موضوعٌ القولُ فيه كثير، والصواب قليلٌ، ولا بد من بحثٍ وتحليلٍ ودليلٍ، والله يهدي سواء السبيل…
(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ).
وبغض النظر عن كلام طويل عند المفسرين في تفسير الآيات، لا أراني مضطرا إلى الأخذ به، مادام من الرأي .. وأحب أن أعرض فهمي للآيات، منتفعا بصحيح من الأقوال سبق، ومعرضا عما جانب الحقَّ، وما اتَّسَق .. مادام ما جاء عن السابقين ليس مأثوراً لا تجوز مخالفته.
إنّ الله تبارك وتعالى يُري إبراهيم الملكوت من حوله إراءتين: إراءة الحواس والعقل، وإراءة الفطرة والتفكر للوصول إلى توحيد الربوبية وليخلص في نتيجة الحوار إلى اليقين (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) ويُعلمه قومه .. بدأ حوار إبراهيم عليه السلام مع نفسه وفق مقتضى العقل والحواس، في أنّ الأكبر من الكواكب والأكثر نورا أولى أن يكون ربا، وأنّ صفة الأفول لا تناسب الرب فمن صفاته الوجود الدائم .. ثم انتهى به الحوار مع نفسه إلى نقض قرارات العقل، أمام حقائق الواقع (الأفول) واستجابةً لداعي الفطرة المسايرة للحق، وعن ما جاء من بارئِ الخلق، المُعبَّر عنه بالهداية في قوله: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).
وأفهم من قول إبراهيم عليه السلام، بعد أن أهدر كل مقتضيات العقل، أنّه رجع إلى الفطرة قائلاً: لئن لم أهتد بالفطرة التي فطرني الله عليها، وهداني الله بها لأكونن من الضالين، وبعبارة أخرى، زيادة في الإيضاح، لئن بقيت أسيرُ وراء العقل وحده فلن أصل إلا للضلال ما لم أستجب للفطرة .. يقول ذلك تمهيدا لإعلانها واضحة صريحة مستلهمة من الفطرة: (فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
ولا بد من التأكيد أنّ إبراهيم عليه السلام لم يكن متردداً ولا متقلباً في إيمانه ولا شاكاً كما يصور ظاهر الحوار. وإنّما كان ذلك الحوار، من إبراهيم عليه السلام، مع نفسه، استدراجاً لقومه وكانوا من عبدة الكواكب، إلى الأسلوب الصحيح في الاستدلال، وكيفية الانتقال من تفكير عقلي أرضي ساذج، ارتقاءً إلى أمر علوي إلهي، تقتضيه الفطرة ولا يأباه العقل. وهذا أسلوب قرآني متكرر، في تعليم الناس بمواقف وأقوال الأنبياء في القضايا الخطيرة، قضايا الاعتقاد، مع استحضار عصمة الله أنبياءه، من تلك المواقف، في ذواتهم وأقوالهم ومواقفهم، لكنّها تخدم التعليم والتوجيه في أعلى المستويات وأحزمها. ويشبه هذا خطاب الله لنبينا (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) و (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)، وهو عليه السلام المؤتمن على التوحيد والوحي، والمأمور بتبليغهما.
ويقول الشيخ السعدي في تفسيره تعليقا على حوار إبراهيم عليه السلام: (إنّ المقام مقام مناظرة، من إبراهيم لقومه، وبيان بطلان إلهية هذه الأجرام العلوية وغيرها. وأما من قال: إنّه مقام نظر في حال طفوليته، فليس عليه دليل).
ولا بد، استكمالا لطريقة أبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام في تعليم الناس، وتأكيدا لنفي أي شك كان يساوره، من تذكر الحديث المتفق عليه: (نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ (رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِى الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى) قَالَ: وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَلَوْ لَبِثْتُ فِى السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِىَ).
ولقد فُهم بشكل خاطئٍ من كثيرين. والصواب أنّ نبينا عليه الصلاة والسلام أراد أن ينفي الشك عن إبراهيم عليه السلام بأسلوب قوي الإقناع، قائلا ما كان إبراهيم عليه السلام شاكا، ولو كان الشك طارئا على قلبه، لكُنّا نحن، يقصد نفسه وأمته، أولى وأحرى أن يصيبنا ذاك الشك. ولما كنا بعيدين عن ذلك بما هدانا الله، فأبو الأنبياء أشد بعدا، وأقوى يقينا .. ولنتذكر ما قاله ربنا تبارك وتعالى في حق إبراهيم عليه السلام (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
ويقول السعدي رحمه الله في تفسير الآيات، التي هي موضوع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في نفي الشك عن أبي الأنبياء عليه السلام: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). يقول رحمه الله: (وهذا فيه أيضا أعظم دلالة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث والجزاء، فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين، فلهذا قال الله له: {أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان ويسعى في نيله أولو العرفان، فقال له ربه {فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك} أي: ضمهن ليكون ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك. {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا} أي: مزقهن، اخلط أجزاءهن بعضها ببعض، واجعل على كل جبل، أي: من الجبال التي في القرب منه، جزء من تلك الأجزاء {ثم ادعهن يأتينك سعيا} أي: تحصل لهن حياة كاملة، ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران، ففعل إبراهيم عليه السلام ذلك وحصل له ما أراد وهذا من ملكوت السماوات والأرض الذي أراه الله إياه في قوله {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين}).
هذا، والله أعلم، ورد العلم إليه أسلم، والحمد لله على نعمائه…