Skip to main content

الله الله في الصَّحَابَةِ

By الأحد 29 ربيع الأول 1434هـ 10-2-2013ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, عقيدة

أرى خلل الرماد وميضَ جمرٍ
أقول من التعجب ليت شعري

وأخشى أن يكون له ضرامُ
أأيـقاظـاً تـرانا أم نيـامُ

بدأت بهذين البيتين، لمن يحسن قراءة ما بين السطور، وما وراءها، ولا حاجة لأي تعليق.

وأبدأ الموضوع فأقول: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا رجالاً من التاريخ عاشوا في حقبة محددة، نذكرهم بمواقفهم فيُعجب من يُعجب، ويُثني من يُثني، ويسكت من يسكت، ويذم من يذم .. لكنّ لهم موقعاً عقدياً يُوجب على كل مسلم حُبهم، وتوقيرهم، والذب عنهم، ومفاصلة من ينال منهم.

إنّهم في عقيدة المسلم الحق رجال اختارهم الله لصحبة نبيه، وصنعهم على عينه تبارك وتعالى، وأسند إلى نبيه مهمة تربيتهم وتنشئتهم وتأهيلهم، ليقوموا بدورين رئيسين متميزين، الأول: مؤازرة نبيهم في إرساء قواعد الدين الجديد في الأرض، والثاني: تبليغ الوحي الذي بثه النبي عليه السلام فيهم إلى الناس أجمعين من بعده، ولا يكتمون منه شيئا.

ومن أجل ذينك الدورين الخطيرين فقد عدَّلهم الله، في حين أنّ كل من سِواهم من رواة الحديث عدلهم علماء الحديث وعلماء الرجال .. من هنا وضع علماء مصطلح الحديث قاعدة (جهالة الصحابي لا تضر) لأنّ أشخاص الصحابة فوق تعديل البشر ما دام الله عدّلهم .. ويكفي الصحابة أنّ نبيهم جعلهم سياجاً يحفظ الأمة ودينها، ولنقرأ هذا الحديث في مسلم وغيره:

عَن أبي بردة عَن أَبيه قَالَ: (رَفَعَ – يَعْنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم – رَأسه إِلَى السَّمَاء وَكَانَ كثيرا مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ. فَقَالَ: (النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومَ أَتَى السَّمَاءَ مَا توعَدُ، وَأَنا أَمَنةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَنَا أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمتي مَا يُوعَدُون)).

ولكي نعرف للصحابة قدرهم أكثر وأكثر، بل لنعرف من هم حقيقةً، لا بُد من إمعان النظر في آية سورة الفتح:

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).

في الآية أوصاف عدة من الله تبارك وتعالى للصحابة الذين اختارهم لنبيه، وأُريد التأكيد على ملمحين، ولفت نظر القاريء إليهما:

أولهما: تشبيه الصحابة بزرع ينمو وِفق المراحل التي ينمو بها كل زرع حتى يكتمل نموه ويشتد عوده، ويستوي على سوقه، فيكون كأحسن ما يكون زرع .. والذي تعهد هذا الزرع ورباه هو النبي بأمر ربه. والذي يُؤكد أنّ ذاك الجيل صُنع على عين الله، ذِكْرُه في التوراة والإنجيل من قَبل أن يُخلق.

وثاني الأمرين: معنى قوله تعالى: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)، وقد كفانا الإمام مالك رحمه الله ذلك في ما ذكره القرطبي عن أبي عروة الزبيري قال: (كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فَذَكَرُوا عِنْدَهُ رَجُلًا يَنْتَقِصُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَرَأَ مَالِكٌ هَذِهِ الْآيَةَ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) إِلَى أَنْ بَلَغَ قَوْلَهُ: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار)َ فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ فِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ)، فرحم الله مالكاً ورضي عنه ما أدق استنباطه.

واستكمالا للحديث عن الصحابة رضوان الله عليم أجمعين، أُثبت النقاط الآتية:

أولاً: ما معنى عدالة الصحابة التي عدلهم بها الله تبارك وتعالى؟

بعيداً عن المصطلحات أقول: العدالة هي الصدق مع الله ورسوله، والأمانة في النقل عنهما .. ومن ذلك فالصحابة كلهم عدول ثقات، ورواياتهم كلهم مقبولة، مع اختلاف أقدارهم وأعمارهم وأسمائهم .. ومن ردّ رواية من ثبتت له الصحبة فقد رد على الله وحيه، وعلى النبي بلاغه، وما حال من يفعل ذلك إلا أن يبوء بغضب الله .. فالوحي حُفِظ برواية أولئك الذين يمثلون حلقة الوصل الأولى ما بين النبي وما يصدر عنه، والأمة إلى قيام الساعة .. ويتأسّس على تلك الحقيقة أنّ من طعن في ذلك الجيل فقد طعن في الإسلام كله من خلال الطعن برواته..!

وإنّ استهداف الصحابة استهداف للنبي صلى الله عليه وسلم، واستهداف لمن أرسل النبي وأنزل القرآن، واستهداف لدين الإسلام .. ومن سبهم فقد سب الله ورسوله .. ولله در مالك إذ يقول: (أرادوا الرسول فهابوا سبه فسبوا أصحابه).

ثانياً: إنّ عقيدة أهل السنة والجماعة أن يفرقوا بين العدالة والعصمة، بمعنى أنّهم يُثبتون العدالة لكل الصحابة بلا استثناء، حتى لِمن لابس منهم الفتن، لأنّها من عند الله .. ولا يُثبتون لأحد منهم العصمة مهما علا قدره، لأنّهم بشر، ويسري عليهم كل ما يسري على بني البشر من خطأ ووهم ونسيان، إلا في نقلهم عن النبي عليه السلام .. ونُلخص فنقول: إنّ العدالة تُغطي صحة الرواية، والصحابة كلهم عدول ثقات فيما يروون .. والعصمة تُغطي الصحة في الأقوال والأفعال والاجتهاد، ولا أحد معصوم بعد النبي في دين الإسلام .. والذين ينالون من أصحاب رسول الله، ويشككون في عدالتهمم، يُثبتون لأئمتهم حتى المعاصرين منهم، العصمة، وشتان..!


ثالثاً: لمّا كان الصحابة غير معصومين، فقد يقع منهم الخطأ في القول والعمل والاجتهاد، وكل ذلك لا يَمسّ الرواية المبنية على العدالة. وما أصرحها من عبارة..! وما أعظمها من موضوعية..! وما أعدله من منهج..! ما جاء في القاعدة التي أجمع عليها علماء الإسلام: (نحن متعبدون بما روى الصحابي، لا بما رأى أو عمل أو اجتهد). فأعمال وأقوال واجتهادات الصحابة لا تُلزم الأمة إنْ خالفت ما هو أثبت وهو الوحي .. ولقد غلا بعض الناس بِبشر دون الصحابة بكثير، وأهل السنة والجماعة لا يغلون في أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم، وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء..!


رابعاً: وبما أنّهم غير معصومين فقد شجر بينهم بعض الخلاف، وكانت منهم بعض المواقف. وعلماء الأمة مجمعون على عدم جواز الخوض فيما شجر بين الصحابة من اختلاف، لمنزلة الصحابة وسابقتهم في الإسلام، ثم لعدم الاطمئنان لصحة نقل تلك الوقائع بسبب إسقاط أهواء النقلة على الأخبار، ولعل أولئك الأصحاب كانت لهم في مواقفهم اجتهادات وتأويلات يعذرهم بها الله ولم تُنقل إلينا. وما يدرينا لعل بعضهم تاب من تلك المواقف فتاب الله عليه .. يُتوج كل ذلك قول ربنا تبارك وتعالى في سورة البقرة: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

وبعض الناس اليوم ممن لا خَلاق لهم، وممن يملؤ صدورهم كُره الصحابة والحقد عليهم، يُريدون تشكيل المحاكم لمحاكمة الصحابة، وإصدار الأحكام بحقهم. ولا أردُّ على هؤلاء، فحجتهم داحضة، ونواياهم مكشوفة. لكنّي أقول لكل مسلم حق، مبيناً ومحذراً:

إنّ عدم إنزال الصحابة المنزلة التي أنزلهم إياها الله ورسوله، والتشكيك بأشخاصهم ومواقفهم، وتشويه صورتهم المشرقة، مؤامرة ومناورة على الإسلام وأهله .. إذ لا تصح بعد ذلك سنة، ولا يثبت قرآن، ولا يبقى وحي، والمحصلة نسف للدين.


خامساً: لا يكونَنَّ حُسنُ الظن مقتلا لأهله..! فالفاروق عمر رضي الله عنه كان يقول: (لست بالخب ولا الخب يخدعني). إنّنا نعيش عالما فيه النفاق والكذب والتقية .. وما ألصق ما قاله المتنبي بحالنا:

ولما صار ود الناس خباً
وصرت أشك فيمن أصطفيه

جزيت على ابتسام بابتسامِ
لعلمي أنّه بعض الأنامِ

وأنا لا أُريد أن نُشارك أبا الطيب نظرته السوداوية التشاؤمية (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ) والحديث في مسلم، ولكن أُريد الحذر، وألا يُشقينا أو يُردينا حسن الظن ومناورات السياسة التي تستبطن نوازع عقدية .. فقد جرّبنا مبادرات حسن النية، وتناسينا إرث الماضي، وفتحنا القلوب والعقول، فلقينا من كل ذلك ما (لاقى مجير أم عامر) .. وما زادتنا تلك التجارب إلا خبالاً، فلنتعظ ولنحذر.

والموقف من الصحابة مفصل عقدي أساسي، بين أهل السنة والجماعة، وكل الفرق الضالة التي شردت عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، فلا ننساه ولا نهدره ولا نتهاون فيه، ولا نُساوم عليه، ولا نُصانع ولا نُجامل..! ولدينا من الروائز التي نستهدي بها، ما لا تُخطئه عين، ولا يُغفله عقل .. وأختم بكلمات رائعة لصاحب العقيدة الطحاوية:

(ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولا نُفْرِط في حب أحد منهم. ولا نتبرأ من أحد منهم. ونبغض من يبغضهم. وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان)

والحمد لله رب العالمين.