موضوع في علم الحديث
ومصطلحه، ومن يجرؤ على الخوض في هذا العلم إلا الأكابر من العلماء؟ الذين نذروا أعمارهم في خدمة هذا العلم، بل أحب أن أقول دائماً: (في خدمة الوحي المنزل من فوق سبع سماوات)، وأين أنا من أولئك..؟ .. لكنّه كلام مما تعلمناه، نتكلم فيه على قدر الحال، لمعالجة ممارسات خاطئة، ولا أقول (مخطئة)، وقواميس اللغة، ولْيُرجعْ إليها، تميز بين فعلي (خَطِئ) و(أخْطَأ)، في موضوعات شرعية وحديثية، كثر المرجفون المتعاطون معها .. والذي أثار هذا الموضوع عندي سببان: مباشرٌ، وغيرُ مباشر.
أما غير المباشر، فهو أنّي أحرص على أن أحوم حول هذا الموضوع لأعطي جرعات لشبابنا تحصنهم من مكائد تُكاد لهذا الدين، من تحالف علماني عقلاني، يعمل بنشاط للتشكيك والتشويش. يتدخلون في علم الحديث ويطرحون فكرة قد يتقبلها كثير من المسلمين بحسن نية، وهي أنّه يجب النظر في الحديث إلى السند والمتن على سواء. ويسقطون الحديث إذا لم تقبل عقولهم متن الحديث، وإن صح سنده، حتى لو كان في الصحيحين، البخاري ومسلم .. ولقد فعل هذا الشيخ محمد الغزالي في كثير من كتبه.
وأقول إنّهم لم يأتوا بجديد، إنّما الذي جاؤوا به، تحريف وتشويه لما عليه جهابذة علماء الحديث؛ فمن قواعدهم النظر إلى المتن، وكم أعِلَّتْ أسانيدُ بعض الأحاديث لشذوذ متونها. وما بحث (الحديث الشاذ) في علم المصطلح، إلا لتغطية هذه الحالة في دراسة ثبوت الأحاديث. لكنَّ هناك فرقًا كبيرا بين نظرة علماء الحديث والعقلانيين. علماء الحديث يحددون شذوذ المتن بمخالفة الثقةِ الثقاتِ في روايته. وأما الأدعياء من العقلانيين، فيعتبرون مخالفة المتن للعقل علة تسقط الحديث .. وشتان بين مشرق ومغرب! ومتى كانت المرجعية للعقل في دين الإسلام..؟
ولما فشا استعمال هذه القاعدة الخاطئة مع النصوص، ولدت انحرافاً جديداً وهو التأويل لتطويع النصوص لموافقة العقل، وأشد انحراف ظهر نتيجة ذلك الخللِ الكبيرِ كان في التوحيد، وفي أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته .. وقد بدأ هذا الأسلوب في فهم الدين مع المعتزلة، ثم ورثه عنهم الأشاعرة والماتريدية ومن على شاكلتهم من أنصار (العقل). ولا يتسع موضوعنا لتوسع أكثر في الفكرة. والمستخلص من إيرادها بيان جناية عرض النصوص على العقل.
وأما السبب المباشر ففي جلسة علمية طرح بعض الحاضرين مسألة (صلاة التسابيح)، واختلاف العلماء فيها، وقد كثر السؤال عنها في آخر رمضان. والغريب في هذه المسألة، أن يُرى جهابذة العلماء في القديم والحديث كالإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم وابن باز وابن عثيمين ومعظم علماء المملكة، يرون أنّ صلاة التسابيح ليست من الدين، والحديث فيها باطل .. بل قد لا تجد لها ذكرا في كتبهم. والذي أشكل عندهم الطريقة التي تؤدى فيها صلاة التسابيح التي جاءت في الحديث، وسنذكره لاحقا .. ويعجب الإنسان ما الذي أشكل على أولئك الكبار، حتى وصفوا الحديث فيها بأنّه باطل، وقالوا عنها ليست من الدين.
ولقد سمعت الشيخ العثيمين رحمه الله بأذني في محاضرة يقول وقد سئل عن صلاة التسابيح: (إنّي لا أعدها من الدين)، والعبارة تنسب للإمام أحمد رحمه الله. ولما سئل الشيخ العثيمين رحمه الله، عن كيفيتها أجاب: (لا أعرف ذلك مادامت ليست من الدين).
وهذه صلاة الكسوف يُزاد فيها ركوعان وهي من الدين، وصلاة الجنازة سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً في أكثر من حديث، وهي أبعد شبهاً بالصلاة العادية من صلاة التسابيح، وهي من الدين!
ومرة أخرى نقول أين الإشكال؟ والجواب: إنّ العالم إذا أوحشته غرابة متن الحديث تجرأ على سنده، وأوغل في التنقيب عما ينسفه به من علل، وجل من لا يخطيء .. لذلك فإنّ القاعدة عند المحدثين أن يكون البدء بدراسة السند دون النظر إلى المتن، وتكون معالجة المتن هي المرحلة الثانية، على طريقة الحديث الشاذ. ويؤيد الفكرة المذكورة أنّ الحديث الشاذ الذي هو قسم من أقسام الضعيف، يكون سنده في الظاهر صحيحاً، وهذه قاعدة مطردة في كل الأحاديث ذات المتون الشاذة.
وما المقصود بشذوذ المتن عند المحدثين؟ إنّه مخالفة الثقة الثقات، أو من هو أوثق منه في روايته. ولم يرد في علم المصطلح أبداً، أنه يحكم على المتن بالشذوذ إذا خالف العقل أو المنطق!!! ولكنّ العصمة لا تكون إلا للأنبياء.
وفي المقابل لموقف أولئك الكبار، لا بد من ذكر الإمام في الحديث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وقد سلك سبيل المحدثين فنقد السند ولما صح عنده بتعدد طرقه، اعتبر صلاة التسابيح مشروعة لصحة أو حسن الحديث فيها. ولم يتخذ أي موقف من المتن مادام لم يخالف شيئا من الدين .. وإلى الحديث:
في صحيح أبي داود الأم (5/ 40) باب صلاة التسبيح: عن ابن عباس: أن رسول الله قال للعباس بن عبد المطلب: (يا عباسُ! يا عَمَّاهْ! ألا أُعْطِيكَ؟! ألا آمْنَحُكَ؟! ألا أحْبُوكَ؟! ألا أفْعَلُ بك عَشْرَ خصال؟! إذا أنت فعلت ذلك؛ غفر الله لك ذنبك: أولَهُ واخرَهُ، قديمَهُ وحديثَهُ، خَطَأهُ وعَمْدَهُ، صغيرَهُ وكبيرَهُ، سِرهُ وعلانِيَتَهُ؟!
عشر خصال: أن تصلِّيَ أربعَ ركعاتٍ، تقرأ في كل ركعة فاتحةَ الكتاب وسورةً، فإذا ، فَرَغْتَ من القراءة في أول ركعة وأنت قائم؛ قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر: خمسَ عَشْرَةَ مرةً. ثم تركع فتقولها وأنت راكع عَشْرَ مَرَّاتِ. ثم ترفع راسك من الركوع، فتقولها عَشْراً. ثم تَهْوِي ساجداً، فتقولها وَأنت ساجد عَشْراً. ثم ترفع رأسك من السجود، فتقولها عَشْراً. ثم تسجد فتقولها عَشْراً. ثم ترفع رأسك فتقولها عَشْراً. فذلك خمسٌ وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات. إن استطعت أن تُصَلِّيَها في كل يوم مرةً فافعل. فإن لم تفعل؛ ففي كل جمعةِ مرةً. فإن لم تفعل؛ ففي كل شهًرٍ مرةً. فإن لم تفعل؛ ففي كل سنة مرةً. فإن لم تفعل؛ ففي عمرِك مرةً).
وعلق الشيخ الألباني بعد ذكر الحديث قائلاً: (قلت: حديث صحيح، وقد قوَّاه جماعة من الأئمة، منهم أبو بكر الأجُرِّي وابن منده وأبو محمد عبد الرحيم المصري وأبو الحسن المقدسي والمنذري وابن الصلاح).
وبعد دراسة دقيقة مطولة ذكر فيها الشيخ رحمه الله، كل طرق الحديث والمتابعات والشواهد، خلص إلى القول: (وبالجملة؛ فالحديث بهذه الطرق والشواهد صحيح، لا يشك في ذلك من كان عنده معرفة بطريقة نقد الأسانيد، والجرح والتعدبل، ووقف عليها؛ فضلاً عن غيرها مما لم يخرجه المصنف رحمه الله تعالى؛ فإنه يقطع بما ذكرنا من صحَّته).
وقد ذكر الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1314)، عقب إيراده الحديث السابق: ([صحيح] [د ن هـ وابن خزيمة ك] عن ابن عباس. المشكاة 1328، 1329، صحيح أبي داود 1173 – 1175).
ولقد وقفت على شريط مسجل في (سلسلة الهدى والنور رقم {160}) للشيخ الألباني فيه تفصيلٌ عن موقفه من صلاة التسابيح، وردٌ على من أنكروها .. ووجدت من الفائدة إثبات بعض ما جاء فيه. وهذا تفريغ لما جاء في الحديث:
(السائل: كنا نراجع نتدارس حديث صلاة التسابيح، في بعض طلاب العلم كأنهم يقولون في هذا الحديث شيء، وعندما تدارسنا السند فكانوا يتكلمون عن المتن ويذكرون أن المتن قدح فيه، لأن الصلاة هذه لم يأت لها هيئة سابقة ولا معتادة، فالسؤال هل تكلم أحد في المتن؟
الشيخ: تكلم بعضهم كما نقلت عن بعضهم.
السائل: يعني تكلم في المتن؟ الشيخ: تكلم بعضهم كما نقلت عن بعضهم.
الشيخ: أنا ما أقول تكلم في المتن، أقول تكلم بعضهم كما تكلمت أنت عن بعضهم، يعني قالوا إن هذه الصلاة تخالف هيئات الصلاة المعروفة الثابتة، هذا الذي قالوه.
السائل: مَن مِن المشهورين أو المعروفين في هذا الفن؟
الشيخ: إمامنا ابن تيمية ومن قبله ابن الجوزي.
السائل: رواه في الموضوعات.
الشيخ: أيوه. لكن كلامه مردود، لأن هذه العلة علة منطقية عقلية، ولا قيمة لها في نقد المتون الحديثية، لعلك تذكر معي صفة صلاة الكسوف وأنها ركعتان في كل ركعة ركوعان، فهذه صلاة تميزت على كل الصلوات المعهودة، فماذا يضر بعد ثبوت الحديث بذلك عن الرسول عليه السلام، على الرغم من مخالفة الحنفية لهذه الكيفية، فما يضر هذا النقد إطلاقا، يجب على كل حديثي يتوجه إلى نقد الأحاديث أن يكون نقده إياها من حيث إسنادها لا من حيث متونها، ولكن إذا لم يثبت الحديث، حديث ما، من حيث إسناده حينئذ يتوجه الناقد إن كان عنده منطق إلى نقد المتن أيضا، فيصبح الحديث ضعيفا سندا منكر متنا.
وإياك أن تغتر أنت أو غيرك بما جاء في مقدمة ابن الصلاح وغيرها من كتب المصطلح، أنه قد يكون إسناد الحديث صحيحا ومتنه غير صحيح، إياك ثم إياك، لأن هذا الكلام على إطلاقه ليس صحيحا في واقعه، ولابد من ترقيعه بتأويله حتى يستقيم الكلام، وذلك بأن يعني إسناده صحيح بغض النظر عن بعض شروط السند الصحيح التي منها أن لا يشذ ولا يعل، فقد يكون الإسناد قال فيه فلان إسناده صحيح، وهو معذور لأنه لم تتبين له العلة، والعلة كما قد تعلم إن شاء الله تنقسم إلى قسمين: علة جلية وعلة خفية، والعلة الثانية هي التي تخفى على كثير من العلماء فضلا عن غيرهم، فإذا قال قائلهم: قد يكون إسناد الحديث صحيحا؛ فهو بهذا التأويل، أما إسناد صحيح سالم من أي علة، ويكون المتن منكرا ضعيفا، هذا لا وجود له في الدنيا، إذا عرفت هذه الحقيقة فينبغي كما قلت آنفا أن يتوجه الناقد إلى الحديث بنقد الإسناد، فإذا سلم السند سلم المتن.
وإلا فتحنا طريقا على أناس يدعون أن الإسلام ليس سوى القرآن فقط، لأنهم وجدوا أحاديث كثيرة غير صحيحة، وبخاصة حينما فتحوا باب النقد للمتون الذي يسميه بعض المعاصرين المقلدين للكفار المستشرقين بالنقد الداخلي، يسمون نقد المتن بالنقد الداخلي، فلما توسعوا في النقد لم يسلم لهم من الحديث إلا القليل القليل جدا، ولذلك أيضا أعرضوا عن هذا القليل واكتفوا بالقرآن فخرجوا عن الإسلام باسم القرآن.
خلاصة الكلام حديث التسبيح لا ينزل عن مرتبة الحسن، وهو عندي صحيح بمجموع طرقه، ويكفي في ذلك أن يعلم طالب العلم أن أحد أئمة السلف وهو عبد الله بن المبارك إمام إمام أهل السنة الإمام أحمد، كان يصلي هذه الصلاة التي يريد أولئك الناس الذين ينقدونها متنا أن يسموها بحديث شاذ أو منكر، فمثل هذا الحديث وقد جاء من طرق كثيرة، وبعضها ليس فيها إلا الضعف اليسير الذي يتقوى بمثله، وقد عمل به ذلك الإمام، فلا تغتر بما ينقل من الكلام عن بعض أئمة الإسلام في تضعيف أسانيده، أو في الحكم على الإسناد بالنكارة، هذا ما عندي.
السائل: بالنسبة لما قلت كأنهم ذهبوا إلى مقدمة ابن الصلاح فكنا نتكلم فقال ذكر أنه يكون كما قلت إنه يكون السند صحيح والمتن فيه نكارة، وضربوا مثال على حديث في البخاري، ولم أطلع عليه ولكن كان في أثناء الحوار وأثناء المناقشة يقول (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وهو حرام) هل هذا في البخاري؟
الشيخ: نعم، هذا (تزوج ميمونة وهو مُحْرم) في صحيح البخاري نعم.
السائل: كأنهم يقولون هذا سنده صحيح وفي البخاري، مع هذا العلماء أنكروا هذا المتن.
الشيخ: هذا مثال صالح لما قلت لك آنفا أن المقصود أنه قد يكون الإسناد صحيحا أو المتن شاذا أو منكرا، أي صحيح باعتبار النظر، نظر الضعف في هذا الإسناد، ولكن حينما تجمع طرق الحديث فيتبين أن فيه علة أو فيه شذوذ، حينئذ لا يقول هذا المتبين لتلك العلة أو لذاك الشذوذ هذا إسناد صحيح، كيف وصاحبة العلاقة وهي ميمونة تقول: (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال) ولذلك فهذا الحديث إذا قيل إسناده صحيح فيجب أن يفسر بأن رجاله رجال الصحيح وهو كذلك فإنه صحيح، ولكنه لم يخل من علة قادحة لو لم يكن حديث ميمونة المصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي حلال لقلنا كما قال ابن عباس في حديث الصحيحين تزوجها وهو محرم، لأنه ليس عندنا ما يقدح ويبين شذوذ هذا الحديث أما وقد جاء حديث ميمونة من طرق عدة أنه عليه السلام تزوجها وهو حلال…). وهنا انقطع كلام الشيخ، وسقطت الجملة الأخيرة من كلامه. وكأنه يريد القول: فلا بد عندئذ من اعتبار الحديث شاذا لشذوذ المتن بمخالفة الثقة من هو أوثق منه وهو ميمونة رضي الله عنها وهي صاحبة القصة.
وبعد: فأرجو من كل قاريء أن يقف ملياً مع كلام الشيخ الألباني السابق ففيه تطبيق منهجي لقواعد المصطلح على نصوص من السنة، مما يكسب طالب العلم فهماً مركزاً ويعطيه علماً مؤصلاً، ويؤكد في نفسه القاعدة العظيمة: (الحق لا يعرف بالرجال، إنّما يعرف الرجال بالحق). والصواب في النهاية مع صاحب الدليل.
وموضوعي لم يكن عن صلاة التسابيح، ولكنّها جاءت مثلا وشاهدا، وطال عنها الحديث، لكنّ الموضوع في أصله عن علم مصطلح الحديث وبخاصة عن بعض ما يتعلق بالسند والمتن من أحكام .. ولا زال عندي كلام، لأهمية الموضوع:
الأصول العلمية أن يبدأ ناقد الحديث بدراسة السند، وإذا انتهى نظر في المتن على ضوء ما توصل إليه من حال السند. وإن صح السند فلا بد أن يصح المتن. وارجع أيها القاريء لتنتفع بكلام الشيخ الألباني السابق وتحذيره من الاغترار بما جاء عن ابن الصلاح من أنّه قد يصح السند ويشذ المتن. وتعمق في تمثيل الشيخ وكيف صحح تلك القاعدة، وهو كلام نفيس قد لا تراه مبسوطا في الكتب بهذا الوضوح.
ثم أضيف، أنّ محاولة النظر في المتن ورد السند لمخالفة المتن العقل والمنطق، منزلق خطير، وإن لم يسلم منه بعض الكبار في الماضي والحاضر. لكن حينما صار اليوم تَكَأَةً للعقلانيين والعلمانيين، يردون به الأحاديث الصحيحة بالجملة، فهو مزلة الأقدام، وتحريف الإسلام، وتشويش الأفهام، فالحذر، الحذر، الحذر.
أما عن وقوع بعض الكبار في مثل ذلك، أعني النظر إلى متن الحديث فإن لم يقتنع العالم به رد به السند، فمثاله كما مر في بحث صلاة التسابيح (الإمام أحمد، ابن تيمية، ابن القيم، ابن باز، ابن عثيمين وغيرهم) .. وأذكر أنّني كنت في جلسة خاصة مع الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في المسجد، فجاءه شاب وسأله عن حديث: (ألبانها شفاء، وسمنها دواء، ولحومها داء، يعني البقر) .. فأجاب الشيخ على الفور: هذا الحديث لا يصح. فقلت للشيخ: إنّ الشيخ الألباني أخرجه في السلسلة الصحيحة على أنّه صحيح. وأذكر الآن جواب الشيخ العثيمين، ويكاد يكون بالحرف، إنّ الشيخ الألباني هداه الله ينظر في السند ويصححه، ولا ينظر في المتن .. كيف يكون حليب البقر شفاء، وسمنها دواء، ولحمها داء..؟ كأنّه رحمه الله يرى في المتن تناقضا.
وقد سمعت من الشيخ بأذني في درس له، أنّ في نفسه شيئا من حديث (الجساسة) لأنّه يراه معارضاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَعَن جَابر قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: «تَسْأَلُونِي عَنِ السَّاعَةِ؟ وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ) وهو في مسلم أيضاً.
وأذكر الآن أنّ الشيخ الألباني رحمه الله لما طرح عليه هذا الإشكال بين الحديثين، أجاب الشيخ بمنتهى البساطة هذا مثل قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ)، وقول النبي عليه السلام: (أحل لنا دمان وميتتان؛ السمك والجراد، والكبد والطحال) .. فالآية نص عام، والحديث نص خاص يستثني من العام، وينتهي الإشكال.
ولا شك أنّ شيخنا العثيمين جبل في العلم، ولكنّ الطبيعة البشرية تقضي أن لا يسلم من الخطأ بشر، وهذا ما ضمنه الإمام مالك رحمه الله قاعدته الشهيرة: (كلٌ يؤخذ من قوله ويرد، إلا صاحب هذا القبر). وقد جاءت عبارات مشابهة تنسب لغير الإمام مالك، ممن هم قبله، ومن هم بعده. ولا أريد لأحدٍ أن يُزايِدَ علي في حب شيخي العثيمين، والذب عن عرضه، فأنا لم أُذع سرا من أسراره، ولم أنشر شيئا من خصوصياته..! فما ذكرته قد نشره الشيخ في أكثر كتبه. وما ذكرت ذلك إلا في معرض الحديث عن أنّ الكبار قد يصدر عنهم ما هو خلاف الصواب، ولا يُنقص ذلك من أقدارهم.
على أنّ العمل بالنظر إلى المتون وعرضها على العقل أمر خطير في الدين، وأصل الفكرة، فكرة النظر في المتون لم تفت علماء الحديث، ولكن قعدوا لها قاعدة وهي الحديث الشاذ، وهو ما كان رواة متنه قد خالفوا فيه من هم أثبت منهم من الرواة، وقد فصلوا في ذلك. ولم يقل علماء الحديث ألبتة إنّ المتن يُعرَض على العقل. وأرى من النافع، إن شاء الله، تلخيص النقاط الرئيسية في البحث وهي:
1. إنّ الصنعة الحديثية، وقواعد ذلك العلم، تـقضي أنّ ناقد الحديث يبدأ بنقد السند، وفق القواعد المحددة لذلك العلم الشريف، فإن انطبقت شروط الصحة على السند، صار الحديث صالحا للاحتجاج، والأصل أنّ السند إذا صح، فلا بد أن يصح المتن.
2. إن لم يسلم المتن من معارضة نصوص الوحيين، أو كان مخالفا لما رواه من هم أوثق وأثبت، صار المتن شاذا.
3. إنّ شذوذ المتن يرتد على السند علة تُنزل الحديث إلى قسم الضعيف. ولنتذكر الآن تعريف العلماء للحديث الصحيح؛ وهو: ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا. وتعريف الشذوذ هو: مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه أو أرجح
منه.
4. نؤكد أنّ علم الحديث لا يعترف بأنّ الشذوذ في المتن هو عدم قبوله عقليا أو منطقيا. مع أنّ ذلك قد وقع عند بعض أكابر العلماء، وقد مر معنا كل ذلك في الموضوع المطروح.
وعوداً على بدء، أعيد الإخوة القراء إلى ما ذكرته في البداية، عن السبب غير المباشر لطرح هذا الموضوع، وهو اللقاء العلماني والعقلاني لمن يريدون التحريف والتبديل، بإحياء فكر المعتزلة من جديد .. وقد بدؤوا بطرح أفكار يتقبلها الناشئة الذين لم يتمكنوا في العلم الشرعي، ومن لُبِّس عليهم أنّ العقل هو المرجع في الدين. واستغلوا ما بين أيدي الناس من مخترعات وإنجازات، وبخاصة الإلكترونية منها كالحواسب والجوالات، وأنّها من منجزات العقل، وأن الدين يريد أن يلغي دور العقل. وأكثر الناس لم ينتبهوا إلى تحذير ربهم لهم، في ثلاث كلمات في سورة التوبة، ومعلوم أنّ سورة التوبة برمتها تتناول مشكلة النفاق والمنافقين. ورغم خطورة المنافقين على الصف المؤمن إلإ أنّ الله تبارك وتعالى نبهنا إلى أنّ الأخطر من وجود المنافقين وكيدهم، ما يمكن أن يكون في صف المؤمنين (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ).
وبمناسبة الحديث عن أعداء اليوم، أذكر بأنّ أقوى رد عليهم أن لا يكون فينا سماعون لهم، كما حذر ربنا تبارك وتعالى في سورة التوبة .. فليست المشكلة أن يندس المرجفون في صفوف المسلمين، ويتصدروا إعلامهم، ويملؤوا شاشات الفضائيات من حولهم، لكنّ المشكلة الأخطر أن يوجد بين المسلمين، سماعون لهم .. وما موضوع اليوم إلا تحركاً في هذا السياق.
أسأل الله أن ينفعنا بما علَّمَنا، وأن ننتفع بما تَعلَّمْنا، وأن يكون هذا العلم حجة لنا، وليست حجة علينا، يوم نلقاه .. والحمد لله رب العالمين