Skip to main content

السَّكْرَتَــانِ

By الثلاثاء 20 جمادى الآخرة 1434هـ 30-4-2013ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, حديث

عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم اليوم على بينة من ربكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في الله، ثم يظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة حب العيش. وستحولون عن ذلك فلا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن منكر ولا تجاهدون في الله، القائمون يومئذ بالكتاب والسنة لهم أجر خمسين صديقاً. قالوا يا رسول الله: منا أو منهم؟ قال: لا، بل منكم).


والحديث له روايتان: عن أنس، وعن معاذ، وأخرجهما أبو نعيم في الحلية وغيره. وتعددت أحكام العلماء على الحديث، ولم أقف على حكمٍ قاطع، إلا أنّ الذي أغراني بذكر الحديث وإسقاطه على واقع المسلمين المعاصر رغم حيرتي في تصحيحه أمور عدة، لكنّها إن شاء الله تبقى في المأذون به علمياً.

1. كلام للشيخ الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 8/ 432:

(ورجاله ثقات، إلا أن محمد بن العباس بن أيوب – وهو أبو جعفر الأصبهاني الحافظ – كان اختلط قبل موته بسنين) ولم يزد على ذلك. وكان مبعث اطمئناني أنّه لم يذكر شيئا مما يعتبره المحدثون مُعكراً لعبارة (رجاله ثقات) من مثل (الانقطاع في السند) و (التدليس، بأنواعه) … واستأنست برسالة لأحد تلامذة الشيخ في الأردن، وأظنه (أبا الحارث) ذكر فيها الحديث وطرقه بإسهاب ولم يشر إلى ضعفه، وأنا بعيد عهد بقراءة الرسالة، وهي ليست في متناول يدي ليكون نقلي أكثر دقة … ويبقى الأخ المذكور حجة في ذلك.

3. مما تعلمناه من شيخنا الألباني في سياقٍ كهذا، القول: الحديث يصح معنى ولا يصح مبنى.

3. الحديث يشهد لمعانيه أحاديث كثيرة، كما يشهد له الالتصاق الكامل بواقع المسلمين اليوم.


وإلى رحلة مع إسقاطات الحديث … على شكل وقفات:

الوقفة الأولى: بداية الحديث مقارنة بين حالين، حال الصحابة الذين خوطبوا بالحديث، وحال مَن جاء بعدهم من المتأخرين من أمة الإسلام، ويعنيني أهل زماننا .. والمقارنة تتركز على ثلاث قضايا مهمة:

أ. (أنتم اليوم على بينة من ربكم) أولئك أهل بينة من ربهم، فما بالنا نحن اليوم.؟ ولنسأل من أين جاءتهم البينة.؟ والجواب بلا تردد في الحديث: (من ربكم). ولنتذكر أنّ في القرآن الكريم سورة اسمها البينة، وفواتحها: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ). فالبينة: رسول يتلو صحفا مطهرة، إذاً: كتاب وسنة … فأين الكتاب والسنة اليوم..؟ سيأتي الجواب إن شاء الله.

ب. (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في الله) إنّ مَن هُم على بينة من ربهم يصدعون بكل أمر أتاهم، أو نهي نهاهم .. وإنّ شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أسماها بعض علماء الأمة، لأهميتها في الدين، ودورها في إبقاء نبض الحياة في كل تعاليمه (بالركن السادس) … وأضيف من عندي أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي يُضفي على كل أحكام الإسلام وصف (Dynamics) … وهو ما اصطلح على ترجمته في أدبيات السياسة (الحركية)، والذي زعم كل دعاة وأنصار التنظيمات الإسلامية السياسية (وأنا أتحفظ على ذلك شرعياً) ضرورتها لتُصبح تعاليم الإسلام قابلة لتلبية متطلبات العصر الحديث، ومسايرتها، زعموا.

أعود لأؤكد وبملء الفم، وعظيم الثقة، أنّ الحركية التي يضفيها (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) على كل أحكام الإسلام، تعجز كل فلسفات الحركية، وفنون السياسة التي أفرزها العقل البشري أن تأتي بمثلها .. إنّ شعيرة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تُترجم في الحياة العملية، وبلغة يفهمها العصر على أنّها تذكرة، ودعوة، وموعظة، وحض، ونذارة، وأمر، ونهي .. وكل هذه الواجبات تعيش مع كل مسلم قادر عليها، أربعاً وعشرين ساعة، لا تتوقف إلا حين النوم. أما ميادينها: فالبيت والأهل، والسوق ومَن فيه، والعمل والزملاء، والاستراحات والجُلّاس، والمسجد والعمار، والسفر والرفقة.! والآمر والناهي يستمد لفعله القوة والشرعية والضبط من نصوص الوحيين، وسيرة النبي عليه السلام، والأصحاب ومن تبعهم بإحسان… فأي حركية بعد هذه يُريدون..؟

ج. (وتجاهدون في الله) والجهاد في الله في أيامنا الحاضرة اعتراه بعض الغبش، وسوء الفهم، والأدهى سوء التطبيق .. فبات كثير من المسلمين إذا ذُكر الجهاد في الله لم يفهموا رمزاً لذلك إلا السلاح والرصاص والقتل والشهادة، وكل أولئك في مكانها المناسب شرعاً، حق … أما في غير محلها الشرعي فهي وبال على الأمة والأفراد، وتُقصي الأهداف بدل أنْ تُدنيها، وترتهن مستقبل الأمة عند أعداءٍ متربصين، وأبناءٍ جاهلين .. إنّ مفهوم الجهاد في الأمة مُتدرج في أحوال ينتهي من السابقة ليبدأ باللاحقة وهكذا في إيقاع مُنضبط ترعاه الأدلة، ويحكمه الاتباع … وفي غير ذلك، ومع خلط الأوراق، والقفز فوق المراحل، فهو إلى الضياع والفوضى، بل الانتحار أقرب، رضي من رضي، وسخط من سخط. ولا أُريد الاسترسال في حديث الجهاد فهو حديث طويل الذيل، أُحيل فيه من شاء إلى الباب الأول من المجلد الثالث من زاد المعاد لابن القيم رحمه الله. وهو بحث قيم، وغير مسبوق، وغير ملحوق أيضاً، عن الجهاد وشروطه وضوابطه في الإسلام. وقد جعل رحمه الله اللبنة الأولى في موضوعه الرائع حديث (أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل) … وقد جعله الأساس لباقي مراتب الجهاد التي قال عنها: (فالجهادُ أربع مراتب: جهادُ النفس، وجهادُ الشيطان، وجهادُ الكفار، وجهادُ المنافقين)، وأقتبس منه الآتي كي لا أُطيل، وأنصح بقراءة ذلك الفصل النافع: (ولذلك كان جهادُ النفس مُقَدَّماً على جِهَادِ العدوِّ فى الخارج، وأصلاً له، فإنه ما لم يُجاهِدْ نفسه أوَّلاً لِتفعل ما أُمِرَتْ به، وتتركَ ما نُهيتْ عنه، ويُحارِبْهَا فى الله، لم يُمكِنْهُ جهادُ عدوه فى الخارج، فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذى بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه فى الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوِّه، حتى يُجاهِدَ نفسَه على الخروج).

وللشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله موضوع بعنوان: (دعوة إلى الجهاد العام) نشره بعد أيام من حادثة الحادي عشر من إيلول، كُنت ولا زلت أعتبره ورقة عمل للشباب المسلم في مناخات غابت فيها الحقائق وحُكمت الأهواء، وضاع التأصيل، وهاجت العواطف والعواصف.! فليرجع إليه مبتغيه، بضميمة ما أخذ عن ابن القيم.


الوقفة الثانية: رياحٌ من التغيير تهب على المسلمين، تقتلعهم من أصولهم، وتُخرجهم عن تأصيلهم، وتُقعدهم عن الخير … فما الذي حدث؟ يُخبرنا الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى: (ثم يظهر فيكم السكرتان سكرة الجهل وسكرة حب العيش وستحولون عن ذلك فلا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن منكر ولا تجاهدون في الله).

ولي مع السكرتان موقف أيام الشباب .. يوم هممت بكتابة موضوع عن (الصحوة الإسلامية) وكانت، كما يقال، حديث الساعة آنذاك، وبدأت بتقصي معنى الصحوة في قواميس اللغة، وكُنت أعتقد أنّ صحوة الأمة أعقبت نوماً بل سُباتاً، فإذا بي أفاجيء في قواميس اللغة أنّ العرب لا تطلق لفظة (الصحو) إلا على الإفاقة بعد السكر، ولا تستعمله العرب للإفاقة بعد نوم. وبقيت حائراً كيف يكون لي أنْ أصف الأمة بالسكر، وهي الأمة الوحيدة في أهل الأرض التي يُحرّم دينها الخمر وكل مسكر.! ولم أجد الجرأة فطويت البحث. وبعد سنين أوقفني الله على حديث السكرتين، فصرت أقول إنّ الأمة كانت سكرى..! وانقدح في ذهني أنّ النائم لا فِعل له ولا نشاط ولا حركة، أما السكران فله فِعل ونشاط وحركة، لكنّها بلا ضوابط إلا من الطيش والتخبط، وهو، دون شك الوصف الملائم لواقع الأمة، مادام قد جاء عن النبي عليه السلام..!

إنّما أسكر الأمة، ولازال، الجهل والانغماس في الدنيا، وبين الأمرين، كما يقولون، علاقة جدلية، جهل يَصرف عن العلم، فيُوغل الجاهل في الانغماس في الدنيا والتمحور حول ذاته ولذاته، ويُمعن الإنسان في الانغماس فينشغل عن كل خير، وفي مقدمة ذلك العلم النافع المنجي .. وهل يأمر الجاهل وصاحب الدنيا، وينهى..؟ وهل يُجاهد في الله كل أنواع الجهاد..؟ إنّ الأمة تفقد يوم تسود فيها السكرتان كل مقومات سُموها وعزتها، وكل ما يُقربها من الله ومن جنته، وكل ما يجعل الله يكف عنها بأس أعدائها! فماذا يبقى للأمة إلا فتات الدنيا، الذي تركه لها غيرها من الأمم في سباق أرضي محموم، هي منه في ذيل الركب..؟


الوقفة الثالثة: هي معكم وحدكم يا مَن لم يُسكركم ما أسكر غيركم .. ويا مَن اعتصمتم بالكتاب والسنة في وجه رياح التغيير العاتية التي حولت الأمة عن كل خير .. ويا مَن رضيتم أن تكونوا الغرباء (ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) مادام نبيكم اختار لكم هذا الوصف، ورضيتم أنْ تدفعوا الثمن مهما كان فطوبى لكم .. أما عن أجركم فلكم الأجر الذي أثار غيرة الصحابة منكم، وهو أجر خمسين، فأراد الصحابة أنْ يعلموا هل الخمسون منا أم منهم فأجابهم نبيهم (لا بل منكم). فطوبى لكم، مرة ثانية .. والحمد لله رب العالمين