ولعل هذا الحديث مما كثر اختلاف العلماء عليه، إنْ في ثبوته، أو في تأويله، وذلك لتعلقه بإثبات صفة (الصورة) للخالق تباركت أسماؤه وصفاته، بين متمسك بالتنزيه، مبتعد بالحديث عن أن يشي بشيء من التشبيه، مع البقاء ضمن حدود الضوابط في علم الحديث، ومثبت لظاهره وتوجيهه الوجهة اللائقة بتنزيه الخالق جلّ وعلا، مع البقاء ضمن حدود العقيدة في الأسماء والصفات .. وأضرب مثلاً لهذا الخلاف بين معاصرَين حتى لا يطول الكلام، وهما الألباني والعثيمين رحمهما الله.
ولنبدأ بروايات الحديث: للحديث روايتان رئسيتان، وكل منهما تعددت حسب اختلاف الأسانيد، وتباين الألفاظ، وتعددت فيها الدرجة بين الصحة والضعف، وسنعتمد في المناقشة على روايتين:
1. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ). متفق عليه
2. (لا تقبحوا الوجه، فإنّ ابن آدم خلق على صورة الرحمن عز وجل).
أخرجه الآجري في الشريعة، وابن خزيمة في التوحيد، والطبراني في الكبير، والدارقطني في كتاب الصفات، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عمر مرفوعا. ولم تسلم هذه الرواية من إعلال وإنكار بعض العلماء، كما قال بصحتها بعض آخر.
أما الرواية الأولى فلم يجر اختلاف بين العلماء على ثبوتها، لكن الاختلاف كثر في تأويلها، وتركز ذلك في إرجاع ضمير (الهاء) في كلمة (صُورَتِهِ)، فانقسموا إلى فرقاء ثلاثة:
أ. فريق طبق القاعدة اللغوية في إرجاع الضمير إلى أقرب عائد في الحديث وهو كلمة: (آدَمَ).
ب. فريق أرجع الضمير إلى لفظة الجلاة (اللَّهَ).
ج. فريق أرجع الضمير إلى كلمة مفهومة من السياق وهي: (المضروب)، ليصير المعنى: إنّ الله خلق آدم على صورة المضروب وجهه.
ولنناقش الوجهات الثلاثة:
أما الأولى فيصبح معنى الحديث: إنّ الله قد خلق آدم على صورة آدم. ولا تخلو من تعسف، وعدم قبول منطقي، فطبيعي أنّ الله هو الذي خلق آدم على صورته، ثم إنّ هذه الطريقة تسلب الشق الثاني من الحديث معنى السببية للنهي الذي بدأ الحديث به، والمراد منه، لا تضربوا الوجه لأنّ وجه المضروب خلق على صورة آدم عليه السلام، وآدم مخلوق على صورة الله تبارك وتعالى .. ولكن أصحاب هذا الاتجاه لم يقبلوا ذلك تنزيها للخالق باتقاء التشبيه.
وأما الفريق الثاني، فبإرجاعهم الضمير إلى اسم الجلالة، كان المعنى صريحاً أنّ الله خلق آدم على صورته تبارك وتعالى، ليثبتوا المعنى المراد، الذي ذكرناه آنفاً. ولم يتحرج أصحاب هذا الاتجاه من ذلك لسببين:
الأول: اعتمادهم الرواية الثانية للحديث (على صورة الرحمن) بعد تصحيح بعض أسانيدها، تفسيراً نبوياً لمرجع الضمير في الرواية الأولى، ويقطع ذلك النزاع في تأويل الحديث.
الثاني: أنّهم لم يجدوا حرجاً في إثبات الصورة، ولا تحمّل شيئاً من معنى التشيبه المحرّم المخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة، فهي كإثبات الوجه واليد والعين.
أما الفريق الثالث فلا أراه موفقاً، وخشيته من التشبيه أوقعته في ذلك. فالأصل أنّ المضروب قد خلق على صورة أبيه آدم وليس العكس .. وهذا التوجيه أفقد الحديث معناه كما قال بعض العلماء، فالنهي عن ضرب الوجه لأنّه على صورة الله، وليس لأنّه على صورة آدم، فكل أعضاء أجسام بني آدم على صورة خلق أبيهم آدم، فالوجه كالصدر وكالظهر وكالفخذ فهل يحرم ضرب كل ذلك..؟
المقارنة والترجيح:
تبنى الشيخ العثيمين رحمه الله وجهة الفريق الثاني، في أنّ الله تبارك وتعالى قد خلق آدم على صورته (الله)، ولم يجد في ذلك أي منافاة لتنزيه الخالق عن شبه المخلوق. ويلخص موقفه بالآتي:
يقول رحمه الله في شرح العقيدة الواسطية (بتصرف): (قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنّ الله خلق آدم على صورته)، والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال: هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف والكلمات، فالصورة مطابقة للصورة، والقائل: (إنّ الله خلق آدم على صورته) الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق.
والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فإن يسر الله لك الجمع، فاجمع، وإن لم يتيسر، فقل: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، وعقيدتنا أنّ الله لا مثيل له، بهذا تسلم أما الله عز وجل.
هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضاً، لأنّه كله خبر وليس حكماً كي ينسخ، فأقول: هذا نفي للماثلة، وهذا إثبات للصورة، فقل: إنّ الله ليس كمثله شيء، وإنّ الله خلق آدم على صورته، فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله والكل حق نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا، ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع.
وأما الجواب المفصل، فنقول: إنّ الذي قال: (إن الله خلق آدم على صورته) رسول الذي قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والرسول لا يمكن أن ينطلق بما يكذب المرسل والذي قال: (خلق آدم على صورته): هو الذي قال: (إنّ أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر)، فهل أنت تعتقد أنّ هؤلاء الذين
يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنّهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمل واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه؟! فإن قلت بالأول، فمقتضاه أنّهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم آناف وليس لهم أفواه! وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال, وتبين أنّه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه.
فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون آدم عليها؟
قلنا: إنّ الله عز وجل له وجه وله عين وله يد وله رجل عز وجل، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان، فهناك شيء من الشبه لكنّه ليس على سبيل المماثلة، كما أنّ الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، من أنّ جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
هذا، وإنّ نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح، لأنّ ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقاً، لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما.
مثلاً: الوجود، يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك ونوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين، وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن. وكذلك السمع، فيه اشتراك، الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن اصل وجود السمع المشترك. فإذا نفينا مطلق التشبيه، صار النفي لأصل الصفة).
ولمّا لم يشكل عند العثيمين رحمه الله الصورة والمماثلة، لم تكن رواية: (على صورة الرحمن) مشكلة عنده، وقال بقول من صححها. والكلام السابق للشيخ رحمه الله نفيس، جمع بين الروايات دون تكلف، ودون أدنى مخالفة لقواعد الاعتقاد.
ننتقل الآن إلى الموقف الآخر، وهو مذهب الفريق الأول. ولا بد من مقدمة:
وهي أنّ عدم قبول فكرة إثبات الصورة لله تبارك وتعالى، وإثبات بعض المماثلة مع صورة آدم عليه السلام، واعتبار رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهي في البخاري، بلفظ: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا) تفسيراً قاطعاً للفظة: (عَلَى صُورَتِهِ) في الحديث الأول، وربط ذلك بتنزيه الله عن كل ذلك، حمل أصحاب هذا الاتجاه على الموقف الصارم من الرواية الثانية للحديث التي فيها (على صورة الرحمن)، والتي اعتبرها الآخرون قاطعة للنزاع في المسألة، بل حتَّمَت الروايات الأخرى، وتأويلاتها على أصحاب هذا الاتجاه اعتبار رواية (على صورة الرحمن) منكرة.
وممن تبنى هذا الاتجاه الشيخ الألباني رحمه الله. ونلاحظ أنّ النقطة الفارقة بين الشيخين هو موضوع إثبات الصورة لله تبارك وتعالى، والمماثلة مع صورة آدم.
ويناسب هنا التذكير بكلامٍ لابن قتيبة يؤيد موقف العثيمين ويخالف الألباني رحمهم الله جميعاً. يقول ابن قتيبة في مختلف الحديث: (الذي عندي والله أعلم أنّ الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع والعين، وإنّما وقع الألف لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنّها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع).
ويقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي حين سئل عن حديث: (خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) قال: (أي على صورة الرحمن، كما ثبت في الرواية الأخرى، خلافاً للألباني ولنسيب الرفاعي، والصورة ثابتة لله تعالى في الصحيحين أنه تعالى يأتي على صورته وعلى غير صورته).
والحديث في المتفق عليه من حديث طويل: (… وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِى يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ. فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى فِى صُورَتِهِ الَّتِى يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا. فَيَتَّبِعُونَهُ).
والحق أنّ شيخنا الألباني رحمه الله قد أطال النفس في السلسلتين، لا سيما الضعيفة، في دراسة حديثية معمقة مؤصلة، وناهيك به، وهو ابن بَجْدَتِها .. وأنّى لضعيف مثلي أن يتعقب الألباني..؟ ولكنّي لدي تعليقان، فإن أصبت فالحمد لله، وذلك ما كنت أبغي، وإن أخطأت كانت الأخرى فلست بأول وارد يرجع ظمآن:
التعليق الأول: إنّ من المعروف أنّ المحدث إذا سقط عنده متن الحديث اشتد في التعقب لإسقاط السند معه. فلمّا تمسك الشيخ الألباني رحمه الله بتنزيه الله عن الصورة، وحكم على رواياتها بالنكارة، اشتد في البحث في أسانيد رواية: (على صورة الرحمن)، وخلص إلى ضعف الأسانيد، ونكارة المتن. في حين أنّ من لم ير فيها النكارة، استطاع أن يصل بسندها إلى الصحة ومنهم الإمام أحمد وابن حجر في بعض أقواله وغيرهما. فمعروف أنّ النكارة تأتي من مخالفة غير الثقة الثقات، وكان يمكن أن لا توصف الرواية بالنكارة لو لم يؤكَّد على ضعف السند، كما فعل الألباني، ولأمكن اعتبارها رواية زائدة وليست مخالفة.
وأضرب مثلاً يوضح: فصلاة التسابيح يوم أشكل متن حديثها الذي وصف كيفيتها، على بعض المحدثين، دققوا في تعقب السند وأسقطوه، حتى نقل عن الإمام أحمد قوله يوم سئل عن صلاة التسابيح قال: (لا أعدها من الدين)، ونقل عنه كراهيتها. كما أنّ ابن تيمية قال: (حديثها باطل أو كذب ولم يستحبها أحد من الأئمة). وسمعت بأذني الشيخ العثيمين لما سئل عن كيفيتها قال: (لا أعرف، لأنّي لا أراها من الدين). في حين أنّ الشيخ الألباني يصل بحديثها إلى الصحة، وينعي على من ردوها في أحد أشرطته قائلاً: (كلامهم مردود، والعلة التي قالوا بها عقلية منطقية لا قيمة لها في نقد المتون)، لأنّه لم ينطلق في بحثه من نكارتها، ونعى على غيره ذلك.
فأمامنا النموذجان، فالشيخ العثيمين لم تشكل عليه متون تلك الروايات عقدياً، فأمرّها كما جاءت. بينما رأى الشيخ الألباني المتن مشكلاً فأجهز على الأسانيد. وآتي بكلام لشيخنا يؤكد ذلك. يقول رحمه الله في السلسلة الضعيفة: (وقد يقال: إنّ الحديث يقوى بما رواه ابن لهيعة بسنده عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: (إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإنّما صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن).
قلت: قد كان يمكن ذلك لولا أنّ الحديث بهذا اللفظ منكر كما سبق بيانه آنفا،
فلا يصح حينئذ أن يكون شاهدا لهذا الحديث).
ولا يخفى أنّ سبب الحكم بنكارة المتن يرجع إلى اعتقاد مسبق مخالف لدى المحدّث. وإنّ غيره من العلماء لم يره مخالفاً بل رآه تفرداً واعتبره مفسراً. والفرق في علم مصطلح الحديث بين التفرد والمخالفة كبير.
التعليق الثاني: وقصدت منه بيان اختلاف المحدّثين في الحكم، بل الدفاع عنه وأنّه ليس بين مخطئ ومصيب دائماً .. ولا بد أن نستحضر بعض ما قاله علماء الحديث عن العلة.
يقول ابن حجر: (وَهُوَ مِنْ أَغْمَضِ أَنواعِ عُلومِ الحَدِيثِ وَأَدَقِّهَا، وَلاَ يَقُومُ بِهِ إلاَّ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تَعَالَى فهْمًا ثاقِبًا، وَحِفْظًا وَاسِعًا، وَمَعْرِفةً تَامَّةً بِمَرَاتِبِ الرُّوَاةِ، وَمَلَكَةً قويَّةً بِالأَسَانِيدِ وَالمُتُونِ).
وقال عبد الرحمن بن مهدي: (مَعْرِفَةُ الحَدِيثِ إِلْهَامٌ، فَلَوْ قُلْتَ لِلْعَالِمِ يُعَلِّلُ الحَدِيثَ: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا؟، لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ).
وقيل له أيضاً: (إِنَّكَ تَقُولُ لِلشَّيْءِ: هَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ، فَعَمَّنْ تَقُولُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَتَيْتَ النَّاقِدَ فَأَرَيْتَهُ دَرَاهِمَكَ، فَقَالَ: هَذَا جِيدٌ، وَهَذَا بَهْرَجٌ، أَكُنْتَ تَسْأَلُهُ عَمَّنْ ذَلِكَ؟).
ففي إعلال الحديث أحياناً خفاء، ويصر المحدّث رغم ذلك لما مرّ بيانه. بل إنّ بعض علماء الحديث قالوا: إنّ في الإعلال شيئاً من الإلهام. فإذا سلم للمحدّث الثقة بمنهجه، والبعد عن الهوى، والميل لأي جهة، فهو محق في الحكم على الحديث ولو خالف أو خولف.
وفي النهاية: أجدني مع الاتجاه الذي يمثله الشيخ العثيمين رحمه الله في هذه المسألة … والله أعلم