العنوان جزء من آية في الأعراف، تمامها (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
وهذه الآية قارعة من قوارع كتاب الله لبني البشر. ولا يُعد عاقلاً بكل معيار، من يقف عليها، ولا يجد نفسه مضطراً للعمل بها، والانعتاق من كل ما كان عليه من زخرف القول المفضي إلى ضلال العمل..! فهل العقل يقود صاحبه إلى الهلاك..؟ إذن لا يمكن أنْ يجتمع في بشر عقل وتكذيب للحقيقة، وإنْ حصل، فهو اختلال العقل.
أهم ما تحمله الآية أنّ خيار الإنسان، مع ما جاءه من عند الله، الذي يملك الرهان عليه وقد يكسبه، رهان الوقت. فله أنْ يختار وقت التوبة والاستجابة، ويغنم إنْ كانت في الوقت المناسب .. ومن رحمة الله ببني البشر أنّ حسابهم يُختصر في سؤال، هل استجبت وآمنت؟ وليس متى؟ لأنّ الإسلام يجّب ما قبله، وكما جاء في الحديث: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ)، أي تغرغر روحه في صدره بين يدي الوفاة.
إذن الخيار الذي بيدك، أيها الإنسان، هو خيار الوقت والرهان عليه لا يكون خاسراً دائماً، بتوفيق الله ورحمته. أما الخيار الذي لا تملكه، أيها الإنسان، ورهانك عليه خاسر لا محالة، فهو خيار النتيجة، يوم تقدم على ربك، بكبرك وإصرارك على الباطل، في الدنيا، لترى نفسك تقول الذي نسيت أنْ تقوله في الدنيا، معانداً مستكبراً مختاراً: (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، والتأويل هو المآل والصيرورة، وانجلاء الأمر على حقيقته كما جاء في سورة يوسف عليه السلام (وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)، ولترى حقائق الدين التي أعماك عنها هواك، وكنت تراها في الدنيا وهماً، عين اليقين (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)، (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)، وسيجد الإنسان نفسه وقتئذ، يقول مع النادمين: (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)، و(يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)، و(قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)، ولات حين مندم.
ولنقف ملياً عند تتمة الآية (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). أفلت الزمام من اليد، وصار الإنسان بين ماض طُوي ولن يعود، وصارت نتائجه، ندماً وألماً وحسرة وأماني! ألمٌ وأملٌ، لعلهما يأتيان بمخرج، وقد تقطعت الأسباب .. ولا يأتي إلا أجوبة لا ترضي ولا تنفع، من ضل وعصى، من مثل (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) و (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا).
والآن أريد أنْ أنتقل بالقراء الكرام إلى ما هو أخطر، ومكمن الخطورة، أنّ الأمر الخطير ليس على بال الكثيرين. فكل من قرأ ما كتب حتى الآن، سيحمد الله أّنه من المسلمين المؤمنين وأنّه ليس معنيا بما سبق، وله ذلك .. وأستأذن أنْ أقول: إنّها الغفلة! فقد غاب عن كثيرين أنّ السلامة من الكبائر، ليست سلامة مطلقة في الدين! إذْ أنّ هنالك حالات يجتنب فيها المسلم كبائر الذنوب. وتثقله وتوبقه ذنوب أخرى هي من الصغائر، ولكن بمفهوم آخر.. ولا بد من تفصيل، لأنّ الآية الكريمة (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ)، قد تشي، لأول وهلة، بغير هذا المفهوم .. أي أنّ الصغائر لا تعتبر مشكلة عند الحساب! ولعل تفسير الشيخ السعدي رحمه الله يلقي إضاءة تحل الإشكال. يقول:
({وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا}، في عبادة الله تعالى، وأحسنوا إلى خلق الله، بأنواع المنافع {بِالْحُسْنَى} أي: بالحالة الحسنة في الدنيا والآخرة، وأكبر ذلك وأجله رضا ربهم، والفوز بنعيم الجنة … ثم ذكر وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِش } أي: يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات، التي يكون تركها من كبائر الذنوب، ويتركون المحرمات الكبار، كالزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، والقتل، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة. {إِلا اللَّمَمَ} وهي الذنوب الصغار، التي لا يصر صاحبها عليها، أو التي يلم بها العبد، المرة بعد المرة، على وجه الندرة والقلة، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا قال: { ِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}).
ويأتي تأكيد هذا المعنى، في الحديث الصحيح: (إياكم ومُحقراتُ الذنُوبِ، كقَومٍ نَزلُوا في بطْنِ وادٍ فجاءَ ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ حتى أنضَجُوا خبزتهم، وإنَّ محقَّراتِ الذُّنوب متى يُؤخذ بها صاحبُها تُهلِكْهُ).
الأمر الخطير الذي آريد لقارئ هذه السطور، أنْ يكون منه على ذكر، وهو في السياق نفسه. أختصره بالسؤال الخطير التالي. أليست مجانبة ومخالفة منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، في القول والعمل، هي من باب تقديم أقوال الرجال على الوحيين؟ أوليست من التقديم بين يدي الله ورسوله ونحن نعلم؟ ولنقرأ فواتح سورة الحجرات (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). ولعل وقع الآية يكون علينا أشد حين نعلم سبب نزولها.
ففي البخاري وغيره، أنّ شيخي الأمة، أبا بكر وعمر رضي الله عنهما اختلفا في مسألة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكمل من البخاري (.. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي، أَوْ إِلَى خِلَافِي. قَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، أَوْ إِلَى خِلَافِكَ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ فَنَزَلَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيء وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}).
ويقول السعدي في تفسيرها: (هذا متضمن للأدب، مع الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعظيم له، واحترامه، وإكرامه، فأمر [الله] عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان، بالله وبرسوله، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين، خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جميع أمورهم، و [أن] لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا يقولوا، حتى يقول، ولا يأمروا، حتى يأمر، فإن هذا، حقيقة الأدب الواجب، مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته، تفوته السعادة الأبدية، والنعيم السرمدي، وفي هذا، النهي [الشديد] عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم، على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها، كائنا ما كان).
ولا يغُرَّنَّكَ، يا أيها المسلم الأغلفة التي تغلف بها مخالفات الوحيين، مثل عبارات (اجتهادات المذاهب، وترجيحات الفقهاء، والاختلاف رحمة، والحق يتعدد).
فالعلم قال الله قال رسوله |
قال الصحابة ليس بالتمويه |
والسؤال يوم العرض (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ) … فأين تذهبون؟