّ البقرة والذئب يتكلمان تجعل جاهلاً يقول: طبيعي أنْ يُؤمن نبي بالغيب..! فكان ذِكر الصحابيين الجليلين مُؤكداً أمر القدوة منهما رضي الله عنهما لكل واحد في الأمة إلى يوم يرث الله الأرض وما عليها.
واستكمالا للفائدة، وتثبيتا لأمر القدوة في نفوس الناس، نستحضر موقفين لأبي بكر وعمر هما في السياق نفسه:
لما رجع رسول الله عليه السلام من رحلة الإسراء والمعراج، وحدث بذلك هرع المشركون إلى أبي بكر قائلين: (يا أبا بكر! هل لك في صاحبك ؟! يُخبر أنّه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ورجع في ليلته ؟! فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن كان قاله فقد صدق، وإنّا لنُصدقه فيما هو أبعد من هذا. نُصدقه على خبر السماء).
أما عمر رضي الله عنه فأُعيد إلى الأذهان ما كان من قريب، في موضوع سابق، عن قصتة في تقبيل الحجر الأسود حين قال: (إنّي أعلم أنك حَجَرٌ لا تنفع ولا تضرٌ، ولولا أنّي رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبِّلك؛ ما قبَلتك).
ومن كل ما تقدم نستخلص أنّ دين الإسلام، أساسه المتين وركنه الركين، الإيمان بالغيب .. وأنّ اهتزاز ذاك الإيمان يجعل دين صاحبه غير دين الإسلام الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم..!
5. يحسن إيضاح الحقيقة الآتية المتصلة بموضوع الغيب فنقول: إنّ بيننا وبين أمور الغيب قناة واحدة لا ثاني لها، وهي النص من الوحيين القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، الذي لا يسعنا معه إلا التسليم والتصديق … وكل تعامل مع أمور الغيب خارج إطار نصوص الوحيين، يُوقعنا في أكبر إثم، وأعظم مُحرّم، ألا وهو القول على الله بغير علم .. ويُدخلنا في متاهات الخرافة وتداولها، فلنحذر ذلك … والحمد لله رب العالمين