موضوع الوعد والوعيد من الموضوعات الهامة جداً في العقيدة الإسلامية، وكل موضوعاتها هامة. لكنني أشرت إلى الأهمية لأنّه موضوع ضلت فيه بعض الفرق في الماضي وحادت عن سواء السبيل. واليوم أخفق كثير من المسلمين في استيعابه، فأُغلق عليهم طريق فهم حقائق أساسية في العقيدة، وبالتالي فُهمت نصوص على غير وجهها، و أصبحت محل جدل. وأؤكد أنه على أهميته فإنّه يسيرٌ فهمُه لمن أراد الفهم، ويسره الله له.
معنى الوعد والوعيد .. يُطلق الوعد، لغة، على ما هو خير.. ويطلق الوعيد، لغة، على ماهو شر .. جاء في لسان العرب: (قال ابن سيده وفي الخير الوَعْدُ والعِدةُ، وفي الشر الإِيعادُ والوَعِيدُ). وقال الأَزهري: (كلام العرب وعدْتُ الرجلَ خَيراً ووعدته شرّاً وأَوْعَدْتُه خيراً وأَوعَدْتُه شرّاً فإِذا لم يذكروا الشر قالوا وعدته ولم يدخلوا أَلفاً، وإِذا لم يذكروا الشر قالوا أَوعدته ولم يسقطوا الأَلف … وأَنشد لعامر بن الطفيل:
وإِنّيَ إِنْ أَوعَدْتُه أَو وَعَدْتُه … لأُخْلِفُ إِيعادِي وأُنْجِزُ مَوْعِدِي)
وهذا البيت ينسجم مع ما كان عليه العرب من كرم مادي ومعنوي، من ذلك أنْ يُنجز الوعد لأنّه خير، وأنْ يُخلف الإيعاد لأنّه شر. ومن باب أولى أنْ يكون ذلك لله. فذلك اللائق به تقدست أسماؤه، وتعالت صفاته. وهو الذي بكرمه وجوده ورحمته مع عباده يُنجز لهم ما وعد غير منقوص، ولا يجعل وعيده لهم لازماً إنجازه، وإنّما يكون للتخويف والنذارة .. وشرع لوعيده ما يُكفره ويمنعه، مثل الحسنات الماحية، والتوبة المطهرة، والمصائب المكفرة، والشفاعة المنجية.
وللإيضاح نُمثل: نصوص كثيرة تقول إنّ الزناة في النار، وإنّ آكلي الربا في النار، ووفق منهج أهل السنة والجماعة نفهم أنّ مَن فعل ذينك الذنبين استحق عقوبة النار. ولكن هل يلزم من ذلك الاستحقاق أنْ يدخلها؟ نقول لا يلزم ذلك، لأنّ الله برحمته جعل لهذه العقوبة موانع أنْ تُنفذ .. كأن يتوب صاحب الذنب توبة نصوحاً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، أو قد تكون له حسنات ماحية، والله يقول: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، والرسول يقول: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، وقد تكون له مصائب مكفرة كالأمراض مثلاً، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
(أن رجلاً من المسلمين قال: يا رسول الله أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟ قال: (كفارات). قال أُبي: يا رسول الله وإن قلّت؟ قال: (وإن شوكة فما فوقها)). ويقول عليه الصلاة والسلام: (الحمى حظ المؤمن من النار يوم القيامة). والأخيرة أنّه قد تناله شفاعة الشافعين، أو رحمة رب العالمين فيغفر له.
ومعلوم أنّ للملائكة، والأنبياء، والمؤمنين شفاعة يوم القيامة، تأتي بعد ذلك مغفرة الرحمن. جاء في حديث الشفاعة الطويل: (شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خير قط قد عادوا حمما).
أما في الماضي فقد ضل في الوعد والوعيد طائفتان، هما المرجئة والخوارج. أما الخوارج فتوسعوا في الوعيد، وقالوا: (كل من أُطلق عليه الوعيد فينفذ في حقه، إذاً كلهم يدخلون النار). وأما المرجئة فتوسعوا في الوعد وأنكروا الوعيد، فقالوا: (يجوز ألا يدخل النار منهم أحد لأنهم يقولون: لا إله إلا الله). والوسط دائماً مع أهل السنة والجماعة الذين قالوا: (يدخل بعضهم وبعضهم لا يدخل، بحسب الشروط والأسباب والموانع). ومن جميل كلام أهل السنة والجماعة أنّ الباحث لا يمكن أنْ يقف على نص عارضوه أو حكم خالفوه. أما أهل الفرق الأخرى فيعملون ببعض الكتاب، ويدعون بعضاً. يقول أهل السنة والجماعة: (نصوص الوعيد عامة، ولكن الوعيد مقيد بعدم التوبة، وكذلك نصوص الوعد عامة، ولكنها مقيدة بعدم الكفر)، فكما يُقيدون نصوص الوعد، فكذلك يقيدون نصوص الوعيد.
قد عرفنا ما كان في القديم من انحراف. أما في الحديث، فإنّ الجهل بمفهوم الوعد والوعيد نتج عنه فهم خاطيء لبعض النصوص، وقد أدى أحياناً إلى ردها. وأبرز وأخطر مثال أضربه، وقد اجتمع فيه ضلال قديم بضلال حديث. تعلمون جميعاً حديث افتراق الأمة، وكم يحتاج المسلمون اليوم هذا الحديث ليعالجوا به الأوضاع المتردية التي لم يسبق لها مثيل. وأبرز ما في حديث الافتراق، ما دل عليه النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين ليقوموا من كبوتهم ويحيوا أمتهم، وينالوا القبول عند ربهم، في التزام منهج (ما أنا عليه وأصحابي) اعتقاداً وعملاً. والذين حاولوا سحب الحديث من ساحة العمل، مجاملة وإرضاء لأهل الافتراق، تحدثوا عن نكارة الحديث بسبب جملة (كلها في النار إلا واحدة)، فردوا الحديث بأنّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم مرحومة، فكيف يكون اثنتان وسبعون فرقة منها في النار؟ ولو فقهوا معنى الوعيد ما قالوا، لكنّهم لا يُريدون الفقه، وإنّما همّهم إسقاط الحديث، وزيادة ضياع للأمة. ولو فهموا أنّ هذا من الوعيد والنذارة والتحذير، وأنّه لن يُصيب إلا من هو مستحق له، بعلم الله، لقبلوا الحديث، وتركوا الأمة تنتفع به دون تشويش. وأما من يتقيه، أي الوعيد بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، فلن يناله ذلك الوعيد إذا سلم من الكفر.
مثال آخر، قول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا مَعْشرَ النساء! تصدَّقْنَ، فما رأيتُ من نواقصِ عقلٍ – قطُّ – أو دينٍ أذْهبَ لقلوبِ ذوي الألبابِ منكنَّ، وإني رأيتُكُنَّ أكثرَ أهلِ النارِ يومَ القيامةِ، فتقرَّبنَ إلى الله بما استطعتُنَّ). إنّ هذا الحديث أقام أنصار المرأة ولم يقعدهم، وعاونهم بعض الجهال. إنّ الحديث أبعد ما يكون عن تيئيس النساء من السلامة من النار، ولا يُمثل تحاملا على جنس حواء. إنه تحذير ونذارة وتخويف، فهو من أحاديث الوعيد.
ومثل الحديث السابق قوله عليه الصلاة والسلام: (خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية، إذا اتقين الله، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم). ومثله الحديث الآخر: (لا يدخل الجنة من النساء إلا من كان منهن مثل هذا الغراب في الغربان). والغراب الأعصم هو الغراب أحمر المنقار والرجلين، وهو نادر في الغربان.
إذاً، أهم ما في بحثنا أنّ كل وعد لا بد أنْ يُنجزه ربنا تبارك وتعالى لأهله، وهو مقيد بقيد واحد وهو (السلامة من الكفر)، ومثال ذلك الحديث الصحيح: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). ويتصل معنى الحديث بالآية (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)، فما الذي جعل الأعمال الصالحة هباء منثوراً، والله بعدله وكرمه، لا يُضيع عمل عامل؟ إنّه الكفر، ولا ينفع مع الكفر عمل.
كذلك فإنّ نصوص الوعيد مُقيدة أيضاً بتوافر الشروط، وانتفاء الموانع. فلو أنّ الإنسان فعل فعلاً مما توعد الله عليه بالنار فهل نحكم بأنّه من أهل النار؟ الجواب: لا، لأنّه لا بُد من أنْ ننظر هل الشروط متوافرة؟ والمقصود بالشروط شروط دخول النار، كفعل مُحرّم منهي عنه، فإنْ وجدت الشروط، فهل الموانع منتفية؟ والمقصود بالموانع، ما يمنع من دخول النار، وحلول الوعيد. فإنْ انتفت الموانع وتوافرت الشروط ثبت الحُكم على الشخص. والموانع ذُكرت سابقاً، وهي: التوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، والشفاعة.
بقيت فكرة قصيرة خطيرة إنّ الجهل بأحكام الوعد والوعيد، أسهم إسهاماً كبيراً في شيوع فتنة التكفير، وأي فتنة، وكم جرت على المسلمين من ويلات وخراب … هذا، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.