ما نحن في صدده الآن، واحدٌ من الموضوعات المفصلية التي تؤكد حقيقتين:
أولاهما؛ وجود الهوة الواسعة بين النصوص الشرعية الصحيحة، التي لا تدع معها فرصة لقولٍ مخالفٍ، وما يذهب إليه أهل الفرق الناكبة عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي) من أقوال في بعض المسائل.
والثانية، تعلق العوام بهذه المسائل التي لا تصح شرعيا أصلاً، تعلقا ذوقيا أو عاطفيا، مما يُسهم في سرعة انتشارها ورسوخها عند العوام.
وما المقصود بالعنوان (والدا النبي..)؟ المقصود ما انتشر في القديم والحديث بين بعض أهل العلم، والعوام تبعا لهم، من أنّ والدَ النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمَّه ليسا معذبين، أو ليسا من أهل النار، في حين أنّ الأدلة الصحية تؤكد خلاف ذلك.
ولعل تحرير هذه المسألة علميا، وتأصيلها وفق الأدلة الصحيحة، سيكون المحور الرئيس في هذا الموضوع. ولنبدأ بعرض النصوص:
1. روى الإمام أحمد عن بريدة قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بودّان قال: (مكانكم حتى آتيكم). فانطلق، ثم جاءنا وهو ثقيل. فقال: (إنّي أتيت قبر أم محمد، فسألت ربي الشفاعة، يعني: لها، فمنعنيها، وإنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)).
2. وفي رواية أخرى عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة عن أبيه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان فقام إليه عمر بن الخطاب ففداه بالأب والأم يقول: يا رسول الله ما لك قال: (إنّي سألت ربي عز وجل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمةً لها من النار، وإنّي كنت نهيتكم عن ثلاث؛ عن زيارة القبور فزوروها، لتذكركم زيارتها خيرا. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا وأمسكوا ما شئتم. ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية فاشربوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكرا)).
3. ورواه البيهقي من طريق أخرى عنه بلفظ: (انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم قبرٍ فجلس، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى، فاستقبله عمر، فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: (هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى عليّ، وأدركتني رقتها فبكيت). قال: فما رأيت ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة).
وقد قال البيهقي في كتابه (دلائل النبوة): (وكيف لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة وقد كانوا يعبدون الوثن، حتى ماتوا ولم يدينوا بدين عيسى ابن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنّ أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم؛ فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن، إذ كان مثله يجوز في الإسلام. وبالله التوفيق).
4. روى مسلم عن أبي هريرة قال: (زَارَ النَّبِىُّ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ: (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى فِى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِى أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِى فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ)).
5. روى مسلم أيضاً عن أنس: (أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَبِى؟ قَالَ: (فِى النَّارِ). فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: (إِنَّ أَبِى وَأَبَاكَ فِى النَّارِ)).
وقد جاء في شرح مسلم للنووي قوله: (قَوْلُهُ (أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَبِي قَالَ فِي النَّارِ فَلَمَّا قَفَّى دعاه فقال إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) فِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَلَا تَنْفَعُهُ قَرَابَةُ الْمُقَرَّبِينَ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَيْسَ هَذَا مُؤَاخَذَةٌ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ هُوَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَةِ وَمَعْنَى قَفَّى ولى قفاه منصرفا).
وجاء في كتاب عون المعبود في شرح سنن أبي داود للعظيم أبادي: (وَكُلُّ مَا وَرَدَ بِإِحْيَاءِ وَالِدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيمَانِهِمَا وَنَجَاتِهِمَا أَكْثَرُهُ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى وَبَعْضُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا لَا يَصِحُّ بِحَالٍ لِاتِّفَاقِ أئمة الحديث على وضعه كالدارقطني والجوزقاني وبن شاهين والخطيب وبن عساكر وبن ناصر وبن الْجَوْزِيِّ وَالسُّهَيْلِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ وَالْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ وَفَتْحِ الدِّينِ بْنِ سَيِّدِ النَّاسِ وَإِبْرَاهِيمَ الْحَلَبِيِّ وَجَمَاعَةٍ.
وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي عَدَمِ نَجَاةِ الْوَالِدَيْنِ الْعَلَّامَةُ إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَالْعَلَّامَةُ عَلِيٌّ القارىء فِي شَرْحِ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ وَفِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْمَسْلَكِ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.
وَالشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ قَدْ خَالَفَ الْحَافِظَ وَالْعُلَمَاءَ الْمُحَقِّقِينَ وَأَثْبَتَ لَهُمَا الْإِيمَانَ وَالنَّجَاةَ فَصَنَّفَ الرَّسَائِلَ الْعَدِيدَةَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا رِسَالَةُ التَّعْظِيمِ والمنة في أن أبوي رسول الله فِي الْجَنَّةِ. قُلْتُ: الْعَلَّامَةُ السُّيُوطِيُّ مُتَسَاهِلٌ جِدًّا لَا عِبْرَةَ بِكَلَامِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَمْ يُوَافِقْهُ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ النُّقَّادِ) ا.هــ
وبعد استعراض الأدلة الصحيحة السابقة، يتضح جلياً أنّ هذا الموضوع، مصير والدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي طال الجدل حوله، في القديم والحديث، لا يحتمل الجدل والخلاف، ولا ينبغي فيه إلا الاستسلام للأدلة .. ومن الغرابة بمكان، أن نجد عالما كالسيوطي قد جانب النصوص السابقة، مائلا مع العواطف والهوى، بل ألَّف في ذلك، كما سبق .. وأؤكد مرة أخرى أنّ الموضوع الذي بين أيدينا عقديٌّ بامتياز، نصيٌّ بانحياز.
ولْأوضِّح المقصود من هاتين العبارتين: أما أنّه (عقديٌّ بامتياز) أي: أنّه من أمور الاعتقاد وتحكمه الأدلة، ولا يقبل تدخل العقل و(الوجدانيات).
فلقد شاء الله تبارك وتعالى، بحكمته وتدبيره، أن يكون والد إبراهيم عليه السلام كافراً ومن أهل النار، وأن يكون ابن نوح من المغرقين، وأن يجعل امرأة فرعون مؤمنة، وامرأتي نوح ولوط كافرتين .. وشاء أن يكون والدا نبينا عليه السلام من أهل النار .. كل ذلك لحكمة بالغة، وإشارة واضحة، وهي أنّ صوت العقيدة يجب أن يكون هو الأعلى، وأنّ رابطة العقيدة هي الأولى، ولا يجوز أن تُنازعها رابطة، مهما كانت، ولو كانت روابط الأنساب، وأنّ الحق يعلو ولا يحابي أحدا، حتى أنبياء الله..!
فما بال أقوام يتجاهلون تلك الحكمة والإشارة ويتعاملون مع مسألة (والدي الرسول عليه السلام) تعاملاً عاطفياً ذوقياً وجدانيا، كأنّها عريةٌ عن نصوص تحكمها .. وكثيرا ما أقول إنّ أولئك حكّموا المثل العامي (كرما لعين تكرم مرج عيون)..! عوضا عن تحكيم نصوص الوحيين، فبُعدا ثم بُعدا..!
كذلك فإنّهم يُقَعِّدون قواعد تنبني على الظن المرجوح، من مثل تفسير قوله تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)، وقال ابن عباس: (أَيْ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ، آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ حَتَّى أَخْرَجَهُ نَبِيًّا). وقد ذكره القرطبي في تفسيره، وانطلقوا من هذه المقولة، أنّ آباء كل نبي لا بد أن يكونوا أنبياء، أو مؤمنين موحدين على الأقل. وهذا يخالف نصوصا شرعية كثيرة.
وبكل أسف أُعيد أنّه لم ينج من تلك الزلة أناس، قد يُحْسَن الظن بفهمهم للأمور. ولنقرأ مثلا ما كتبه الشيخ محمد الغزالي، الداعية المصري المعاصر، يقول في بعض كتبه: (رأيت نفرا يغشون المجامعَ مذكّرين بحديث أنّ أبا الرسولِ صلى الله عليه وسلم في النار! وشعرت بالاشمئزازِ من استطالتِهِم وسوء خلقِهِم!) ثم يقول: (وللفقهاءِ كلام في أنّ أبوي الرسول ليسا في النارِ، يردّونَ بِهِ ما تروونَ، لقد أحرجتُم الضميرَ الإسلاميّ حتى جعلتموهُ ليستريحَ يروي أنّ الله أحيى الأبوينِ الكريمينِ فآمنا بابنِهِما. وهي روايةٌ ينقصُها السندُ؛ كما أنّ روايَتَكم ينقصها الفقهُ، ولا أدري ما تعشّقُكُم لتعذيبِ أبوينِ كريمينِ لأشرفِ الخلقِ؟ ولم تنطلقونَ بهذه الطبيعةِ المسعورةِ تسوءون الناسَ؟). ا.هـــ
وأقول معلقاً: متى كان الأدب، والعواطف والمجاملات من أدلة الدين، وتقدم على ما جاء في الوحيين، بل ويُرَدُّ الوحيان بها؟!
وأسأل كلَّ هؤلاء المخالفين والمجادلين، هذا السؤال، الذي أحسب أنّهم لن يجدوا عنه إجابة تُقنعهم قبل أن تُقنع غيرهم: هل ندفع ثمن تقدير وحب النبي ووالديه، تكذيبَه فيما أخبر عن ربه؟! وهل يُرضي هذا الفعلُ الرسول وربَّ الرسول؟!
ومن أسْقَطِ ما سمعت من التبريرات والأعذار عند أولئك قولهم في حديث مسلم: (إِنَّ أَبِى وَأَبَاكَ فِى النَّارِ) إنّ النبي عليه السلام ما قالها على الحقيقة، بل تطييباً لخاطر الرجل السائل .. أولى لكم فأولى، ثم أولى لكم فأولى، أيَكذِبُ النبي صلى الله عليه وسلم ليُطَيِّبَ خاطر رجل؟
وحتى لا نضلل العوام، نبين أنّ القول بأنّ الله بعث والدي النبي ودعاهما إلى الإسلام فأسلما، قول يفتقر إلى الأدلة، والأحاديث التي يُعتمد عليها بين شدة الضعف والوضع .. وهناك مطعن آخر في ذلك القول وهو أنّ الله كتب مقادير الخلائق من قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، وعلم بكل شيء قبل وقوعه، فكيف يُوحي الله إلى رسوله أنّ والديه معذبان في النار، ثم يبعثهما حيَّيْن ليؤمنا به؟ إنّه تناقض يُنْسَبُ من أولئك المجازفين إلى أفعال الله وأخباره تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .. ويأتي بعض الجهال ليقولوا إنّ ذلك من باب النسخ، ويُرد على هذا الكلام الباطل بالقاعدة الأصولية: إنّ النسخ لا يكون في الأخبار، إنّما النسخ يقع في الأحكام، لأنّ الأخبار تتحدث عن وقائع وقعت، وتغيرها بعد وقوعها طعن بالمُخْبِر، والمُخْبِرُ عن مصير والدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الله تبارك في علاه.
وكنت في مجلس تذاكرنا فيه مسألة والدي الرسول عليه السلام، فقال أحد المشائخ المعروفين: لقد حفظنا عن مشايخنا الأبيات الآتية:
أيقنت أنّ أبا الرسول وأمه |
أحياهما الرب الكريم الباري |
فرددت بعدُ بالأبيات الآتية :
يا جاهلاً أعمى التعصب قلبه |
أترد وحي الله بالأشعار؟ |
أما إيضاح عبارة (نصيٌّ بانحياز) فلقد تبين من الأدلة الصحيحة التي استعرضناها، حول قضية والدي الرسول عليه السلام، أنّه لم يستطع أحد من المخالفين الطعنَ في صحتها، ولم يجدوا سبيلا إلى تأويلها، بل عمدوا إلى اللعب بالألفاظ، لاستثارة عواطف العوام، ليجعلوها رصيدا لهم في ما ذهبوا إليه، كما فعل الغزالي .. أوَ لا يحق لنا أن ندحض كل ما زعموا بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). وهذا الذي قصدته بعبارة (نصيٌّ بانحياز)، في أنّ المسلم بل المؤمن، في كل شأنه، يَتَحَيَّزُ للأدلة التي هي وحي من فوق سبع سماوات، وأنّه ليس له الخيرة في تركها، مهما يكن التعليل والتبرير، ومن فعل فليرجع ويتدبر الأية السابقة، ولينظر الوعيد (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا).
ومما يُشغب به على هذه المسألة، شديدةِ الوضوح، قويةِ التأصيل، كلامٌ يصدر عن علماء كبار من أمثال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، وهو من هو .. لكنّه الالتزام المذهبي، وإلى الله المشتكى .. ولقد وقفت على رسالة لأحد طلابه، يسجل فيها رأي الشيخ في مسألة مصير والدي النبي عليه الصلاة والسلام، يذكر فيها نقاطا عديدة، أكثرها تمت مناقشتها، لكنّي أرد على نقطتين لم نذكرهما في رسالتنا هذه:
الأولى: قول الشيخ رحمه الله: (إنّ والدي الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة). وكثيرون الذين يقولون بهذا .. والجواب: نسأل أولا من أين جاء مصطلح أهل الفترة؟ إنّه مقتبس من قوله تعالى: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وَالْفَتْرَةُ كما في {التحرير والتنوير}: (انْقِطَاعُ عَمَلٍ مَا. وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْله: مِنَ الرُّسُلِ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ابْتِدَاؤُهَا مُدَّةُ وُجُودِ الرُّسُلِ، أَيْ أَيَّامُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ).
ويقول ابن عاشور في تفسير الآية: (إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا بِوَصْفِ مَجِيئِهِ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ لِيُذَكِّرَهُمْ بِأَنَّ كُتُبَهُمْ مُصَرِّحَةٌ بِمَجِيءِ رَسُولٍ عَقِبَ رُسُلِهِمْ، وَلِيُرِيَهُمْ أَنَّ مَجِيئَهُ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ إِذْ كَانُوا يَجِيئُونَ عَلَى فِتَرٍ بَيْنَهُمْ. وَذُكِرَ الرَّسُولُ هُنَالِكَ بِوَصْفِ تَبْيِينِهِ مَا يُخْفُونَهُ مِنَ الْكِتَابِ).
واعتبار {الفترة}، مع تعريف الكلمة، الحقبةَ التي سبقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، تعسفٌ لا يدل عليه دليل، بل هي كل حقبة انقطعت فيها الرسل، ولا تخصيص لها. وإذا تنزلنا مع الخصم، واعتبرنا لفظة (الفترة) ما سبق بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام فلا يسلم لهم أنّ كل أهلها ناجون، ومنهم والدا النبي صلى الله عليه وسلم .. فقد حدثنا نبينا عن رجلين من أهل الفترة أولهما ورقة بن نوفل وقد قال عنه: (لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين). أما الآخر فهو ابن جدعان وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ قَالَ: (لاَ يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ)). فمن أين جاءكم العلم أنّ والدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم ناجيان..؟ وقد جاءتنا الأحاديث الصحيحة عن ابنهما عليه الصلاة والسلام بخلاف ذلك.
ومما يتصل بأهل الفترة حديث صحيح يقول: (أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ وَرَجُلٌ أَحْمَقُ وَرَجُلٌ هَرِمٌ وَرَجُلٌ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يحذِفُوني بِالْبَعَرِ وَأَمَّا الهَرِمَ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطيعُنَّه فيُرسل إِلَيْهِمْ رَسُولًا أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دخلوها كانت عليهم برداً وسلاماً). والحديث يدل على أنّ أهل الفترة يكونون من أماكن متفرقة على الأرض، وفي أزمان مختلفة.
والثانية: قول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: (لعل المقصود بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ أَبِى وَأَبَاكَ فِى النَّارِ) عمَّه أبا طالب، فإنّ العرب تسمي العم أباً). وهذا خطأٌ وخطلٌ..! ولعله تسلل إلى عقول القائلين به من الحديث الصحيح (وإنّ عمَّ الرجلِ صِنْوُ أبيه). وليس مقصود الحديث ما فهموه، إنّما القصد أنّ عمَّ الرجل وأباه متساويان في القدر، والله أعلم
وقد وقع بعض المفسرين المتأثرين بالأشاعرة في الخطأ نفسه في تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). فقالوا إنّ آزر هو عمّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وليس أباه، وهذا من قول الشيعة. وقال السيوطي ذلك، والشعراوي يقول بذلك .. ولم يثبت في قواميس اللغة أنّ لفظة الأب تطلق على العم، أو العكس، والله أعلم.
ومما يؤكد مصير والد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما جاء في صحيح البخاري: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ. فَيَقُول إِبراهيم: يَا رب إِنَّك وَعَدتنِي أَلا تخزني يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ لِإِبْرَاهِيمَ: مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بقوائمه فَيُلْقى فِي النَّار). والذيخ: هو ذكر الضباع الكثير الشعر.
وكثيرا ما تسمع وسط لغط المخالفين وشغبهم، من يرفع عقيرته متسائلا لِمَ تُثار هذه الموضوعات اليوم، وهي لا تُشكّل مشكلة إزاء ما تواجهه أمة الإسلام؟ والجواب: إنّ هذه المسألة واحدة من مسائل الاعتقاد التي لا تقبل الأخذ والرد لوجود النصوص الصريحة الصحيحة، لكنْ عبثَ فيها العابثون بأهوائهم، وتركوا الاستسلام للنصوص، ففتحوا باب الجدل والأخذ والرد، فهم المسؤولون عن هذا التشاغل والانشغال عن ما هو أجدى.
ولا يمكن لأهل الحق أن يسكتوا عن تجاوزات التغيير والتبديل. ولا بُد من تبصير الناس وتوجيههم ليعلموا أنّ أسلوب مسح اللحى، وتطييب الخواطر لا محل له في مسائل الدين، ولا سيما قضايا الاعتقاد .. وليعلم الناس أنّ الله تبارك وتعالى أعلم، كيف يرضي نبيه، وهو القائل له (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)، ولا دور لأدعياء ذلك من البشر! كما أنّ النبي نفسه لا يُرضيه أن يُكَذَّب ليُكْرَمَ والداه، وهو الذي لا ينطق عن الهوى .. فأين تذهبون؟
ولم يقف أمر أولئك المدعين عند الادعاءات غير الصحيحة، بل وصل الأمر عند بعضهم إلى إيجاب قول (رضي الله عنهما)عند ذكر والدي الرسول عليه السلام، وآخر ما وقع بين يديّ عرضاً وفي مكان عام كتاب لأحد المشائخ الدمشقين من حي الميدان وليس مشهوراً، وأذكر للتوثيق اسمه بالحروف الأولى (ع ـ ع) ، فيه من العجائب بل والبواقع ما لا يُصدق، وفيه من التعليلات والاستدلالات ما يُضحك الثكلى، ولا يُقنع الأطفال.
تبارك اسمك يا رحمن، أنزلت الفرقان، وجعلت دين الإسلام محفوظاً بحفظك إلى قيام الساعة، وكيف لا ومادته السماوية الوحيان، تنفي عنه كل كذب وعبث وتحريف وبهتان. وجعلت في شعار الإسلام، الكلمة الطيبة، كلمة التوحيد، مع توحيد ألوهيتك، توحيدَ الرسالةِ لنبيك، فلا يُؤخذُ الدين عن بشرٍ غيره..! فكيف يضل الضالون، وينحرف المنحرفون، إلا بتحكيم الهوى، والعقل والعاطفة وفي ذلكم ضياع الدين … والحمد لله رب العالمين