تمام الآية: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
الآية حوار بين أهل الإيمان وأهل النفاق، وقد افترقت بهم المنازل في الجنة والنار. ولقد حددت الآية الكريمة أنّ مَن اختار لنفسه تلك المعاني، وسار على ذلك الطريق، فالمآل إلى النار.
ولقد ذكرت أكثر من مرة، فيما كتبت، أنّ مُعترضاً اعترض علي فقال: إنك تستشهد بآيات نزلت في الكفار أو المنافقين، على حال المسلمين، وكان ردي القاعدة الأصولية: (العبرة بعموم اللفظة لا بخصوص المناسبة)، وهذا من إعجاز النص القرآني، واتساع رقعة تطبيقه، وإنّ في تقييد النص القرآني بالمناسبة، وسبب النزول، تعطيلاً كبيراً له، وإبعاداً عن ساحة التطبيق الواسعة.
قرأت آية الحديد فوجدتني مشدوداً لهذه الألفاظ: فتنتم أنفسكم، تربصتم،ارتبتم، غرتكم الأماني.
وبدأت أسائل نفسي بعد أنْ راجعت أقوال المفسرين في تلك الألفاظ، أليست لصيقة بواقع المسلمين اليوم؟ وأجبت نفسي: بلى! وها أنذا أُحدثكم بحديث نفسي:
(فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُم): ما المعنى الذي يمكن إعطاؤه لفتنة النفس، وهي مما حل بالمسلمين. لا أريد أن أبتعد عن ما أنزل الله، بل آتي بالمعنى مُقتبساً من نص قرآني آخر (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا). لقد سمى الله تبارك وتعالى الزحزحة عن الالتصاق بالوحي فتنة، وحذّر أول ما حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيها تعليماً وتحذيراً للأمة. وسيان أن تكون هذه الفتنة (الزحزحة عن الوحي) بفعل الغير أم بفعل النفس، بل هي بفعل النفس أشد وأخطر. أوليس صحيحاً أنْ يُقال لمسلمي اليوم: إنّكم فتنتم أنفسكم يوم ارتضيتم سماع المغرضين، يغرونكم بعلل شتى بمفارقة الوحي! تارة بالعقل، وأخرى بالواقع، وبالعصرنة، وبالاستنارة، وبروح العصر، وبالتيسير، وباستحضار المقاصد لتُزاحم تطبيق النص، وبتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان، وبالنظرة الواسعة، ومراعاة حدودية النص وليس حديته، وووو. وتلك الدعوات مصدرها أعداء الإسلام والمسلمين، وبعضها، ويا للأسف تخرج من مسلمين، بلْ من بعض علماء أو طلبة عِلم مسلمين. وما الذي أزرى بأمة الإسلام وغيّبها وجعلها غثائية بل محتضرة إلا البعد عن الوحيين أو الفتنة لتركهما. ولا أُريد أن أدخل في تفاصيل الدعوات السابقة، التي هي سبب الفتنة، ومصادرها، والتمثيل لها فذلك أمر يطول. وأُؤكد أنّ إسقاط عبارة (فتنتم أنفسكم) على حال مسلمي اليوم، ينال الأفراد والجماعات، والأمة كلها.
(وَتَرَبَّصْتُمْ): جاءت هذه اللفظة في كتاب الله مرات، وهي بمعنى الانتظار والتأخير مثل قوله تعالى: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) و(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) و(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) و(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ).
وما هو المعنى الذي يمكن فيه إسقاط التربص على حال المسلمين اليوم؟
إنّه تأخيرهم للتوبة، وبطؤهم بالأوبة إلى الله، وإلى حمى الوحيين. وقديماً قالوا: (ما أكثر العبر وأقل الاعتبار!). ولقد نزلت بالمسلمين نوازل حلت بدنياهم، وأفسدت بسوء تعاملهم معها أخراهم، وهم إلى الآن عاجزون عن أي فعل، ينتظرون بل يتربصون فماذا ينتظرون؟ سؤال مهم يُطرح على الناس الشاردين عن الوحيين، الهائمين على وجوههم في السبل المتعددة التي تفرقت بهم عن سبيل الله. هل لديهم إجابة تقنع، وتبين ماذا ينتظرون، أو لماذا يتربصون. لقد سأل الله تبارك وتعالى الناس في كتابه الكريم مرات، وهو جلّ وعلا يجيبهم الإجابة التي يفرون منها، ولنستعرض للعبرة:
. (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ)
. (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
. (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
.(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
يُجيب الله الناس بعد طرح السؤال عليهم إجابة واحدة أنّهم ينتظرون أمر الله، وعذاب الآخرة.
(وَارْتَبْتُمْ): الريبة هي الشك، ولو تبصرنا في سياق الآية، موضوع البحث، وجدنا أنّ وصف الريبة متلازم مع الوصفين السابقين وهم فتنة النفس والتربص. لأنّهما يقومان على الشك بمغبة ما هم يفعلون، وعاقبة الحال التي عليها باقون، ولو كانوا على يقين بالعواقب لتابوا من فتنة أنفسهم ولم يؤخروا التوبة، أي لتابوا من (الفتنة) و(التربص). ومن صفات المؤمنين في كتاب الله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).
لقد نفى الله الريبة عند المؤمنين الصادقين، ونعت بها الكفار (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ويصفهم أيضاً: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ). ومن ارتاب في ما جاءه من عند الله، فماذا ينتظر؟
(وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ): وإذا دخل الشك النفس البشرية، والشك تكذيب، وأضاعت بالشك كل معاني الخير والنجاة، لم يعد يحركها وعد الله، ولا وعيده. فيصبح المستقبل من صنع الهواجس وأحلام اليقظة وسلطان الهوى، وكلّها أبنية يبنيها خيال عدم التصديق (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ). وكيف يكون غده، من كان في حاضره مفتوناً عن الحق، مؤخرا للتوبة، شاكاً بالثوابت والحقائق، أينتظر النجاح والفلاح، والسلامة والنجاة؟ لن يكون، بحكم منطق الأشياء إلا سابحاً في الخيال، هائما في الحركة، فاقداً للبوصلة يتمنى على الله الأماني وليس بمدركها. ومثل هذه الحال تكون مفتحة الأبواب للشيطان، يُدَلِّي صاحبها بغرور، حتى يأتي أمر الله.
لا أحب أن أتهم مسلماً، معاذ الله، إنّما أريد الإصلاح ما استطعت، وأُريد أن لا تمر بنا هذه الداهية الدهياء، والمصيبة العمياء، أعني غزو الصفويين سوريا، وهو في حقيقته غزو أمة الإسلام، وتحقيق حلمٍ، ما يزال الروافض يعملون ويخططون ويسهرون لتحقيقه فينا، ونحن نائمون، وما نزال. إضافة إلى تماليء أهل الأرض، في بطء الحركة لكسب الوقت، وعدم الجدية في الأخذ على أيدي المجرمين. كما مرّ سوابق لها، فهي الأدهى والأمر، حتى الآن. وأُريد أن يخرج المسلمون من شرنقة المعالجة للأزمات، بمنطق تبريري، هروباً من اتهام الذات، وإلقاء التبعة على الأعداء، وأن نُقدم حالنا دوماً على أننا المظلمون والضحية، فنحن لا زلنا بردود الفعل نتحرك، لأنّنا لا فعل لنا. ومن إدبار حال المسلمين أنّهم صاروا يستجدون الرحمة بهم من عدوهم، ويُريدونه أنْ يكون معهم منطقياً عادلاً رحيماً، وهو منطق ومنطلق لم يسمع به التاريخ بعد. ولم سُمي عدوا إذن؟
ليس في ما كتبت تجنٍ.. وليس هو اتهام.. ولا تعتريه قسوة.. ولا روح انتقام .. إنّما هو حب وإشفاق وحرص ونصح، لعله يحدث فينا، ولو مرة واحدة، حالة انتصار على النفس. ومن انتصر على نفسه فتح أمامها أبواب الانتصار على كل ما يسوء … والحمد لله رب العالمين