Skip to main content

(لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ)

By الأربعاء 6 صفر 1434هـ 19-12-2012ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, حديث

جزء من حديث صحيح له أكثر من رواية، اخترت للموضوع روايتين منها، وما اخترته جزء من الحديث وليس كامل الحديث.

الرواية الأولى: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا).

الرواية الثانية: (وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ).

وابتداء أقول: ليس الحديث الذي بين أيدينا بالذي يقرر أحكاما شرعية، إفعل ولا تفعل، إنّما إطار تدخله أوسع من ذلك بكثير، لأنّه يزرع في النفس البشرية عامة، والمسلمة خاصة، من طريق فحوى الخطاب، شفافية، وأصولاً أخلاقية منطقية، تُؤهل الإنسان للتعامل الناجح مع حالات ومواقف لا تحصى، منها ما يتعلق بعلاقة الإنسان مع الإنسان، ومنها ما له صلة بعلاقة الإنسان مع خالقه. ولا تخفى على أحد الصلة الوثيقة التي أقامها الإسلام بين الحياة الاجتماعية وكثير من أحكام الدين. ولا يُماري أحد أنّ كل أوامر الدين ونواهيه غايتها أنْ تضبط إيقاع الحياة البشرية على الأرض، فتحلو الحياة على الأرض، ويرقى أداء الإنسان لتحقيق استخلافه فيها .. ولولا ذلك لظل الإنسان في هذه الدنيا أسير طينيته التي خُلق منها، ولبقي عمرَه مخلداً إلى الأرض، يُحب العاجلة ويذر الآخرة، عبداً لنظرة الأنا الضيقة التي تُفسد جمال الحياة..! فحقائق الوجود والحياة، أوسع، وأعمق، وأرقى من عنصر الطين..! فقد جعل الله الدين لبني البشر رافعة ترقى بهم، بالنفحة الربانية، وبالأعمال الصالحة، والسلوك القويم، من حمأة الطين، إلى مراقي العُلا والعلياء.

والمعنى في الحديث واضح أعرضه بإيجاز. يقول صلى الله عليه وسلم، لو يعلم الناس ما يعلمه عليه السلام، من حقائق الوجود وأمور الآخرة، وبخاصة الحساب والثواب والعقاب، ومن ثم الجنة والنار، بل لو يقف بنو البشر على سر وجودهم، إذن لانقطعت نفوسهم عن كل شكل من أشكال اللهو، والفرح والمتعة التي تُنسيهم ربهم، وتُشغلهم عن طاعته، وتجعلهم يمشون مُكبين على وجوههم، متقلبين في طينيتهم وأرضيتهم ديدنهم الإفساد، ومهنتهم الإيذاء .. وقد بُيِّنت تلك الحقائق الغيبية لبني البشر من خلال نصوص الوحيين، فغدت للمؤمن بالغيب ماثلة أمامه كأنّها رأي عين، وأحسب أنّ الحديث الذي معنا يتصل بسبب واضح مع مشكلة ثارت في نفسي أبي بكر الصديق، وحنظلة الأسيدي، رضي الله عنهما، وقد طرحاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. فلنتدبر حديث حنظلة:

(عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِىِّ قَالَ – وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: لَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (وَمَا ذَاكَ). قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِى وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً)).

ولقد فهم النص، موضوع العنوان والبحث، فهماً متعسفاً فريقان:

فريق ملتزم بالدين، لكنّه فهم فهماً حدِّياً قاسياً، وهو الدعوة إلى الحزن، والتقطيب والاكتئاب، إلى حد اليأس أحياناً .. وكل ذلك يخالف حقائق الإسلام وتعاليمه.

وفريق مُتربص بالدين، يُريد اقتناص معان مشوهة ومشوشة، بفعل فهمه السقيم والمغرض من بعض النصوص، ليسحب في النتيجة التشويه والتشويش على الدين كله، فيرون في الدين تحطيما للنفس البشرية، بتسليط سيف العقاب، والعذاب والإحراق بالنار عليها باستمرار.

وأقول للفريقين: لقد وقعتم في فهمكم وحُكمكم على النص في ما يسميه الأصوليون (المصادرة على المطلوب) وتبسيط القاعدة: أنّ أحد المتحاورين يُصادر فهماً أو دليلاً ليس مسلماً بهما لا عقلاً ولا شرعاً، ويفرضه لبرهان ما يذهب إليه .. فأقول للفريقين معا: إنّكما التقيتما في (المصادرة) معاً، فلزم أنْ يكون الرد عليكما واحداً. إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه ولم يُحرم كل ضحك، ولم يأمر أو يُوجب لزوم البكاء وترك كل مفرح .. إنّما عنى نوعاً من الضحك والفرح والتنعم الذي يُنسي الإنسان همّ الآخرة، فيقع في معصية ربه .. وأُقَرِّب المسألة من الفهم، بمثال قرآني يضم مجموعتين من الآيات يقول تبارك وتعالى في المجموعة الأولى: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ويقول: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ).

ويقول جلّ وعلا في المجموعة الثانية من الآيات: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ويقول عن الشهداء: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). وأكتفي بهذه النصوص تجنبا للإطالة وأطرح التساؤلات الآتية للفريقين:

هل الفرح في المجموعتين من مشكاة واحدة..؟

وهل الباعث على الفرح في النصوص واحد..؟

وهل الفرحون في النصوص المذكورة من شاكلة واحدة..؟

وهل السياق والسباق، في النصوص السابقة يظللها جو واحد..؟

أترك المناقشة والإجابة عن تلك التساؤلات للقاريء..! وأُذكّر الفريقين بإمعان النظر في حديث حنظلة، وما يتجلى في الحديث من واقعية الإسلام .. وأُذكر بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

والذي أكتفي بقوله للفريق الأول: ليست حدِّيَتُكم في فهم مقصود النبي عليه السلام بخصوص الفرح والضحك والمتعة، في الحديث النبوي، صائبة .. وأقول للفريق الثاني: ليس فهمكم المُتربص صادقاً .. وأُتابع الحديث، فقد سبق أن قلت: إنّي لا أزعم أنّ النبي عليه السلام نهى عن الضحك والفرح وما يتصل بهما، فحرّم ذلك على المؤمنين، ولا ينبغي لي ذلك، لأنّ الأمر والنهي والتحليل والتحريم ليست إلا لله ورسول، ويحرم على بشر كائن من كان، أنْ يُنازعهما ذلك، أو ينسب إليهما شيئاً من ذلك بفهم مُتعسف، من غير دليل صحيح صريح..! والنص الذي بين أيدينا لا يشي بذلك. لكنّ الاستشهاد به وجعله عنوان ومحور موضوع دعوي، إنّما من مَوْلِج آخر عليه. فالرسول عليه صلوات الله وسلامه إنّما أحال كل مسلم، إلى أخلاق وسلوكيات ومواقف، يتعايش بها مع بني جنسه من البشر، فتُخفف من غلوائه، وتُهذب من طِباعه، وتُعدل إعجابه بنفسه الذي يصل حد الغرور، من منطلق أنّ أُفق الحياة أرحب وأسمى من التمحور حول الذات، والتكالب حول المصالح .. فيَسْعد الإنسان بذلك ويُسْعد .. ويتعامل بها مع حقائق الوجود، وتعاليم الدين، فتُوصله إلى خالقه، وما أراده منه من تحقيق الاستخلاف على الأرض.

وعلى ذلك، فالحديث، فيما أفهم، قاعدة نموذجية في العلائق بين الناس فيما بينهم، تبدأ بالفردي، وتتطور إلى الجماعي .. وهي في الوقت نفسه تسمو إلى العلو لتكون قواعد يتعامل العبد من خلالها مع خالقه، وحقائق الوجود، وتعاليم الدين.


وأبدأ بالتطبيق الأرضي الاجتماعي، بمثال فردي ضيق، فأسأل أليس مخلاً بالدين والأخلاق والأدب وحسن الجوار، والتعامل الشفاف مع الناس أنْ يكون لدى جار واقعة وفاة، وجاره الذي يشاركه البناء نفسه، ويلاصقه الجدران، تصدح عنده المعازف، وأجهزة اللهو..؟ ونوسع دائرة المثال أكثر فأكثر فنقول: هل من ذلكم في شيء، أيضاً، أن تسيل الدماء البريئة في بعض البلدان أنهاراً، ويعم الهم والغم والهدم، ثم تحرص أسرة على إقامة زواج فرد منها على الوجه الأكمل الذي اعتاده الناس، وتعاطي كل لهو حتى المحرم منه..؟ وقولوا الشيء نفسه في حفل ميلاد لطفل، أو وليمة تَخَرجٍ لطالب أو..أو..أو..! أليس ذلك ضحكاً ممجوجاً وفي غير محله، وفرحاً يُورث العداوات والضغائن بين الناس حتى القريبين، والمُقرّبين .. أو ليست قراءة ما بين السطور في الحديث تُؤصل لمعالجة هذا الشرود الذوقي والأخلاقي عند بعض الناس..؟ أو ليس يُفهم من الحديث أنّ النظرات الأوسع في الحياة، ولكل شيء، والتي تُشكل عنصر السمو الحقيقي يجب أنْ تحكم تلك النظرات الضيقة التي تتمحور حول الأنا، واقتناص كل الفرص لصالح ذاك التمحور، ولو كان في ذلك افتئات على الآخرين..؟ ولمن يستكبر، أو لا يَصدق أنْ تكون تلك الأشياء تمارس، من باب إحسان الظن، أقول له: مستعيراً صدق وجرأة تلك المرأة سفعاء الخدين من الصحابيات، التي نبذت وراءها المجاملة الآثمة، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا هل عست امرأة أن تخبر القوم بما يكون من زوجها إذا خلا بها؟! ألا هل عسى رجل أن يخبر القوم بما يكون منه إذا خلا بأهله؟! فقامت منهن امرأة سفعاء الخدين فقالت: والله إنّهم ليفعلون، وإنّهن ليفعلن…).

أمّا في ما يتصل بالدين، والعلاقة مع الخالق، من خلال توجيه الحديث، فأقول: كيف يستسيغ مسلم فرحاً وضحكاً ولهواً ومتعة، تُنسيه ربّه والآخرة، يغتالها الموت في لحظة، وتُورد صاحبها المهالك..؟ كيف تأخذ الدنيا بزخرفها وبهجتها ومُتعها وأفراحها المسلم، وهو يُوقن أنْ لا مفرّ من وقفة حساب بين يدي ربه، يقال له: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) فلا يجد إلا أنْ يقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)، أو يكون مشهد أخروي آخر: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) وما أكثر تلك المشاهد في كتاب الله جلّ وعلا، وسنة المصطفى عليه السلام، وما أقل المعتبرين بها..!

وعود على بدء، أقول: وهو اجتهاد شخصي في فهمي للحديث، وهو أنّ الناس قد علموا، فعلاً كثيراً مما يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من خلال ما جاء في الكتاب والسنة، ودليل هذا القول ما جاء في حديث حنظلة المتقدم، وفي الحديث الصحيح الآتي: (من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ { إذا الشمس كورت } و { إذا السماء انفطرت } و { إذا السماء انشقت }). لكن رؤية النبي عليه السلام كانت يقينية وبتصديق كامل .. أما البشر، فيعتري تصديقهم ما يعتريه، ونسأل الله الثبات..!

وأختم بذكر حال من أحوال نبينا الذي هو الأسوة والقدوة، والذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وَعَرف منزلته عند ربه يوم القيامة .. يتحدث صلى الله عليه وسلم عن نفسه يقول: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرنِ القرنَ، وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ، قال المسلمون: فكيف نقول يا رسول الله ؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا) … والحمد لله على نعمائه