تمام الآية: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ).
إنّ البحث المؤصل المتأني في هذه الآية الفاذة يفتحنا على وقفات عقدية وفقهية هامة، بل خطيرة. ولعله من المفيد لحض كل مسلم على أن يُلم إلمامة دقيقة وعميقة بهذه الوقفات، أن نبين أنّ كثيرين من المسلمين قد فاتهم مثل ذلك الوقوف المتأني مع الآية، فجانبوا الصواب في فهمها. ولعله ليس سراً القول: إنّ فيهم علماء يشار إليهم بالبنان، في القديم والحديث، والنقول التي سنثبتها من الكتب، ومنها شهيرة، ستؤكد ذلك. والأعجب أن يُعلم أنّ سبب ذلك لدى الأكثرين ليس الجهل، إنّما الهوى والتعصب وتقليد الرجال، وناهِيكُمْ بتلكمُ انحرافاً.
وحتى لا يثير هذا الكلام حفائظ بعض القراء، أو مَن يبلغهم ذلك، فإنّي أقول: إنّ ما يُطرح في هذه السطور ليس تفضيلاً لاجتهاد على اجتهاد، في مسألة تقبل الاجتهاد، إنّما هو تأكيد لمسألة
عقدية بأدلتها الصحيحة الصريحة من الوحيين .. ويجب أن يُعلم أنّ مسائل الاعتقاد لا تقبل
الاجتهاد، وتعدد الآراء، لأنّها غيوب..! وهذا الواقع غيرُ المرضي، عند المسلمين قديماً وحديثاً، ما هو إلا جنايةُ أهلِ الفرق التي توعدها الرسول صلى الله عليه وسلم بالنار في حديث الافتراق المشهور، والذي تنفع الذكرى به لخطورته. يقول الصادق المصدوق: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة؛ قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة). وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي).
ولما صار هذا الحديثُ، العظيمُ نفعُه للمسلمين في دفع غائلة التفرق عنهم، غرضاً لسهام بعض من استهوتهم انحرافات أهل الفرق والابتداع، أو من كانوا ضالعين فيها، من متبعي أهل الكلام في العقائد، لأنّه يدحض باطلهم، ويفضح سرائرهم، فنالوا منه، إنْ من سنده بالتضعيف، وإنْ من متنه بالنكارة، وصدر ذلك عن علماء، انتفش الباطل، واشتد أهل الفرق في غزو عقول المسلمين بل أفئدتهم بما يخالف ما عليه أهل القرون الثلاثة، المشهود لها بالخيرية، في العقيدة وغيرها. وقد نجحوا إلى حدّ كبير ويا للأسف..! وما انتشار مذهب الأشاعرة إلا الثمرة المرة لذلك. وسيظهر ذلك في النقول القادمة. ويبقى هذا الحديث، حديث الافتراق، وهو الفصل والفيصل بين الحق والباطل، أعلى من أن يرقى إليه باطلهم، أو يناله افتراؤهم، وللحديث عند أهل الصنعة ستة عشر طريقاً يصح بتعددها، وشهد بذلك جهابذة هذا العلم. ولْنقتصدْ في المقدمة، لِنَلِجَ في الوقفات:
الوقفة الأولى: إنّ مما يعين على تأصيل الكلام في أية مسألة مطروحة، بعد توفيق الله، الانطلاق من قواعد متفق عليها، وإسقاطها على المسألة، فتيسر الفهم، وتعجل الحسم. ومن هذه القواعد:
1. كلُّ أمرٍ غيبيٍّ ليس بيننا وبينه إلا النصوص، وإنّ الكلام فيه خارج النصوص، يدخلنا في المنطقة المحرمة
شرعاً، أشدَّ التحريم، وهي القول على الله بغير علم.
2. مع وجود النص القرآني الصريح، والحديث النبوي الصحيح الصريح، يسقط كل استدلال بغيرهما.
3. إنّ الجمع بين الأدلة، التي يبدو تعارضها، لا يصح إلا أن يكون النصان المراد الجمع بينهما صحيحين. فلا يجمع بين صحيحٍ وضعيفٍ، ومن ذلك، فلا يجمع بين مرفوعٍ وموقوفٍ، وإن صح وقفه. ولعلنا نوفق، إن شاء الله، في تطبيق تلك القواعد في المسألة التي بين أيدينا الآن.
الوقفة الثانية:
جاء في صحيح البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا).
وفي السلسلة الصحيحة حديث صحيح بهذا المعنى: (إذا جمع الله العباد بصعيد واحد نادى مناد: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدونويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم ههنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا عرفناه فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سجدا وذلك قول الله تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) ويبقى كل منافق، فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة).
الوقفة الثالثة:
لقد رَكَّز مجانبو الصواب، في تفسير الآية، على روايات لابن عباس رضي الله عنهما، ولغيره من التابعين كمجاهد، شحنت بها أكثر كتب التفسير، من مثل: عن ابن عباس أنّه سئل عن قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) فقال:(إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنّه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر: أصبر عناق إنّه شر باق، قد سن لي قومك ضرب الأعناق، وقامت الحرب بنا على ساق).
وقال ابن عباس: (هذا يوم كرب وشدة. يوم يكشف عن ساق قال: عن شدة الآخرة، فقيل: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول الشاعر: قد قامت الحرب بنا على ساق). وقال مجاهد في ذلك: (هي شدة الأمر).
وجاء في بعض كتب التفسير الاستشهاد ببعض أقوال العرب مثل:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقول الآخر:
قد كشفت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم فجدوا
وكثرت بعد ذلك الأقوال والاستنباطات،
مما لا زمام له ولا خطام، مثل: (أي: يوم يُكشف عن ساق الأمر فتظهر حقائقه. وقيل: يُكشف عن ساق جهنم. وقيل: عن ساق العرش. وقيل: هو عبارة عن القرب. وقيل: يَكشف الرب سبحانه عن نوره…).
ولتحرير المسألة نقول: إنّ أكثر الأقوال التي ذكرت لا تُشكل مستنداً شرعياً في مسألة عقدية غيبية كهذه، فهي إلى الشواهد اللغوية أقرب، وإقحامها في سياق شرعي فيه من التمحل، والرغبة عن الحق ما لا يخفى .. حتى قول ابن عباس، فإن صح، فيُعتذر عنه أنّه قاله قبل الاطلاع على حديث البخاري الذي ذكرناه، والآية لم يكن واضحاً فيها مسألة إثبات صفة الساق لله تبارك وتعالى، لأنّ عبارة كشف الساق جاءت مُنَكَّرةً بالبناء للمجهول. وأسماء الله جل وعلا لا تثبت بالاحتمال، ولا بُد من اليقين. أما الآية بضميمة الحديث، فهما نص قطعي في إثبات صفة الساق للرحمن.
وحين يتحرر
ذلك، تكون الغُنْية، كل الغنية في ما جاء عن الله ورسوله، ويسقط ما سوى ذلك؛ وقد قيل: (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل).
ورحم الله الشيخ الألباني فقد عالج مسألة (الساق) بأسلوب قاعدي نصي، فأصَّلها خير تأصيل. وقد كفانا بذلك إطالة الكلام في إسقاط القواعد والنصوص المذكورة على المسألة وتحريرها فأغنى عن كل قول، رحمه الله. جاء في (موسوعة الألباني في العقيدة) ما يأتي:
(يجب على كل طالب علم أن يكون منطلقه في الفهم وفي الفقه قائماً على القواعد العلمية الأصولية سواءٌ ما كان منها متعلق بأصول الحديث أو أصول الفقه، وليس من العلم عند أحدٍ من أهل العلم أن يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول غيره ممن ليس معصوماً، ثم بالتالي ليس من العلم محاولة التوفيق بين الحديث المرفوع والقول الموقوف، ليس هناك حاجة لإعمال الفكر في سبيل التوفيق بين الحديث المرفوع والحديث الموقوف، فقول ابن عباس إن صح، لا ينبغي أن يعارض قول الرسول عليه السلام فتنتهي المشكلة).
الوقفة الرابعة:
ونرى من العلماء، في القديم، من التزم المنهج الذي ذكره الشيخ الألباني رحمه الله، من مثل الشوكاني رحمه الله، حيث يقول في تفسيره (فتح القدير) بعد أن أورد حديث البخاري المذكور آنفا: (وهذا الحديث ثابت من طرق في الصحيحين وغيرهما، وله ألفاظ في بعضها طول، وهو حديث مشهور معروف. وأخرج ابن منده عن أبي هريرة في الآية قال: يكشف الله عز وجل عن ساقه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن منده عن ابن مسعود في الآية قال: يكشف عن ساقه تبارك وتعالى).
إلى أن يقول: (قال ابن عباس: هذا يوم كرب شديد، روي عنه نحو هذا من طرق أخرى، وقد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عرفت، وذلك لا يستلزم تجسيماً ولا تشبيهاً فليس كمثله شيء.
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر).
ولقد كتب ابن حزم رحمه الله في كتابه (الفِصَل…) كلاماً نفيساً في هذه المسألة، يقول: (وَالْعجب مِمَّن يُنكر هَذِه الْأَخْبَار الصحاح وَإِنَّمَا جاءت بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن نصا، وَلَكِن من ضَاقَ علمه أنكر مَا لَا علم لَهُ بِهِ وَقد عَابَ الله هَذَا فَقَالَ: {بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله}).
ولقد اقتبس علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله هذه العبارة من ابن حزم رحمه الله، وأثبتها في تفسيره (محاسن التأويل) عند تفسيره لآية (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ…).
وهذا ما كتبه الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره حول قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ…): (أي: إذا كان يوم القيامة، وانكشف فيه من القلاقل [والزلازل] والأهوال ما لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه، فحينئذ يدعون إلى السجود لله، فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون لله، طوعًا واختيارًا، ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا يقدرون على السجود، وتكون ظهورهم كصياصي البقر).
الوقفة الخامسة: ومما يدعو إلى العجب والاستغراب،
أن يجد المرء أكثر كتب التفسير وغيرها قد شحنت بالتأويل اللغوي الذي يصرف المسلم في اعتقاده عن إثبات صفة (الساق) لله تبارك وتعالى. وهذه هي آثار مذهب الأشاعرة في كتب المسلمين وعقولهم وديانتهم، وهذا ما أشرنا إليه في المقدمة .. وهذه نماذج:
. في تفسير القرطبي: (أَيْ تَكْشِفُ الشِّدَّةُ أَوِ الْقِيَامَةُ. عَنْ سَاقِهَا، كَقَوْلِهِمْ: شَمَّرَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَتَى الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا … وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا
وعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قَالَ: عَنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: شِدَّةُ الْأَمْرِ وَجَدُّهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ أَشَدُّ سَاعَةً فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِذَا اشْتَدَّ الْحَرْبُ وَالْأَمْرُ قِيلَ: كَشَفَ الْأَمْرُ عَنْ سَاقِهِ. والأصل فيه أن من وقع في شي يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْجَدِّ شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ، فَاسْتُعِيرَ السَّاقُ وَالْكَشْفُ عَنْهَا فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ. وَقِيلَ: سَاقُ الشَّيْءِ أَصْلُهُ الَّذِي بِهِ قِوَامُهُ، كَسَاقِ الشَّجَرَةِ وَسَاقِ الْإِنْسَانِ. أَيْ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ أَصْلِ الْأَمْرِ فَتَظْهَرُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَأَصْلُهَا. وَقِيلَ: يُكْشَفُ عَنْ سَاقِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: عَنْ سَاقِ الْعَرْشِ. وَقِيلَ: يُرِيدُ وَقْتَ اقْتِرَابِ الْأَجَلِ وَضَعْفِ الْبَدَنِ، أَيْ يَكْشِفُ الْمَرِيضُ عَنْ سَاقِهِ لِيَبْصُرَ ضَعْفَهُ، وَيَدْعُوَهُ الْمُؤَذِّنُ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ وَيَخْرُجَ. فَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَتَعَالَى عَنِ الْأَعْضَاءِ وَالتَّبْعِيضِ وَأَنْ يَكْشِفَ وَيَتَغَطَّى. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكْشِفَ عَنِ الْعَظِيمِ مِنْ أَمْرِهِ. وَقِيلَ: يَكْشِفُ عَنْ نُورِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى أَبُو مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنْ ساقٍ قَالَ: (يَكْشِفُ عَنْ نُورٍ عَظِيمٍ يَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا)).
. وفي تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل): (الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام: مثلٌ في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهنّ في الهرب، وإبداء خدامهن عند ذلك.
قال حاتم: أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها … وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا .
فمعنى يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ في معنى: يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثم ولا غل، وإنما هو مثل في البخل.
وأما من شبه فلضيق عطنه، وقلة نظره في علم البيان، والذي غرّه منه حديث ابن مسعود رضى الله عنه: «يكشف الرحمن عن ساقه، فأمّا المؤمنون فيخرّون سجدا، وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقا طبقا كأنّ فيها سفافيد»، ومعناه: يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة).
. وفي تفسير الجلالين: ({يَوْم يُكْشَف عَنْ سَاق} هُوَ عِبَارَة عَنْ شِدَّة الْأَمْر يَوْم الْقِيَامَة لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاء يُقَال كَشَفَتْ الْحَرْب عَنْ سَاق إذَا اشْتَدَّ الْأَمْر فِيهَا {وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُود} امْتِحَانًا لِإِيمَانِهِمْ {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} تَصِير ظُهُورهمْ طَبَقًا وَاحِدًا).
. وفي تفسير الرازي (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير): (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ، أَيْ عَنْ أَصْلِ الْأَمْرِ، وَسَاقُ الشَّيْءِ أَصْلُهُ الَّذِي بِهِ قِوَامُهُ كَسَاقِ الشَّجَرِ، وَسَاقِ الْإِنْسَانِ، أَيْ يَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ وَأُصُولُهَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقِ جَهَنَّمَ، أَوْ عَنْ سَاقِ الْعَرْشِ، أَوْ عَنْ سَاقِ مَلَكٍ مَهِيبٍ عَظِيمٍ، وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى سَاقٍ، فَأِمَّا أَنَّ ذَلِكَ السَّاقَ سَاقُ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُشَبِّهَةِ، أَنَّهُ سَاقُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ .
رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَّهُ تَعَالَى يَتَمَثَّلُ لِلْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَمُرُّ الْمُسْلِمُونَ، فَيَقُولُ: مَنْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعْبُدُ اللَّهَ فَيُشْهِدُهُمْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ يَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ، فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَهُ إِذَا عَرَّفَنَا نَفْسَهُ عَرَفْنَاهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ، فَلَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، وَيَبْقَى الْمُنَافِقُونَ ظُهُورُهُمْ كَالطَّبَقِ الْوَاحِدِ كَأَنَّمَا فِيهَا السَّفَافِيدُ». وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ…).
. وجاء في التفسير المنير للزحيلي، وهو معاصر: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ أي اذكر لهم حين شدة الأمر يوم القيامة للحساب والجزاء، أي يوم يشتد الأمر، يقال: كشفت الحرب عن ساق: إذا اشتد الأمر فيهما. وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يطلب منهم السجود توبيخا على تركهم السجود. فَلا يَسْتَطِيعُونَ لذهاب وقته أو زوال القدرة عليه).
. وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى، في شرح مسلم: (وفسر ابن عباس وجمهور أهل اللغة وغريب الحديث الساق هنا بالشدة أي يكشف عن شدة وأمر مهول , وهذا مثل تضربه العرب لشدة الأمر، ولهذا يقولون: قامت الحرب على ساق، وأصله أنّ الإنسان إذا وقع في أمر شديد شمر ساعده وكشف عن ساقه للاهتمام به . القاضي عياض رحمه الله: وقيل المراد بالساق هنا نور عظيم، وورد ذلك في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن فورك: ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمنين عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف .قال القاضي عياض: وقيل: قد يكون الساق علامة بينه وبين المؤمنين من ظهور جماعة من الملائكة على خلقة عظيمة لأنه يقال: ساق من الناس كما يقال: رجل من جراد، وقيل: قد يكون ساق مخلوقا جعله الله تعالى علامة للمؤمنين خارجة عن السوق المعتادة…).
. أما ابن حجر فقد ذكر في الفتح في باب [باب يوم يكشف عن ساق] أقوالاً ولم يُعلق عليها: (أخرج أبو يعلى بسند فيه ضعف عن أبي موسى مرفوعا في قوله: (يوم يكشف عن ساق) قال “عن نور عظيم, فيخرون له سجدا” وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله [يوم يكشف عن ساق] قال: عن شدة أمر، وعند الحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: هو يوم كرب وشدة قال الخطابي: فيكون المعنى يكشف عن قدرته التي تنكشف عن الشدة والكرب وذكر غير ذلك من التأويلات كما سيأتي قال الإسماعيلي: هذه أصح لموافقتها لفظ القرآن في الجملة، لا يظن أنّ الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين، تعالى الله عن ذلك ليس كمثله شيء).
ولقد أكثرنا من النقول المخالفة في هذه الوقفة لأسماء معروفة ومتداولة، ذلك لنبين أنّ أكثر المسلمين على اعتقادٍ مخالفٍ لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وما ذلك إلا لفشو فكر الفرق المخالفة والمذاهب المؤولة كالمعتزلة والأشاعرة، وانتشار كتبهم، ولْيُعْلم أنّ الكثرة لا تعني الصواب لقول ربنا 🙁وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، وابن مسعود رضي الله عنه يقول: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك). وإلى الله المشتكى.
الوقفة السادسة:
وأخيرا تعجبٌ واستغرابٌ كبيران…! إذا كانت النصوص من الوحيين التي تصور مشهداً من مشاهد الآخرة، كأنّه رأي عين، تؤكد أنّ بين المؤمنين وربهم يوم القيامة، بالتعبير المعاصر، (كلمة سر، أو كلمة تعارف) فما يكون يا ترى حال من يقدم على ربه يوم العرض، وكان في الدنيا قد نفى أو أوَّل (صفة الساق) لله تبارك وتعالى.
ولنختم بأعظم نصيحة .. أنّ خيري الدنيا والآخرة لا يدركان إلا من طريق واحدة؛ التزام منهج (ما أنا عليه وأصحابي) .. ونعوذ بالله من الحور بعد الكور