Skip to main content

مَصِيرُ الأَطْفَالِ فِي الآخِرَةِ

By الجمعة 13 شعبان 1437هـ 20-5-2016ممحرم 18, 1441بحوث ومسائل, عقيدة

إنّ موضوع مصير الأطفال، وهم كل من مات قبل البلوغ، في الآخرة بحث عقدي يندرج تحت أصل عظيم هو: عدل الرحمن تبارك وتعالى ... ويمكن أن نختصر الأدلة على ذلك، وما أكثرها، بهذين النصين:

. قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).

. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أربعة يوم القيامة يدلون بحجة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ومن مات في الفترة، فأما الأصم فيقول: يارب جاء الإسلام وما أسمع شيئا. وأما الأحمق فيقول: جاء الإسلام والصبيان يقذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإسلام وما أعقل، وأما الذي مات على الفترة فيقول: يا رب ما أتاني رسولك، فيأخذ مواثيقهم ليطعنه، فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما).

وفي رواية ثانية: (يؤتى بأربعة يوم القيامة؛ بالمولود، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، والشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار: ابرز، فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم، ادخلوا هذه، فيقول من كتب عليه الشقاء: يارب! أين ندخلها ومنها كنا نفر؟ قال: ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا، قال: فيقول تبارك وتعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار).

فالله تبارك وتعالى، بعدله، يعطى العبد فرصته حتى اللحظة الأخيرة، كي يعلم قبل أن يُقضى عليه أنه ليس بمظلوم، وأنه يلقى ما يلقى بما كسبت يداه، ويعفو عن كثير … ذلك هو الشأن يوم القيمة، يقول ربنا: (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ).

وتقوم الحجة على العباد بواسطة الرسول مباشرةً، أو بواسطة غيره ممن يبلغ رسالته، كما بلغها هو قومه، على أن تبلغ الرسالة من هو في سن التكليف .. إذن، شرطا قيام الحجة على الناس هما:

الأول: بلوغ الرسالة والنذارة للمكلف .. ودليل
ذلك
قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). وقوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ).

والثاني: لا تكليف قبل البلوغ، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق).

ومما تقدم يتضح موضوع بحثنا، وهو عدم قيام الحجة على الأطفال، لأنهم ماتوا قبل البلوغ، سن التكيف، سواء كانوا من أبوين مسلمين، أو كافرين. مما يترتب عليه معرفة مصيرهم الأخروي هل هم في جنة أو نار. والأصل في مقاربة مثل هذه الموضوعات الشرعية، تَتَبُّعُ أدلتها من الوحيين، واستيفاء كل الأدلة لتَبَيُّنِ الحُكمِ منها كلها .. ونبدأ مستعينين بالله بالتقسيم التالي:

أولاً: أطفال المسلمين.

سنعدد الأدلة، ثم نناقشها إن شاء الله.

* ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ من شيء).

* وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: (أن رجلا قال له: مات لي ابنان فما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا. فقال: نعم، (صغارهم دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه – أو قال: أبويه – فيأخذ بثوبه – أو قال: بيده – كما آخذ أنا بصنفة ثوبك، فلا يتناهى – أو قال: ينتهي – حتى يدخله الله وإياه الجنة)).

* وفي الحديث: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث -أي: التكليف- إلا لم تمسَّه النار إلا تحلة القسم).

* عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ربي اللاهين، فأعطانيهم. قلت: وما اللاهون؟ قال: ذراري البشر).

* عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطفال المسلمين في جبل في الجنة، يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يدفعونهم إلى آبائهم يوم القيامة). ويشهد لذلك ما في صحيح البخاري عن سمرة بن جندب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتيان، – فذكر حديثا طويلا وفيه، إن الملكين فسراه له، وأنهما جبريل وميكائيل، ومن جملة ما رأى – رجلا طويلا في روضة وحوله ولدان وقالا له: الرجل الطويل في الروضة إبراهيم، والولدان حوله كل مولود مات على الفطرة. فقال رجل. يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين).

* عَنْ قُرَّةَ الْمُزَنِيِّ: (أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتُحِبُّهُ؟) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ. فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَا فَعَلَ ابْنُ فُلَانٍ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمَّا تحب أَلا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ يَنْتَظِرُكَ؟) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِكُلِّنَا؟ قَالَ: (بَلْ لِكُلِّكُمْ)).

* وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله بفضل رحمته إياهم الجنة. قال: يقال لهم: ادخلوا الجنة. فيقولون: حتى يدخل أبوانا أو آباؤنا. . فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم).

* عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ ادْعُ اللهَ لَهُ، فَلَقَدْ دَفَنْتُ ثَلَاثَةً، قَالَ: (دَفَنْتِ ثَلَاثَةً؟) قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: (لَقَدِ احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنَ النَّارِ)).

* عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من صبيان الأنصار فصلى عليه. فقلت: طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا ولم يدركه. فقال: (أو غير ذلك يا عائشة خلق الله عز وجل الجنة وخلق لها أهلا وخلقهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وخلقهم في أصلاب آبائهم)).

* وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ما منكن من امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كان لها حجاباً من النار، فقالت: امرأة منهن يا رسول الله أو اثنين؟ قال: فأعادتها مرتين، ثم قال: واثنين واثنين).

* عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجعك فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد).

والآن إلى مناقشة الأدلة:

1. من المهم جداً،
بين يدي البحث، التمييز التام من خلال استعراض الأدلة بين حال أطفال المسلمين، وأطفال غير المسلمين. فإن الفريق الأول، يحكم مصيرهم قاعدتان: عدل الرحمن، بأنهم غير مكلفين فلاحساب عليهم، يضاف إلى ذلك، إكرام الله لأهلهم، لأنهم مسلمون، فيلحق بهم ذراريهم من الأطفال، دونما امتحان في عرصات القيامة، وفق حديث: (يؤتى بأربعة يوم القيامة؛ بالمولود، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، والشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته…).

أما أطفال الكفار، فتطبق عليهم قاعدة عدل الرحمن نفسها، في أنهم غير مكلفين في الدنيا، وبالتالي غير معذبين. لكنّ أهلهم في النار خالدون، وليس من العدل إلحاقهم بهم في النار، قبل أن يجتازوا امتحاناً في عرصات القيامة، بسيط في إجراءاته، خطير في نتائجه. وما نتائجه؟ أن يصبح أطفال الكفار فريقين: فريقاً في الجنة، لحسن اختياره، وفريقاً في النار، ملحقاً بأهله، لسوء اختياره.

ونلاحظ الفرق الكبير في المصير القائم على إكرام أهل الإسلام بإلحاق ذراريهم بهم، حسب الآية التي سنشرحها، أما أهل الكفر فلا كرامة لهم عند الله، ومع ذلك فلا يظلم ذراريهم الذين ماتوا دون سن التكليف، في الدنيا … لكنّ الفريقين يتساوون بالعدل في أنهم لم يعتبروا مكلفين في الدنيا.

وقد يثور في الأذهان سؤال، كيف يمتحن ذراري الكفار، وهم لا يعرفون شيئاً عن الدين الحق، شأنهم شأن المعتوه، ومن مات في الفترة، والشيخ الفاني؟ الجواب، إني قلت قبل قليل، إنه امتحان سهل يتركز في طلب واحد تتجلى فيه طاعة الله. ولنقرأ إحدى روايات حديث (الأربعة):

(…فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار: ابرز، فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم، ادخلوا هذه، فيقول من كتب عليه الشقا: يارب! أين ندخلها ومنها كنا نفر؟ قال: ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا، قال: فيقول تبارك وتعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار).

فهؤلاء الممتحنون يعلمون أنّ الحوار مع ربهم مباشرة، والحقائق تنكشف يوم القيامة حتى للكفار وكل المكذبين، والأصل أن يستجيبوا لأمر الله، ولو كان بدخول النار، لأنّ الله عدل رحيم.

2. مناقشة الآية: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ من شيء) .. التي هي أصل أصيل في موضوع مصير أطفال المسلمين. ولقد اضطربت أقوال بعض العلماء في تفسيرها لأن بعضهم أدخل على فهمها نصوصاً أخرى صحيحة، قيدت عمومها، من مثل حديث (جنازة صبي من الأنصار)، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: (وما يدريك إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب أبنائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم).

ولقد أجاب عن هذا الإشكال بعض العلماء: (وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدَّ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ تُوُفِّيَ صَبِيٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقُلْتُ طُوبَى لَهُ لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا وَلَمْ يُدْرِكْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَا عَائِشَةَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا الْحَدِيثَ قَالَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَلَّهُ نَهَاهَا عَنِ الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ انْتَهَى).

واستشكل بعضهم قوله عليه الصلاة والسلام في أحاديث أخرى: (الله أعلم بما كانوا فاعلين)، وبالتدقيق يعرف الإنسان أن هذه العبارة الأخيرة قيلت في أطفال غير المسلمين. عن أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ)). ولعل المقصود ما سيعملون عند امتحانهم في عرصات القيامة.

كما أشكل على بعضهم عبارة: (يؤتى بأربعة يوم القيامة؛ بالمولود…). فاعتبروه أي مولود دون تدقيق في الأدلة، التي تبين أن الأطفال الذين يمتحنون في عرصات القيامة، هم أبناء غير المسلمين فقط.

ولنقرأ تفسير بعض العلماء للآية الكريمة:

يقول الشوكاني رحمه الله في فتح القدير: (وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ لِتَقَرَّ عَيْنُهُ، وَتَطِيبَ نَفْسُهُ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، فَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَنْ يَتَّصِفُ بِالْإِيمَانِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ وَهُمُ الْبَالِغُونَ دُونَ الصِّغَارِ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَاحِقِينَ بِآبَائِهِمْ فَبِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الذُّرِّيَّةَ تُطْلَقُ عَلَى الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ كَمَا هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، فَيَلْحَقُ بِالْآبَاءِ الْمُؤْمِنِينَ صِغَارُ ذَرِّيَّتِهِمْ وَكِبَارُهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بِإِيمانٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: بِإِيمَانٍ مِنَ الْآبَاءِ).

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: (وهذا من تمام نعيم أهل الجنة، أن ألحق الله بهم ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان أي: الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم، فصارت الذرية تبعا لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون، يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم يبلغوها، جزاء لآبائهم، وزيادة في ثوابهم، ومع ذلك، لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئا).

ويقول الشيخ الألباني رحمه الله في موسوعة العقيدة: («ألحقنا بهم ذريتهم»، هذا ليس فيه إشكال أبداً، أن أطفال المؤمنين ملحقون بآبائهم، حتى في أشياء لها فضيلة كبيرة جداً جداً، قال عليه السلام: «ما من مسلمَيْن يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث -أي: التكليف- إلا لم تمسه النار إلا تحلة القسم» وليس هذا فقط ليس أنهم لا يدخلون النار، وهم ملحقون بآبائهم، بل يكونون شفعاء لآبائهم).

وجاء عن الإمام أحمد قوله: (لا أحد يشك أنهم في الجنة (أي ذراري المسلمين)، قال: وإنما اختلفوا في أطفال المشركين. وقال أيضا: هو (أي الطفل) يُرَجَّى لأبويه فكيف يشك فيه !! يعني أنه يرجى لدخول أبويه الجنة بسببه، فكيف يشك فيه!).

وجاء في شرح المجتبى للنسائي: (أن أولاد المسلمين في الجنّة، لأن من يكون سببا في حجب النار عن أبويه أولى بأن يُحجَبَ هو، لأنه أصل الرحمة، وسببها، بل جاء التصريح به في الحديث الأخير من الأحاديث الآتية في الباب التالى، ولفظه: “فيقال: ادخلوا الجنّة أنتم وآباؤكم”. واللَّه تعالى أعلم . وفي هذه الأحاديث دليل على كون أطفال المسلمين في الجنة. وقد نقل جماعة من العلماء إجماع المسلمين على ذلك. وقال الماوردي: (أما أولاد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فالإجماع محقق في الأطفال على أنهم بالجنة. وأما أطفال من سواهم من المسلمين فجماهير العلماء على القطع لهم بالجنة. قالوا: ويدل عليه قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} وتوقف بعض المتكلمين منهم ، وأشار أنه لا يقطع لهم كالمكلفين، وهو خطأ).

وفي فتح الباري لابن حجر: (وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْآبَاءِ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ لِلْأَبْنَاءِ وَلَا يَرْحَمُ الْأَبْنَاءَ قَالَهُ الْمُهَلَّبُ وَكَوْنُ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَوَقَفَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ…).

ثانياً:
أطفال الكفار.

أولاد الكفار، إذا ماتوا قبل سن التكليف، فهؤلاء لا يحكم لهم بجنة أو بنار، لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا
(وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمَوْلُودِ التَّكْلِيفِ وَيَلْزَمُهُ قَوْلُ الرَّسُولِ حَتَّى يَبْلُغَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ). وصحت أحاديثُ عن مصير أطفال الكفار، وقد اختلف فيهم العلماء على ثلاثة مذاهب:

1.أنهم وآباؤهم في النار.

وهذا القول ليس بصحيح لأن دليله عند من قال به، حديث منكر، وهو عند بعض العلماء موضوع. وهو (أن خديجة رضي الله عنها، سألت الرسول عليه السلام عن أولادها من زوجها الأول الذي مات في الجاهلية وماتوا ، قال لها «إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار»). يقول الألباني إن هذا حديث غير صحيح. وهو منكر لمخالفته في المعنى أحاديث صحيحة.

وعَنِ بن عَبَّاسٍ قَالَ: (كُنْتُ أَقُولُ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ هُمْ مِنْهُمْ حَتَّى حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيتُهُ فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ هُوَ خَلَقَهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) فَأَمْسَكْتُ عَنْ قَوْلِي).

كما يدل على ذلك، دلالة قوية، حديث: (سألت ربي اللاهين، فأعطانيهم. قلت: وما اللاهون؟ قال: ذراري البشر). وفي قوله ذراري البشر إشارة إلى أطفال غير المسلمين، وأنهم في الجنة، بعد امتحانهم في عرصات القيامة، كما سيأتي إن شاء الله.

2. أنهم يمتحنون في عرصات يوم القيامة.

وتأصيل هذا القول على حديث: (يؤتى بأربعة يوم القيامة ؛ بالمولود ، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، والشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار: ابرز، فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم، ادخلوا هذه، فيقول من كتب عليه الشقاء: يارب! أين ندخلها ومنها كنا نفر؟ قال: ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا، قال: فيقول تبارك وتعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار). ولا يمكن تفسير كلمة (المولود) إلا بأنه ذراري الكفار. لأن ذراري المسلمين ملحقون بآبائهم في الجنة
دون امتحان، فضلاً من الله. وقد بينا ذلك بأدلته القاطعة، في فقرة (أطفال المسلمين).

ومن الأدلة أيضا الحديث الآتي: عن أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ)). واستخلص العلماء من عبارة الرسول عليه الصلاة والسلام: (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ)، أنها إشارة إلى امتحانهم، في عرصات القيامة، المشار إليها في حديث (الأربعة…). وما يتمخض عنه من أنهم في جنة أو نار.

3. أن أطفال الكفار في الجنة، وهم خدم أهل الجنة.

وعلى هذا القول أدل صحيحة منها: (أطفال المشركين خدم أهل الجنة)، وهو صحيح بطرقه. ولا بد من الإشارة هنا، جمعاً بين النصوص الصحيحة، أنّ ذراري الكفار الذين فازوا بامتحان (دخول النار في عرصات القيامة)، هم الذين يدخلون الجنة ويصيرون خدما لأهلها. ومن العلماء من قال إنهم المعنيون بقوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا).

ومن الأدلة أيضاً، ما رواه أَنَسٌ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: (سَأَلْتُ رَبِّي اللَّاهِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْبَشَرِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ فَأَعْطَانِيهِمْ). وإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَوَرَدَ تَفْسِير اللاهين بِأَنَّهُم الأطفال من ذراري البشر. ولا بد من التأكيد على أن منهم ذراري الكفار، مع فارق أن ذراري المسلمين لا يمتحنون كذراري الكفار، وهذا ما تقتضيه الأدلة .

ومما يعتبر دليلاً صريحاً على دخول الفائزين في امتحان (عنق النار، في حديث الأربعة )، من ذراري الكفار الجنة، حديث: الخَنْسَاءَ بِنْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَرِيمٍ عَنْ عَمَّتِهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ فِي الْجَنَّةِ ؟ قَالَ: (النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ) وإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. ولفظة المولود في الحديث اسم جنس، جاءت معرفة بأل استغراق الجنس، ولا بد من أن تستوعب اللفظة ذراري المشركين بالتفصيل السابق.

وكل ما قيل من تفصيل في مصير أطفال الكفار، يقال نفسه في الحديث الآتي، من حديث البخاري الطويل، عن رؤيا يقصها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فيها رؤيته إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الجنة: ((أما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الوِلْدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة) قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله! وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأولاد المشركين)).
والمقصود بلفظة
(مات على الفطرة
أي قبل البلوغ على ما

فطره الله عليه من فطرة الإسلام إشارة إلى الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) رواه مسلم.

والخلاصة: بعد استعراض كل الأدلة الصحيحة في مسألة (مصير ذراري البشر) في الآخرة .. وبعد مقارنة أقوال العلماء على ضوء الأدلة. نستخلص الآتي:

أ. أطفال المسلمين، الذين ماتوا قبل البلوغ مع أهلهم في الجنة، دون أي امتحان لهم في عرصات القيامة، بفضل الله ورحمته وعدله.

ب. أطفال الكفار يدخلون الجنة، بعد اجتيازهم الامتحان بمقتضى حديث: (يؤتى بأربعة يوم القيامة؛ بالمولود، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، والشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته…). ويكونون خدم أهل الجنة حسب الحديث. وذلك بفضل الله ورحمته وعدله أيضاً.

ج. إنّ أكثر الأحاديث تتحدث عن تسلية الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين الصابرين المحتسبين، عند فقد أطفالهم، بأن خصهم بجوائز عظيمة، تتلخص في أمرين اثنين:

أولهما: أن صبرهم على مصيبة فقد الأولاد، واحتسابهم عند الله، تدخلهم الجنة ولنقرأ هذه الفقرات المقتبسة من الأحاديث السبقة: (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ – لَقَدِ احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنَ النَّارِ- قال: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد- يقال لهم: ادخلوا الجنة. فيقولون: حتى يدخل أبوانا أو آباؤنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم – إلا لم تمسَّه النار إلا تحلة القسم – فيأخذ بثوبه ، أو قال: بيده ، كما آخذ أنا بصنفة ثوبك، فلا يتناهى ، أو قال: ينتهي ، حتى يدخله الله وإياه الجنة).

وثانيهما: أن تقر أعين الوالدين، عقب فقد أولادهم، بأنّ أولادهم الذين فارقوهم، قد سبقوهم إلى النعيم المقيم، في جنات النعيم. فهل بعد هذه التعزية من تعزية؟ وهل بعد هذه التسلية من تسلية؟ وهل بعد هذا العوض من عوض؟

فالحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان..! هذا والله أعلم ورد العلم إليه أسلم، والحمد لله رب العالمين.