Skip to main content

حُسْنُ الظَّنِّ بِالله، وَالثِّقَة بِمَا عِنْدَهُ

By الخميس 11 رجب 1436هـ 30-4-2015ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, عقيدة

عن عبد الله قال: (أصاب النبي صلى الله عليه وسلم ضيفاً، فأرسل إلى أزواجه يبتغي عندهن طعاماً، فلم يجد عند واحدة منهن، فقال: (اللهم إنّي أسألك من فضلك ورحمتك، فإنّه لايملكها إلا أنت). فأهديت له شاة مصلية، فقال: (هذه من فضل الله، ونحن ننتظر الرحمة)).

موقف في غاية الإحراج، والأبواب المعتادة التي يُتَلمس عندها الحل بأدنى أشكاله، طُرقت كلها، والنتيجة سلبية .. ودون أدنى تردد يُطرق باب الكريم الرحيم، بعبارة ملؤها التوحيد والثقة (اللهم إنّي أسألك من فضلك ورحمتك، فإنّه لايملكها إلا أنت). فإذاً بالمطلوب وزيادة، في الباب، وقبل أنْ تصل الأيدي إلى الطعام، كان لا بُد من أنْ يُبَلَّغ درس التوحيد، والثقة بالله وبما عنده، مباشرة، لمن شهد الواقعة، وبأبسط عبارة وأوضحها (هذه من فضل الله، ونحن ننتظر الرحمة).

وفي العبارة النبوية الأخيرة ضربان من التوحيد (هذه من فضل الله)، فنسبة ذلك العطاء إلى الله الكريم الرحيم، من توحيد الربوبية. و(ونحن ننتظر الرحمة) تقرير أنّ العبد تحت رحمة ربه كل لحظة، وهو دائماً يرجوها، وهذا من توحيد الألوهية. فهل يا ترى وصل إلينا الدرس، وهل وعيناه كما ينبغي..؟

لماذا كان هذا التساؤل، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم في منتهى البساطة، والوضوح..؟ لأنّي قد عرفت من مجالسة الناس ومناقشاتهم طرائق تفكيرهم، فقد يثور في أذهان بعضهم لدى سماعهم قصة كهذه، أفكار تَذهب بفعل القصة في نفوسهم. كأن يخطر ببال بعضهم مثلا أنْ يقول: طبيعي جداً أنْ يحدث مثل ذلك لنبي الله عليه الصلاة والسلام، ولا غرابة..! فيبطل مغزى القصة، ويضيع فرصة الانتفاع بها، ويفوت لحظة تأمل، يليق أنْ تكون..! أَوَهَكَذا يُتَعامل مع هدي النبي..؟ وكأنّ لسان حال مَن هذا حاله، يريد أنْ يقول: هل من الممكن أنْ يحصل معي، أو مع غيري مثل هذا الليلة..؟ والجواب، بكل ثقة، نعم..! ولكن بشرائطه، ولا بد من تفصيل:

أولاً: مما يعين على إيضاح المسألة، أنْ يعلم المسلمون أنّ السيرة النبوية ليست سجلاً تاريخياً لوقائع حياة، وما فيها من نشاطات وحسب، بل إنّ الجانب التعليمي للأمة، هو الجانب الأهم في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة. ولنقل: هو ما يسمى عند التربويين، التعليم بالقدوة، ويبقى ديناً، كالتعليم بالنصوص. ولنتذكر للفائدة تعريف السنة النبوية عند المحدثين، يقولون: (السنة: هي كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو إقرار). والسيرة في كثير من جوانبها تقدم النبي عليه السلام كواحد من الأمة، مخاطبٍ بكل خطابٍ للأمة، ومكلفٍ بكل تكليفٍ تُكلف به الأمة. وهو بشر، يغضب ويرضى ويحزن ويفرح، ويجوع ويشبع، ويمرض، ويُواجَهُ بالمواقف الصعبة، ويناله الأذى، كأي واحد من أمته..! والاستثناءات والخصوصيات في حق النبي عليه الصلاة والسلام قليلة جداً ولها مسوغاتها. وكلها منصوص عليها، لتبقى الأسوة في ما سواها .. ويكون من التكليف العام في الدين، خطاب الله للمؤمنين بهذه الآية (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، والغاية تعليم الأمة بشخص رسولها، وهو الأبلغ .. ومهم جداً أنْ يَنتبه كل مسلم لتتمة الآية الكريمة (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، ففي ذلك بيان من الله أنّ الائتساء برسول الله عليه السلام يتفاوت فيه المسلمون، لأنّه مرتبط بقوة الإيمان ورجاء مرضاة الله، والفوز في الآخرة، والحفاظ على ذكر الله. والائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك واجب شرعي، والائتساء يكون في كل أمر، ولا استثناء. فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تجسيد لكل تعاليم وأخلاق دين الإسلام، في شخص نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام.

وذكر القرطبي عن الخطيب البغدادي أثراً يرويه مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: ((لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قَالَ: فِي جُوعِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم). وتعجبني كلمة لأحد الدعاة، يقول: إنّ أحداث السيرة النبوية (مفتعلة)، بمعنى أنّها أريد وقوعها من الله، لصالح زيادة البيان في تعليم الأمة.


ثانياً: انتهينا في الفقرة السابقة إلى أنّ الائتساء بالنبي عليه السلام واجب شرعي ليكون التدين متابعة دقيقة لنبي الأمة. والنبي يجد نفسه في حرج أو ضيق فيسأل ربه ويجيبه. وكل مسلم في الأمة يصيبه الشيء نفسه، وكما يجيب الله سؤل نبيه عليه السلام فإنّ كل مسلم يدعو ربه ويسأله، فربه يستجيب له، لعموم قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). والراغب عن دعاء ربه وسؤاله حاجته، مَلومٌ مغضوبٌ عليه..! فقد جاء في الحديث الصحيح (إنّه من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه). ولا يُمكن ديناً وعقلاً، أنْ يحض الله عباده على دعائه وسؤاله دون تحقق الإجابة..! ولكن لاستجابة الدعاء شروطاً، لا بُد أنْ يعرفها المسلمون. أهمها أنْ يكون الداعي من أمة النبي عليه السلام أهلاً لأن يستجاب له، وفي ذلك تفصيل:

أ. إنّ من يدعو الله لحاجته، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يجب أنْ يكون على جانب جيد من التدين، مقيماً لشعائره، فاعلاً للخير، ما يُرشِّح الداعي لأنْ يكون مستجاب الدعاء. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ).

ب. كما أنّ من يدعو الله لحاجته يجب أنْ يكون على يقين أنّ الله عالم بحاله، ولكنّ الله أدرى بما يصلح حاله، وقد يكون الله تبارك وتعالى قد استجاب له بطريقة خفيت عليه. يبين النبي عليه السلام هذه الفكرة الخافية على كثيرين، في الحديث الآتي:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عنهُ من السُّوءِ مثلَها) قَالُوا: إِذنْ نُكثرُ قَالَ: (الله أَكثر)). ومن وعى هذا الحديث فَهمَ أنه لا يجوز استبطاء الإجابة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِى).

ج. أنْ يكون الداعي، مكتسباً للرزق الحلال، وكم يعاني الناس من هذه المشكلة، في واقعنا، أعني مشكلة الكسب الحلال. جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ).

خاطرة عُرضت بعجالة، ولم تحظ بكل ما يَحْسُن أنْ يقال فيها، لكن بيت القصيد أنْ نتعلم من نبينا كيف نلجأ إلى الله في كل شأن، واثقين محسني الظن .. والأهم أنْ نتعلم كيف يجب أنْ يكون حالنا مع الله، ومما يضبط هذه الفكرة الحديث النبوي الآتي: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).

وإذا كان الكلام عاماً في ما سبق، فحري أنْ نخص بالتذكير من اشتد بهم البلاء، ونزل بسوحهم البأس، وبدأ ينتشر في الإقليم كله .. وصار اليأس مما عند أهل الأرض، يملؤ كل نفس. والحل رسمه النبي صلى الله عليه وسلم تحمله إلى الناس عبارتان نبويتان: (حتى ترجعوا إلى دينكم) ، و(ونحن ننتظر الرحمة). وعلى الله قصد السبيل.