لقد كثر في زماننا، وأخصص أكثر فأقول: في السنوات الأخيرة، التطاول على المحدثين، وعلم الحديث، وأهل الحديث .. والافتراء على هذا التراث الزاخر الذي أدهش أهل العقل والفكر من المعاصرين في عالم الغرب، بما أنتجه العقل المسلم، قبل عقد أو أكثر من القرون، من قواعد وضوابط للرواية، وكيف يُحكم بهاعلى المرويات من حيث صلاحيتها للاحتجاح أم لا، وغير ذلك من قواعد القبول والرد، فكان علماً غير مسبوق، ومعرفةً تَفرَّد بها أهلُ الإسلام.
وكل ذلك تلخصه قاعدتان معبرتان عن هذا التراث المنضبط، بدرايةٍ وعنايةٍ وروايةٍ. يقول عبد الله ابن المبارك رحمه الله: (الْإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ). ويقول محمد بن سيرين رحمه الله: (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ)، والقاعدتان مثبتتان مخرَّجتَيْن في مقدمة صحيح مسلم.
والذي يضرب به المثل في واقعنا اليوم عن هذه الظاهرة هو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أبو عبد الرحمن رحمه الله، الذي صوبت نحوه معظم السهام .. والضالعون في ذلك الإفك أحدُ رجلين: واحدٍ انخرط في تيار يناصب السنة والحديث وأهلهما العداء، وهذا قديم في التاريخ الإسلامي، وسيبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها. لأنّ عداء أهل الباطل للإسلام وأهله لا يتوقف أبدا، والصراع بين الحق والباطل من سنن الله الكونية، والتاريخ مليء بالشواهد.
وآخرَ، من الجهل خرج وإليه يعود، لكن ارتضى لنفسه مهمة البوق، يُصَوِّتُ وما يعي ما يخرج عنه، وأليقُ ما يوصم به الكذبُ، لأنّه كالنائحة .. وأتذكر حكاية عن عمر رضي الله عنه، وللذكرى قبل الحكاية، فإنّ النياحة منهيٌ عنها في الإسلام، والنائحة مُتَوَعَّدة، ففي صحيح مسلم: (النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ). وإلى الحكاية:
(أمر عمر رضي الله عنه بضرب نائحةٍ حتى بدا شعرها. فكُلِّم في ذلك فقال: لا حرمة لها؛ إنّها تأمر بالجزع وقد نهى الله عنه. وتنهى عن الصبر وقد أمر الله به. وتفتن الحي، وتؤذي الميت، وتبيع عبرتها، وتبكي شجو غيرها. وإنّها لا تبكي على ميتكم، وإنّما تبكي على أخذ دراهمكم).
ولعل النائحة أحسن حالا من هذا، فتلك كسبت مع الإثم مالاً، أما هذا فباء بالإثم وحده، فقد باع نفسه للباطل تَطَوُّعاً بلا ثمن..! ونعوذ بالله من سوء المنقلب!
وعلم الحديث ومصطلحه، علمٌ شريفٌ دقيقٌ، فيه من الخفايا والخبايا والنِّكات ما يخفى على علماء، إن لم يكونوا متخصصين فيه..! وأحب إيضاح معنىً في لفظة (النِّكات)، غير المعنى الشائع عند العوام، جاء في معاجم اللغة: (والنُكتة؛ الفكرة اللطيفة المؤثرة فِي النَّفس، وَالْمَسْأَلَة العلمية الدقيقة يُتَوَصَّل إِلَيْهَا بدقة وإنعام فكر) .
فأي جامعة، أو مؤسسة علمية تعطي هذا التخصص؟ هذا العلم الشريف، فوق كل الجامعات والمؤسسات العلمية..! لأنّه جُبل ببركة الوحي، ووُجد في نفوس المحدثين، بقدر الله، ليكون صيانةً للوحي، عن أن يعتريَه ما ليس منه من كلام أهل الأرض. وكيف لا يشرُف ويعظُم ويكبُر وَأصحابه هم خاصة النبي صلى الله عليه وسلم من البشر؟! وما أصدق، وما أُحَيْلى هذين البيتين اللذين أنصفا أهل الحديث، وعزَّراهما، ولطالما يترددان في كتب العلم:
يا سادة عندهم للمصطفى نسب |
رفقا بمن عندهم للمصطفى حسب |
ولا أجدني راغبا في طي ذكر أهل الحديث وأصحابه، قبل إثبات بعض مقولات العلماء في أولئك القوم:
يقول أبو حاتم الرازى رحمه الله : (لم يكن فى أمة من الأمم منذ خلق الله آدم، أمناء يحفظون آثار الرسل إلا فى هذه الأمة. فقال له رجل: يا أبا حاتم ربما رووا حديثاً لا أصل له، ولا يصح؟ فقال: علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم ذلك للمعرفة، ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها).
وقال قائلهم: (لكل دين فرسَان، وفرسان هَذَا الدَّين أَصْحَاب الْأَسَانِيد).
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه تأويل مُخْتَلِف الحَدِيث يمدح أهل الحَدِيث: (التمسوا الْحق من وجهته وتتبعوه من مظانه، وتقربوا إِلَى الله باتبَاعهمْ سنَن رَسُول الله وطلبهم لأخباره برا وبحرا وشرقا وغربا، يَرْحَلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ رَاجِلًا مُقَوِّيًا [أَي: نازلًا بالقفر من الأَرْض]، فِي طَلَبِ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوِ السُّنَّةِ الْوَاحِدَةِ، حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنَ النَّاقِلِ لَهَا مُشَافَهَةً.
وَلم يزَالُوا فِي التنقير عَنْهَا والبحث لَهَا حَتَّى عرفُوا صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، وَعرفُوا من خالفها إِلَى الرَّأْي، فنبهوا على ذَلِك حَتَّى نجم الْحق بعد أَن كَانَ عافيا، وبسق بعد أَن كَانَ دارسا، وَاجْتمعَ بعد أَن كَانَ مُتَفَرقًا، وانقاد للسّنة من كَانَ عَنْهَا معرضًا، وتنبه عَلَيْهَا من كَانَ غافلا).
وأختم هذه النقول بما قاله ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: (وأما أهل العلم فكانوا يقولون عن “أهل الحديث” هم “الأبدال، أبدال الأنبياء، وقائمون مقامهم حقيقة، ليس من المُعدمين الذين لا يعرف لهم حقيقة، كل منهم يقوم مقام الأنبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه: هذا في العلم والمقال، وهذا في العبادة والحال ، وهذا في الأمرين جميعًا ، وكانوا يقولون: هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، الظاهرون على الحق؛ لأن الهدى ودين الحق الذي بعث به رسله معهم، وهو الذي وعد الله بظهوره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا.
إن الذين يعيبون أهل الحديث ويعدلون عن مذهبهم جهلة زنادقة منافقون بلا ريب، ولهذا لما بلغ الإمام أحمد عن “أبي قتيلة” أنه ذُكر عنده أهل الحديث بمكة، فقال: قوم سوء، فقام الإمام أحمد، وهو ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، زنديق، ودخل بيته).
هل بعد ما قيل، من قول في هذه الطائفة المباركة، بإذن الله..؟
ولا أنسى أن أطرح سؤالا وجوابه: لماذا كان أهل الحديث ومن والاهم هدفا وغرضا للعداوات؟ أقول: لعل من قرأ السطور السابقة يجد الجواب. وألخص الجواب، حتى لا يطول بنا الكلام بكلمة جامعة لأحد علماء السلف: (إنّ من استهدف أهل الحديث فقد استهدف الإسلام)
وقد صدق وايم الله.
وفي مباحث علم مصطلح الحديث مبحث (العلل)، والمقصود علل الحديث، وأبسط تعريف للعلة في كتب المصطلح، هو الآتي: (العلة عبارة عن سبب غامض خفي يقدح في صحة الحديث. والحديث المعلل هو الحديث الذي اطُّلِعَ فيه على علة تقدح في صحته مع أنّ ظاهره السلامة منها).
ولماذا الحديث عن علة الحديث الآن؟ إنّنا لا يمكن أن نستبين المهمة العظيمة التي تُبَوِّئُ المحدثين أعلى الرتب، ما لم نلمَّ إلمامة عجلى ببحث علل الحديث .. والتفصيل من ثلاثة وجوه:
أولاً: يكاد يكون البحث في علل الأحاديث، أعقد وأصعب وأهم وأخطر مهمة تواجه المحدثين لدى دراستهم أسانيد الأحاديث. ولعلنا ندرك أهمية ودقة البحث في العلل، إذا ذكَّرنا (بعلم الرجال) وهو العلم التوأم والمتمم (لعلم الحديث)، وهو الأصل والمرجع في دراسة العلل، وهو بحر، لا قاع لغوره، ولا ساحل لاتساعه.
وليس البحث في العلل علما قائما على قواعد وحسب، فما على الباحث إلا تطبيق القواعد! إنّه علم يحتاج في استخلاص النتائج منه إلى تمكن الباحث وإحاطته بكل ما يتصل بعلم الحديث والرجال، ودربةٍ وخبرةٍ وبداهةٍ واجتهاد وإلهامٍ، وكل ذلك لا يتأتى للعالم إلا بعد سنوات طويلة، وصبر وجلد وخوض في أغوار هذا العلم وتشعباته، وفوق كل ذك خشية الباحث من دخول (المنطقة المحرمة)، وهي القول على الله بغير علم .. ولا ننسى أنّ البحث مُسلط على الوحي الثاني، السنة، وغايته تنقيته مما قد يداخله مما ليس منه، وأعظم بها من غاية.
ثانياً:
إنّ من
البدهي
بمكان، وبعد قراءة السطور القلية الماضية التي تتحدث عن مهمة المحدثين الشاقة، أن لا نتوقع أن يخرج المحدثون بنتائج متطابقة دون اختلافات أحيانا. وهذا الأمر يجهله أكثر الناس، ومن هذا الجهل نراهم يتطاولون على المحدثين، ويضيقون ذرعا باختلافاتهم.
ثالثاً:
ولعل جهل أكثر الناس بمعرفة الجواب الصحيح عن سؤال (من هو المحدث)؟ من أهم أسباب وقوع الناس في أعراض المحدثين اليوم، والإنسان عدو لما يجهل. إنّ حصول رجل ما اليوم على درجة (الدكتوراه بامتياز في علم الحديث، مع التوصية بطبع الرسالة) لا تجعل منه مُحدثاً، يدرس الأسانيد، ويخوض في العلل، ويحكم على النصوص. لكنّه يكون، ولا بد، على إلمام جيد بهذه المهمة، وقدرة على الخوض في تفاصيلها. وتكون له معرفة بكل ما يتعلق بعلوم الحديث، وبخاصة المصطلح، وإيضاح عمل المحدثين في دراسة الأحاديث وكل ما يتصل بذلك، كذلك الاطلاع على دواوين السنة وشروح الحديث. لكن لا يصل إلى أن يسمى محدثاً.
قد قلت ما قلت، ولِيستكملَ الموضوع كل جوانبه النافعة، لإنصاف أهل الحديث، وتعريف الناس بهم لتوقيرهم. رأيت من الواجب علي، وقد تحدثت عن علل الحديث، وهو علم جليل، وأنا طالب علم، أن أستعين بعبارات أكابر العلماء من أهل الشأن. ولقد وجدت ضالتي في بحثين وافيين، عن التعريف بعلل الحديث، وتعامل المحدثين معها، في كتابين: (علوم الحديث ومصطلحه) للدكتور صبحي الصالح رحمه الله، وهو معاصر من أهل طرابلس الشام في لبنان.
وكتاب (الوسيط في علوم ومصطلح الحديث) المؤلف: محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ) ، وهو من مصر.
يقول الدكتور صبحي الصالح رحمه الله: (واكتشاف علة الحديث يحتاج إلى اطلاع واسع، وذاكرة طيبة، وفهم دقيق، لأن العلة نفسها سبب غامض يخفى حتى على المشتغلين بعلوم الحديث. قال ابن حجر: «وَهُوَ مِنْ أَغْمَضِ أَنواعِ عُلومِ الحَدِيثِ وَأَدَقِّهَا، وَلاَ يَقُومُ بِهِ إلاَّ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تَعَالَى فهْمًا ثاقِبًا، وَحِفْظًا وَاسِعًا، وَمَعْرِفةً تَامَّةً بِمَرَاتِبِ الرُّوَاةِ، وَمَلَكَةً قويَّةً بِالأَسَانِيدِ وَالمُتُونِ»
ولقد يتمكن الخبير المتمرس بهذا الفن من معرفة إحدى العلل الغامضة بضرب من الإلهام يشرح اللهُ به صدره. ولا غرو، فالمعرفة بالحديث ليست تلقينًا، وإنما هو علم يُحْدِثُهُ اللهُ في القلب قال عبد الرحمن بن مهدي: «مَعْرِفَةُ الحَدِيثِ إِلْهَامٌ، فَلَوْ قُلْتَ لِلْعَالِمِ يُعَلِّلُ الحَدِيثَ: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا؟، لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ» وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا: «إِنَّكَ تَقُولُ لِلشَّيْءِ: هَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ، فَعَمَّنْ تَقُولُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَتَيْتَ النَّاقِدَ فَأَرَيْتَهُ دَرَاهِمَكَ، فَقَالَ: هَذَا جِيدٌ، وَهَذَا بَهْرَجٌ أَكُنْتَ تَسْأَلُهُ [عَمَّنْ] ذَلِكَ، أَوْ تُسْلِمُ [الأَمْرَ إِلَيْهِ؟] قَالَ: لاَ، بَلْ [كُنْتُ] أُسْلِمُ الأَمْرَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَهَذَا كَذَلِكَ لِطُولِ المُجَالَسَةِ وَالمُنَاظَرَةِ [وَالْخُبْرِ بِهِ]» (1). ولذلك قال الخطيب البغدادي: «يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ الذِي يَنْتَقِدُ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ فِيهَا الزَّيْفُ وَالبَهْرَجُ وَكَذَلِكَ الحَدِيثُ (
ودقة هذا الفن وصعوبته واعتماده على طول الممارسة كانت سببًا في قلة التأليف فيه. وَأَجَلُّ كتاب في هذا الموضوع “كتاب العلل” لعلي بن المديني شيخ البخاري. ويلي ذلك كتاب بالعنوان نفسه للخلال، وآخر لابن أبي حاتم وقد طبع الأخير في مصر في مجلدين).
ويقول الدكتور محمد أبو شُهبة رحمه الله: (وقد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفي في نقد الدنانير والدراهم قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي: معرفة علل الحديث الهام، ولو قلت للعالم بعلل الحديث من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة، وكم من شخص لا يهتدي لذلك. وقيل له أيضًا: إنك تقول للشيء هذا صحيح وهذا لم يثبت فعمن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك، فقال: هذا جيد، وهذا بهرج. أكنت تسأل عن ذلك، أو تسلم له الأمر؟ قال: بل أسلم له الأمر، قال: فهذا كذلك بطول المجالسة والمناظرة والخبرة.
وسئل أبو زرعة الرازي: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ فقال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة، فأذكر علته ثم تقصد ابن وارة -يعني محمد بن محمد بن وارة- فتسأله عنه فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم -يعني الرازي- فيعلله، ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلافًا فاعلم أن كلًّا منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم، ففعل الرجل ذلك، فاتفقت كلمتهم، فقال: أشهد أن هذا العلم إلهام.
“تعليق على كلمة ابن مهدي أن هذا العلم إلهام”:
قد يوهم ظاهر هذه الكلمة أن هذا العلم لا يحتاج إلى طول بحث ونظر، وموازنة بين الروايات وجمعها كي يصل الإمام المعلل إلى الحق والصواب.
وهذا الظاهر غير مراد قطعًا بعد ما ذكرنا من كلمة الإمام علي بن المديني، وبعد ما هو معلوم من أن العلماء الذين اشتغلوا بعلل الأحاديث لم يدعوا وسيلة من وسائل العلم بالأحاديث، والبحث عن حقائق أمورها إلا سلكوها، وذلك عن طريق جمع الروايات ونقدها على حسب قواعدهم الدقيقة، والموازنة بينها حتى وصلوا إلى الحق والصواب في هذا، والكتب التي ألفت في العلل أكبر شاهد على هذا، إن في هذه الكتب ما يدل دلالة ظاهرة على سعة علم هؤلاء العلماء بالروايات، وعلى دقة أنظارهم في النقد. والذي يظهر لي -والله أعلم- أن أي عالم متمرس في فن من الفنون، وطالت مصاحبته له، والوقوف على حقائقه ودقائقه ، تحصل له ملكة في هذا الفن قد تصل هذه الملكة المكتسبة بطول البحث والنظر والتأمل إلى أن تجعل صاحبها ملهما في إدراك حقائق الأمور.
فمن الأطباء مثلا من حصل لهم بعد طول الممارسة لعلم الطب، ومقابلة المرضى والتعرف على أدوائهم وأمراضهم وعللهم ملكة بحيث يدرك بمجرد رؤية المريض أنه مريض بكذا، وإن لم يستعمل التفسرة التي تعينه على إدراك حقيقة مرض المريض.
كذلك الكثرة الكاثرة من أئمة الحديث ولا سيما في العصور الأولى حصلت لهم بطول الممارسة والملازمة للحديث وعلومه ملكة بها يدركون الحديث المعلول من غير المعلول بحيث لا يحتاجون إلى طول بحث ونظر، وإنما تنطلق ألسنتهم بالحقيقة بحيث يخيل إلى السامع أن هذا العلم إلهام كما قال الرجل الذي ذكرنا قصته مع أبي زرعة الرازي.
إن الواحد منا نحن معاشر المشتغلين بعلم الحديث والسنن على فرق ما بيننا وبين هؤلاء الأئمة قد تحصل له هذه الملكة بحيث يميز ما بين ما هو من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وما ليس من كلامه، ولو لم يكن عنده علم خاص في ذلك، وأيضا فالعالم العامل بعلمه هو أحق من يلهمه الله الحق والصواب والله أعلم).
ولعلنا بعد هذا التطواف، والتنقل بين محطات معرفية، ننصف هؤلاء الرجال، ونعرف لهم قدرهم مع هذ العلم الذي شرفوا به، وجعلوا دأبهم ونَصَبَهم فيه، وما حققوه من نتائج، هبة لأمة الإسلام، ونصرة وتبيانا للوحي الثاني متمثلا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويصدق في ما نحن فيه، قول الشاعر:
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم |
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا |
والحمد لله رب العالمين…