عنَّ لي أن أقف مع هذه الآية، وأن أطيل الوقفة .. فالآية في معرض الحديث عن الطلاق ونشوز المرأة قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
والذي استوقفني، ما علاقة الحديث عن أمر الشح، في معرض الخلاف بين الزوجين، ومع دخول أطراف التحكيم من أقرباء الزوجين؟
جاء الأمر بالإصلاح في قوله تعالى: (أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا) وهنا الخطاب إما للزوجين أن يصلحا بينهما، أو أن يصلح بينهما أقرباؤهما، والمعنيان واضحان.
(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)، نعم، الصلح دائماً لا يأت إلا بالخير، لأنّه يَذهب بسخائم النفوس، ويُظهِرُ خَيِّر الأخلاق في النفس البشرية، وهو التسامح. وأهل القانون لهم عبارة: (صلحٌ خاسرٌ، خيرٌ من دعوى رابحة)، فَلَأنْ يُصالح المسلم خصمه، وخاصة المسلم، ويكون خاسراً، أفضل من أن يسير في دعوى قضائية ويربح فيها. لأنّ الدعوى القضائية تنم عن خصومة، وملاحاة، ورغبة في المعاداة، أما الرضا في الصلح، ولو كان فيه شيئٌ من الخسارة فهو خلق كريم، ونفس سمحة. وما دامت القضية تتعلق بالأخلاق الشخصية، جاءت الآية: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) والشح هو البخل، ومن العلماء من ميز بين الشح والبخل، ويصح أن نقول أنّ الشح أشد درجات البخل.
فما علاقة البخل هنا بالصلح؟
غالباً حينما يكون خلافٌ زوجيٌ، ومن أبشع الصور، وخاصة إذا دخلوا في مرحلة الحكمين، وكان رأي الحكمين الذي أُبْلغ للقاضي، أنّه لا يمكن أن تستمر وتستقيم بين هذين الزوجين حياة زوجية، فالأولى الفراق. وعندئذ يبدأ القاضي ترتيب الحقوق المالية بين الزوجين. وهنا يصبح الطرفان من أهل الزوجين جبهتين متحاربتين، كلٌ يريد أن يوقع أكبر قدر ممكن من الخسارة المالية في الطرف الآخر، مادام خسر معه المعركة المعنوية .. ويكون الزوجان، في هذه المرحلة، بين المطرقة والسندان، وهما لم يعودا يفكران إلا بالخلاص، ونشدان الراحة في الطلاق، وهما في وادٍ وأهلهما في آخر .. أما الأطفال، فيا حسرة عليهم، هم في الحقيقة الطرف الخاسر حقيقةً، والضائعُ يقينًا. وتأخذ القضية سنين طويلة في المحاكم. كل يؤجل المحكمة إضرارا بالآخر. وليس لذلك من سبب منذ البداية، إلا شُّحّ الأنفس. وهذا ما أكدته الآية: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ).
ونتيجة أبحاث في هذا الموضوع، تبين أنّ الشُّحَّ لدى الإنسان ليس بالمال فقط، فالشُّحُّ خلق ذميم، وهذا الخلق الذميم يجعل الإنسان يبخل ليس فقط بالمال، بل يبخل بالكلمة الطيبة أيضاً، يبخل بالابتسامة، يبخل بالأشياء المعنوية وكل ذلك يسمى شحا. ولا شك أنّ الآية السابقة تغطي كل ذلك.
فالله عز وجل، قال كلمة حملت الإنسان من التكاليف ما لا يمكن الإحاطة به، ولو في مجلدات كبيرة .. قال تعالى: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ).
هل نستطيع أن نحصي إحسان الله على بني آدم؟ لا .. إذاً الله أمرنا أن يكون إحساننا لبني جلدتنا كإحسانه لنا، إذاً مسؤولية كبيرة حملها بنو آدم تجاه بعضهم بعضاً، يوم خاطبهم ربنا بهذه الآية، فنِعم الله علينا ليست بالمالية فقط، وإنّما هناك نعم معنوية كثيرة.
فإنسان خوطب من خالقه: (وَأَحْسِنْ…) ، فكيف يكون في نفسه للشح مكان، يضن بكل شيء حتى بالابتسامة وحتى بالكلمة الطيبة فأين هذا المخلوق من، من أخلاق الإسلام؟
ففي الخلاف الزوجي شح مالي، وشح معنوي، كل يريد أن يحطم الطرف الآخر، هذا الشح حوّل عملية الشقاق بين الزوجين الذي يمكن أن يحل بــمنطوق ومفهوم الآية (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، و (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)، إلى كارثة تهدم علاقة بين أسرتين إلى أجيال مقبلة..! ويعجبني عند أكثر السعوديين، أنّ الرجل إذا طلق يبقى على تواصل مع أهل مطلقته، ويتزاورون.
إذاً يجب علينا أن نعالج قضية الشح .. فقد رُكب في الإنسان حب التملك، حب الأنا، فحينما يزيد عن حده الطبيعي يصبح شحاً، يضن بكل شيء على الطرف الآخر فتصعب الحياة مع الشح، وتعارض قول الله عز وجل: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ).
وحتى لا أطيل، وحتى نبين كيف عالج الإسلام قضية الشح، ما يدل على أنّها ليست قضية مالية فقط، هناك مجموعة من الأحاديث تبين أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أعطى بعض الأعمال السلوكية بين الناس معانيَ شرعية مثل معنى الصدقة، ومعنى المعروف.
. عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ).
هل هناك في ثقافة الأمم الأخرى مثل هذا الكلام؟! فالمعروف هنا في الحديث قضية شرعية وأخلاقية، فأن تلقى أخاك بوجه طلق معروفٌ كبيرٌ تصنعه، وأنت لم تقدم غير الابتسامة.
. (وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ).
. (لا تحقِرنَّ شَيئاً من المعروفِ أن تأتيَه؛ ولو أن تؤنِس الوَحشان بنفسكَ).
وهو أن تعلم أن هناك أخاً لك عنده مشكلة فتخرج من بيتك تنوي المعروف بأن تؤنس الوحشان .. فالمؤانسة ليست بالمال، وإنما هي أمر معنوي نفسي .. فالإسلام حرص على قضية الخلق والتعامل، وجعلها من الدين. قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا).
. (لا تحقرن شيئا من المعروف ولو أن تلقَى أخاك المسلمَ ووجهُك بسطٌ إليه). وفي حديث آخر: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيك صَدَقَة).
وقد يكون هذا العمل أكبر من الأمور المادية، لأنّ التبسم في وجه أخيك يحدث علاقة طيبة، فالمجتمع كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: (كالجسد الواحد)، فكيف يكون هذا المجتمع كذلك إلا بأخلاق كهذه .. نحن الآن ما هزمنا في ميدان القتال، إلا لأنّنا مهزومون قبل ذلك في أخلاقنا، فقد فهمنا الدين صلاة وصياما وحسب، وتركنا الجانب الأخلاقي كلياً.
من هنا أحببت أن أدخل من خلال الحديث عن الشح، إلى أنّ الشح ليس بالمال فقط، وإنّما بترك التعامل الأخلاقي مع الناس، وهو ما يمكن أن نغالبه بالابتسامة والمودة والمعروف، وهذا الذي يعاني منه المسلمون اليوم، وعلى رأسهم أهل سوريا، وجاءت المصيبة ولم تغير حالهم، بل هُم إلى الأسوء.
. (وأمرك بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَة، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَنَصْرُكَ الرَّجُلَ الرَّدِيءَ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ عَن الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ).
إذاً الشح الذي جاء في الآية، والذي يُعقد الخلاف بين الزوجين كثيرا، سببه شح مادي، وشح أخلاقي .. وأرجع لأذكر بقوله تعالى: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ). هل تستطيع أيها المسلم أن تحصي إحسان الله عليك؟ الجواب: لا. كذلك يجب ألا نضن بالإحسان إلى الخلق. طاعة لله وعملا بما أمر، وإلا فلسنا مسلمين .. فالشح له ارتباط أخلاقي تؤكده الأحاديث السابقة.
وأتذكر مما حفظته في الصغر، قصيدة من أروع ما قيل في الشعر، لا زلت أرددها وأسمعها من حولي، وهي لشاعر مهجري اسمه إيليا أبو ماضي، عنوان القصيدة: التينة الحمقاء…
وتينة غضة الأفنان باسقة |
قالت لأترابها والصيف يحتضر |